هادي دانيال يكتب: منظومة ‘البريكس بلس’ خيار الإنسانية الاستراتيجي في مواجهة التوحّش

كتب: هادي دانيال
في وقت يشهد محاولات الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل المتوحّشة لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية لمنطقتنا والتحكُّم بثروات ومصائر شعوبها تتجه الأنظار ببصيص أمل إلى قمة مجموعة بريكس بلس التي ستنعقد في الفترة بين 22 و24 أكتوبر 2024 في مدينة كازان الروسية..
القمة ستلتئم بمشاركة رؤساء البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا وغيرهم من رؤساء الدول المعنية بهذه القمة التي انضمّت إليها أيضاً السعودية، الإمارات، مصر، إثيوبيا وإيران. بينما أبدت أكثر من أربعين دولة عبر العالم رغبتها بالانضمام إلى هذا التكتل الاقتصادي العالمي الذي يُعَوَّلُ عليه لِكَسْرِ هيمنة الغرب على مقدرات البشرية ولإنهاء نظام القطب الواحد الذي تطغى به واشنطن على المشهد السياسي الدولي، ولكي تُصبح مجموعة البريكس بديلا جيوسياسيا للمجموعات الغربية على غرار “مجموعة السبع”(G7) التي تستحوذ على 60% من الثروة العالمية.
عالم متعدّد الأقطاب
ذلك أنّ الذي يحدو هذه البلدان كي تنضم إلى مجموعة “بريكس” رغبتها في الاستفادة من المميزات الاقتصادية والسياسية التي تؤمّنها، إذ تسعى جميع الأعمال بِمُنتَجاتِها إلى أسواقٍ واستثماراتٍ جديدة، وكذلك تبحث عن عالم متعدّد الأقطاب يَنْعَم فيه الاقتصاد العالمي بحالة من التوازن ولا تبسط عليه دُوَلٌ أو مجموعة بعينها سيطرتها عليه.
وذلك من خلال التركيز على تحسين الوضع الاقتصادي العالمي وإصلاح المؤسسات المالية وحلّ قضايا إمدادات الغذاء وتحسين مستوى معيشة الشعوب، وكذلك بمناقشة الكيفية التي يمكن بها لبلدان منظمة البريكس أن يكون التعاون فيما بينها مُثمراً باضطراد الآن ومُستقبلاً، فتتمكّن من آليّاتٍ اقتصادية تضع حدّاً لِهَيمَنة الدولار لصالح العملات الوطنية في ظلّ الارتفاع المشط والمستمر لتكلفة الاقتراض بعمْلة العمّ سام. وفي هذا السياق أنشأت منظمة البريكس “بنك التنمية الجديد” (New Development Bank) واختصاره “إن دي بي” (NDB)، وصندوق احتياطي في شنغهاي “اتفاقية احتياطي الطوارئ” (Contingent Reserve Arrangement) واختصاره “سي آر إيه” (CRA).
والدور الأساسي لهذا البنك الذي انضمت إليه الجزائر والأورغواي وبنغلادش، إضافة إلى الدُوَل الأعضاء، هو مَنْحُ قروض بمليارات الدولارات (بانتظار الاتفاق على عملة جديدة وموحدة تعتمدها دُوَلُ البريكس كافة) لتمويل مشاريع البِنى الأساسية والصحة والتعليم، وما إلى ذلك، في البلدان الأعضاء بالمجموعة، وكذلك البلدان الناشئة الأخرى. أمّا الصندوق الاحتياطي، فهو إطار لتوفير الحماية من ضغوط السيولة العالمية.
