صالون الصريح

محمد صالح مجيٌد يكتب: أمٌي …قلبي الذي صمت..

Mohamed Salah Mjaied
كتب: محمد صالح مجيٌد

لا شيء يربطني بقريتي الآن…مات اهلي ودٌعتهم وداعَ مَنْ دفن روحه معهم..ولم تبق لي من قرية عشت فيها سنين عمري واحببتها، إلٌا مقبرة اطلٌ منها على أحبابي الذين فقدتهم..

نعم..أرى قبري

وحيدا اتسلٌل إلى مقبرتي “الجبٌانة” التي لعبت فيها صغيرا كرة القدم وجريت فيها مع أترابي بين القبور، أمشي حاثٌا الخطو لموعد مع اهلي الذين رحلوا وابوا إلا أن يحفظوا اسمي معهم..نعم أنا الوحيد في العالم الذي يزور المقبرة ليرى قبره ويرى اسمه مكتوبا على رخامة قديمة..هذا ضريح محمد صالح مجيٌد…

واعجب لشمس القرية الحارقة أتت على كل شيء إلا على اسمي ظلٌ واضحا يذكٌرني بـ نومتي الأخيرة…الميٌت الجاثم في القبر هو جدٌي الذي غادر الدنيا سنة1959 والميٌت المنتظر الواقف على القبر هو الحفيد الذي حمل اسم جدٌه فعرف مكان قبره..إن هي إلا رفعة للحجارة عندما يحين الأجل والحفرة جاهزة…

رحلت جدٌتي

ماتت جدٌتي التي آوتني من جوع وآمنتني من خوف واثٌثت ايامي ولياليٌ وعمٌرت طفولتي بروائح الحب الصادق…غاب وقع عكٌازها الذي كانت تضرب به الأرض في رحلتها اليوميٌة إلى منزل ابن اخيها “البْشِيرْ” واختها “العميِي” ورحل معها “بخنوقْها الأبيض الذي كثيرا ما رايته يلامس الأرض بسبب تقوٌس ظهرها وغابت روائح صيدليتها المفتوحة وأعشابها الطبيٌة التي تشفي كلٌ مرض..

مات أصغر الإخوة عمي محمود صغيرا بعد ان اكل منه الوحش جسدا ورأيته يموت يوما بعد يوم بثبات وصبر، ثم مات عمٌي علي بعد ان ملأ القرية صخبا ومات ابي بعد رحلة حياة عاش فيها بأنفة وبشخصية قوية لم تهزمها الأيام…صغيرا كنت انزعج من صرامته وأدركت كبيرا سرٌ هذه القوٌة…

ثم مات أبي..

مات ابي الذي نصحني بأن استقرٌ في مدينة الشمال، ولم يعلم انٌ ابنه أصبح مديرا لإعدادية القرية مواصلا مسيرته التي انتهت به مديرا لمدرسة القرية الابتدائية ..اشتركنا في الصرامة والرغبة في ضبط الأمور فنلتُ من الكره والحقد ما ناله هو وواجهه بقوٌة شخصيته..

امٌي جرحي النازف

ثم ماتت امٌي جرحي النازف الذي لم يندمل وقلبي الذي صمت…لم تترك لي وفاة امٌي فرصة التماسك.. لم أجد. توازني بعد ولم اتصالح مع غيابها كما تصالحت مع غياب جدتي التي أستعيد بالكتابة حياتي معها …لم اشف من موت امٌي .. الأرض من حولي خواء… لم اشف من موت امي انا ابن امٌي..لم اتحمل غيابها واعجب لصغيرها الذي هو أنا كيف استعاد الوقوف بعد رحيلها!!؟؟…
انا ابن امي أرى الدنيا بعينيها، انا ابن امي المرأة المسالمة التي لا تؤذي…الزوجة التي عاشت حياتها خائفة من غضب زوجها والأم التي تتفانى في تجنٌب غضب ابنائها..
أنا ابن امي.. نعم ابن امي التي لا ترفع صوتها عند الغضب خشية ان يسمعها ابي ..أنا ابن أمي التي أنجبت ثمانية أطفال وعاشت في خدمتهم إلى أن غادرت الحياة ولم تطلب منهم شيئا…
نعم انا ابن امي التي تنتظرني كلٌ يوم لأشاركها فطور الصباح مغمٌسا في أحاديثها التي لا تنتهي… أنا ابن أمي التي لا ترى اليوم في غيابي لسفر قصير …لم اشف من رحيلها انا الكهل المطلٌ على المنعرج الأخير من العمر…
أزعم وزعمي يقين، انها،كعادتها، لمٌا التقت بملك الموت لم تطلب السلامة لنفسها ..بل طلبت منه ألا يؤذي ابنها الصغير لأنه مهما فعل يظل صغيرا لا يُحاسب على أخطائه مهما عظُمت…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى