صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: أزمة المشروع الديمقراطي أو هل مازال الحديث عن الديمقراطية ممكنا؟

slama
كتب: نوفل سلامة

اليوم هناك إجماع بين رجال الاقتصاد والمنظرين الاقتصاديين على فشل كل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المتبعة، وهناك اتفاق بينهم على ربط هذه الخيارات بأزمة المشروع الديمقراطي القائم على ما وعد به النظام الليبرالي من توفير الشغل وتحقيق الاستقرار في العمل والتقليل من نسب الفقر والبطالة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي للأسر والأفراد وضمان قدر من مستوى عيش محترم لأغلب المواطنين يحقق لهم كرامتهم وإنسانيتهم…

أفضل فكرة سياسية؟

لكن هذا المشروع الديمقراطي الذي بشّر له منظروه على أنه أفضل فكرة سياسية وصل إليها العقل البشري لإدارة الاختلاف وتحقيق الرفاه للشعوب، لم يصمد طويلا في الوفاء بوعوده التي وعد بها من آمن به ولم يصمد لأكثر من أربعة عقود من الزمن ولا تجاوز النصف قرن حتى ظهرت عيوبه ومشاكله وبدأ الضعف يدب في أسسه..
فرغم أن الدول التي خرجت من الاستعمار والدول التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية في دول وطنية حديثة، قد حققت قدرا من الرفاه وحلم العيش الكريم وتوفير مساحة كبيرة من العمل ومواطن الشغل مما أمكن تحسين حال الأفراد والوضع الاجتماعي للكثير من الشعوب إلا أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي عرفتها حقبة الثمانينات من القرن الماضي قد خلخلت أسسه وبدأ قصور هذا المشروع يظهر…

تراجع الحلم

ومن هنا بدأ الحديث عن تراجع حلم المشروع الديمقراطي عن مواصلة تحقيق وعوده وضمان بقائه والمحافظة على ما حققه من مكاسب وبداية من سنة 2008 ـ 2009 دخل هذا المشروع الديمقراطي في أزمات متتالية جراء تراجع فرص الشغل وتقلص فرص العمل واتساع رقعة البطالة وتنامي مظاهر الشعور باليأس والعجز، وعادت نسب الفقر إلى الارتفاع حتى أصبحت ظاهرة عامة تعرفها كل الدول وصلت إلى الدول المتقدمة التي تضررت هي الأخرى من أزمة النمو الاقتصادي التي عرفها العالم…

أزمات متتالية

هذه الأزمات المتتالية التي عرفها المشروع الديمقراطي والتي تواصلت مظاهرها حتى يومنا هذا، قد دفعت الشعوب إلى البحث عن آليات جديدة لضمان العيش وطرق أخرى لتيسير حياتها وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وبدأ الشك في قدرة هذا المشروع على الاستمرار وعلى الصمود أمام ما يعترضه من تحديات، ومنذ تلك اللحظة دخل المشروع الديمقراطي الذي وعد بتحقيق مساواة اجتماعية دائمة وعدالة اجتماعية لا تراجع عنها وقد زادت الجائحة الوبائية التي عرفها العالم وانتشار وباء كورونا في تعميق أزمته وما خلفته من تداعيات على اقتصاديات العالم وما تسببت فيه من غلق للمصانع والشركات وتسريح العمال ودخول أعداد كبيرة من العمال في بطالة قسرية من دون أن يلقوا مرافقة أو مساندة من الدولة التي أظهرت مؤسساتها وهياكلها وبرامجها ونظامها الديمقراطي عجزا كبيرا في احتواء أزمة الوباء ومخاطر الجائحة…

هذه الأزمات المتفاقمة التي عرفها المشرع الديمقراطي قد انتجت أزمة ثقة كبيرة في الأحزاب السياسية التقليدية وقدرتها على تقديم الحلول وعدم ثقة أخرى في دور منظمات المجتمع المدني، وأزمة ثقة في كل الوسائط من إعلام ونقابات وغيرها وبدأت تظهر أشكال جديدة للمطالبة بالحقوق والتعبير عن الغضب الاجتماعي من خارج الأطر السياسية التقليدية وظهرت حركات احتجاجية شارعية غير مؤطرة حزبيا صاحبها صعود التيارات الشعبوية وعودة الأحزاب القومية بمرجعياتها التي تدافع عن الهوية وكل ما هو محلي وذاتي وثقافة خصوصية…