مواجهة التحديات
وإذا كانت القِمَمُ السابقة لمجموعة البريكس، قد ناقشت واتخذت قرارات بشأن خطة “بريكس بلس” التي تهدف إلى توسع المجموعة المحتمل، وإقامة تعاون اقتصادي متزايد في بيئة اقتصادية دولية مُتغيّرة، على خلفية الفشل الذي عرفته قمة مجموعة السبع الصناعية الكبرى، أو التطوّرات في مجالات العلوم والابتكار لدول بريكس، وأيضا تطوير التكنولوجيا والعمْلة الرقمية، أو الالتزام بتعدديّة الأطراف وتعاون الدول ذات السيادة من أجل تعزيز الأمن والسلام على مستوى العالم…
أو اتفاقا متبادلا حول مساعدة الدول الأعضاء لمجموعة بريكس من أجل مستويات معيشة أحسن وتحسين مستوى معيشة شعوب هذه الدول، فإنّ دُوَلَ البريكس “قادرة على تقديم مساهمة جديّة بشكل مشترك، لضمان الأمن العالمي ومواجهة التهديدات، مثل الإرهاب وانتشار الأنشطة المتطرفة والجريمة العابرة للحدود، واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأغراض إجرامية” على حدّ تعبير “سيرغي شويغو” أمين مجلس الأمن الروسي، وباعتقادنا قادرة أيضاً بل مُلزَمة بتصفية أشكال الهيمنة والاستعمار المُباشر وغير المباشر وفرْض حقّ تقرير المصير والسيادة للدول وشعوبها على ثرواتها البشرية والطبيعية فوق وتحت ترابها الوطني.
نمو اقتصادي شامل
فأهدافُ منظومة البريكس في السعيِ إلى تحقيق نمو اقتصادي شامل للقضاء على الفقر ومعالجة البطالة وتعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، وتوحيد الجهود لضمان تحسين نوعية النمو عن طريق تشجيع التنمية الاقتصادية المبتكرة القائمة على التكنولوجيا المتقدمة وتنمية المهارات، والعمل على زيادة المشاركة والتعاون مع البلدان غير الأعضاء في مجموعة بريكس، وتعزيز الأمن والسلام من أجل نمو اقتصادي واستقرار سياسي، والالتزام بإصلاح المؤسسات المالية الدولية، حتى يكون للاقتصادات الناشئة والنامية صوت أكبر من أجل تمثيل أفضل لها داخل المؤسسات المالية…
والعمل أيضاً مع المجتمع الدولي للحفاظ على استقرار النُّظُم التجارية متعددة الأطراف وتحسين التجارة الدولية وبيئة الاستثمار، والسعي كذلك إلى تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية المتعلقة بالتنمية المستدامة، وكذا الاتفاقات البيئية متعددة الأطراف، والتنسيق والتعاون بين دول المجموعة في مجال ترشيد استخدام الطاقة من أجل مكافحة التغيّرات المناخية، وتقديم المساعدة الإنسانية والحدّ من مخاطر الكوارث الطبيعية، بما يّشمل معالجة قضايا مثل الأمن الغذائي العالمي، والتعاون بين دول بريكس في العلوم والتعليم والمشاركة في البحوث الأساسية والتطور التكنولوجي المتقدم.
زخم جديد
هذه الأهداف ليس فقط من شأنها أن تُعطي زخما جديدا للتعاون الاقتصادي على مستوى العالم، بل إنّ هذا التعاون سيكون من نتائجه أن يفوق الناتج الإجمالي لمجموعة بريكس بلس في 2030 الناتج الإجمالي لمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، الأمر الذي يُفضي حتماً إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث توجد أكثر من مجموعة أو كتلة، وبالتالي إلى تحوُّلٍ كبيرٍ في العلاقات الدولية، ليس فقط في المجال الجيوسياسي وإنما في الجيواقتصادي أيضاً، “لأنه عندما تكون هناك قوة أو مجموعة دُوَل موازية ذات ناتج قومي يفوق الدول السبع الكبار، سيتغير الثقل السياسي وينتقل من الغرب إلى الشرق” حسب خبير العلاقات الدولية “أيمن سمير”.
وبالتالي من الطبيعي أن تتسابق دول العالم إلى الالتحاق بمجموعة البريكس بلس، خاصة تلك التي تتضرر مباشرة أو بشكل غير مباشر مِن فرض الدول الغرْبية قواعدها الاستعمارية الهيمنيّة على المجتمع الدولي، و”مثل هذه القواعد تتعارض مع جوهر القانون الدولي، وهذا التآكل لنظام الأمن الدولي بأكمله يشكل تهديدا للدول ذات السيادة”.
التحرر من قبضة هيمنة الغرب
فأن ترغب دُوَلٌ مثل بنغلادش وكوبا وفيتنام وسورية وتونس بالانضمام إلى “بريكس بلس”، فذلك لأنها تريد التحرر من قبضة هيمنة الغرب الإمبريالي والوقاية من أطماعه الجشعة المتمثلة ليس فقط بالخطر العسكري والأمني بل بالخطر الاقتصادي الذي تمثله العقوبات الغربية العريقة وشديدة الأذى على حكومات وشعوب دول مثل كوبا وسورية وفلسطين، بينما تنضمّ دولٌ أخرى قوية اقتصادياً كالسعودية والإمارات وفنزويلا والجزائر إلى منظومة بريكس أو بنكها لأنّ ذلك يمكّنها من وضْعٍ أفضل عندما تتحرر من الهيمنة الغربية على اقتصاد العالم، فـ انضمام الجزائر مثلا إلى بنك بريكس حسب وزارة المالية الجزائرية “جاء نتيجة تقييم صارم” مشيرة إلى “الأداء الاقتصاديّ المتميّز الذي حققته الجزائر في السنوات الأخيرة، من حيث النمو الاقتصادي، بدعم من الإصلاحات متعددة القطاعات، وكذلك تصنيفها حديثا كاقتصاد ناشئ من الشريحة العليا”، و إنّ انضمام الجزائر، أكبر مصدر للغاز في إفريقيا، إلى البنك “يفتح آفاقًا جديدة لدعم وتعزيز النموّ الاقتصادي للبلاد على المدى المتوسط والطويل”.
تركيا أيضا
دُوَلٌ أخرى عديدة طلبت رسمياً الانضمام إلى البريكس نذكر منها الأرجنتين والبحرين وبيلاروسيا وبوليفيا وهندوراس وإندونيسيا وكازاخستان والكويت والمغرب ونيجيريا والسنغال وتايلاند، وحكومات بعض هذه الدوَل منحازة أو تابعة تاريخيا للسياسة الغربية، بل إنّ الأبرز في هذا السياق هو أنّ تركيا قدمت طلباً رسميّاً للانضمام الكامل إلى المجموعة، والعمل جارٍ على دراسة الطلب، وإن كان “هاكان فيدان” وزير الخارجية التركي رَدَّ ذلك إلى خيبة أمل أنقرة من عدم إحراز تقدم في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإنّ تركيا العضو القديم في حلف شمال الأطلسي، والتي تتمتع أيضاً بوضع مرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي منذ عام 1999، “عندما تتحرك نحو الانضمام إلى مجموعة البريكس سيعني الابتعاد عن النموذج الاقتصادي الغربي، بموازاة تحوُّل مركز الثقل الجيوسياسي من الاقتصادات المتقدمة إلى الاقتصادات النامية” حسب خبراء روس.
خيار استراتيجي
أخيراً، إنّ بلدانا على غرار تونس ما فتئ “البنك الدولي” أو “صندوق الدولي” يبتزانها بمحاولة التدخّل الفجّ في شؤونها الداخلية مقابل تلبية قرض متواضع نسبياً، كانت قد طلبته منهما، وهذا يحصل دائما مع جميع الدول النامية، وإن كانت تونس رفضت الإذعان لشروط البنك والصندوق الدوليين فإنّ دولاً أخرى وجدت نفسها تنتقل من حفرة إلى أخرى أوسع وأعمق مُثقلَةً بقروض الصندوق والبنك الدوليين وشروطهما وإملاءاتهما التي جرَّدَت تلك الدول من سيادتها وقرارها المستقل إن كان على مستوى سياساتها الداخلية أو سياساتها الخارجية، ولذلك من الطبيعي أن تجد هذه الدول ضالّتها بالانضمام إلى منظومة البريكس بلس، هذا الانضمام الذي يؤهّلها للحصول على التمويل من خلال “بنك التنمية الجديد” (NDB) التابع لها، والتمتع بمزايا عضوية “بريكس بلس” لتنمية تجارتها.
إنّ ما حصل ويحصل في سورية وفلسطين واليمن ولبنان والعراق وتونس وغيرها من دول المنطقة يجعل من منظومة البريكس بلس خيارا استراتيجيا لكل شعب أو دولة تحرصان على الاستقلال والحرية والسيادة الوطنية والعيش الكريم بعيدا عن مصالح الغرب المنافق وأطماعه وغطرسته وسياساته الاستعمارية المُغَلّفة بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وَقِيَم العالَم الحرّ المزعومة مِن واشنطن حتى تل أبيب، والتي خبرتْها شعوبنا حتى الموت ذبحاً وحَرْقاً وجوعاً وعَطَشاً بحروبِ الغرْب وحصاراته ولا تزال تواجه الترجمات الوحشيّة لتلك الشعارات والقِيَم في العراق وليبيا وسورية واليمن وفلسطين ولبنان.