سؤال حارق؟

أمام هذا التحول الكبير كان السؤال الذي فرض نفسه هو: هل مازال الحديث عن الديمقراطية كما ظهرت في أدبيات الأباء المؤسسين للدولة الحديثة ومشروعها الديمقراطي ممكنا؟ وهل ما زالت الثقة في قدرة المشروع الديمقراطي على التدارك وتجاوز مصاعبه والعودة إلى وعوده الأولى التي قطعها متاحة وممكنة؟
وهل تتوفر لهذا المشروع من عناصر القوة ومن مقومات الصمود لأن يتجاوز أزمته التي أضرت كثيرا بصورته أمام الشعوب باعتباره أفضل ما وصلت إليه البشرية لإدارة الشأن العام؟

هواجس فكرية

يرصد الكاتب ووزير الاقتصاد الأسبق الأستاذ حكيم بن حمودة كل هذا القلق وهذه الهواجس الفكرية والتي هي اليوم محل نقاش معمق في صفوف السياسيين وخاصة رجال الاقتصاد في مقال له نشر منذ أيام معتبرا: ‘أن أحد أسباب أزمة المشروع الديمقراطي تكمن في تخلف رجال الاقتصاد عن المشاركة في الشأن العالم واستقالة الاقتصاديين عن المساهمة في الشأن السياسي والاكتفاء بالتنظير الاقتصادي لا غير تاركين الحكم للسياسيين وحدهم وهذا الخيار قد أضر بالمشروع الديمقراطي الذي لا يمكن أن يقوم من دون عماد اقتصادي ولا رافعة اجتماعية ولا يمكن أن تنجح الفكرة الديمقراطية بالحريات فقط و الديمقراطية الشكلية وآلياتها الانتخابية لا غير من دون توفير قدر من العيش الكريم والاستقرار الاجتماعي الذي يتحقق بوجود مواطن الشغل وضمان عمل قار وعدالة اجتماعية نافذة وحقيقية وقدر معقول من الخدمات الاجتماعية التي توفرها دولة الرفاه وما وعدت به.

ويضيف القول : إن نقاش الاقتصاديين في الفترة الأخيرة قد انتهى بالتأكيد على طبيعة المشروع الديمقراطي والسياسات التي يجب وضعها للخروج من كل الأزمات المتواصلة التي كبلته وضرورة إعادة بناء الثقة في المشروع الديمقراطي رافعة للنمو والازدهار والعيش الكريم وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية وأن هناك اتفاق بين هؤلاء الاقتصاديين على ضرورة الخروج من السياسات النيوليبرالية التي هيمنت على البرامج الاقتصادية منذ حقبة الثمانينات وضبط تصورات جديدة تحقق النمو المطلوب و الاندماج الاجتماعي مع ضرورة التوقف عن اضرار كوكب الأرض والحد من أزمة المناخ وتحسين الوضع البيئي ركيزة كل مشروع تنموي مستقبلي . ”

خيارات جديدة

ما يحتاجه المشروع الديمقراطي حتى يستعيد إشعاعه وثقة الشعوب فيه تقديم خيارات جديدة تنهي حالة التوتر والغضب التي تعرفها الشعوب وقادت بعضها إلى ثورات على منظومة الحكم وعلى فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة.
ما هو مطروح اليوم على المدافعين على المشروع الديمقراطي من الذين يعتبرون أنه لا بديل في الوقت الحاضر عن هذا النظام رغم كل الهزات التي تعرض لها وكادت تعصف بكل أركانه هو اقتراح خيارات اقتصادية جديدة تحقق التوازن الاجتماعي المفقود وتعيد الثقة في هذا النظام وهذا المشروع الذي يبقى هو الأفضل للإنسانية.
هذا نقاش مهم يدور اليوم في الغرب وتعرفه منابره الفكرية يقوده رجال الاقتصاد كانوا في السابق قد تخلوا عن مساهمتهم في الحكم والمشاركة في المجال السياسي فكان خروجهم من عالم السياسة مضرا للمشهد والمشروع الديمقراطي واليوم نشهد عودة لهم في النقاش العام لإنقاذ هذا النظام وهذا المشروع كأفضل خيار قادر على إسعاد الإنسان وإسعاد الإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى