صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب عن الراحل البشير بن سلامة: صاحب ‘عابرة هي الأيام’ كما عرفته

كتب: عيسى البكوش

فقدت الساحة الفكرية والأدبية علما من أعلام هذا البلد المعطاء ذي المعين الذي لا ينسـى… البشير بن سلامة ألحق بالرفيق الأعلى وسيبقى حيّا في عالم الأدب والعلم إن محليا أو كونيا…

فالرجل هو بمثابة الكائن الـمتعدّد المشارب الذي تحوّل بعد رحلة العمر المديد إلى كيان موسوعي سوف تستنير بوهجه أجيال الشباب التوّاق إلى منابع المعرفة والحكمة.

صاحب فضائل

واليوم وقد انقطع عمله الحسّـي فإنه ترك لنا مدوّنة ينتفع بها الناس، فإلى جانب رواياته ومن أشهرها عائشة التي كادت تتحوّل إلى تحفة سينمائية، ولكن الأقدار أو بالأحرى سخرية الأقدار حالت دون ذلك فهو صاحب فضائل لا يمكن إحصاؤها وتعدادها ولا يمكن تجاهلها إلا من طرف من كان بأذانهم وقر وفوق أعينهم غشاوة.
لقد كان ملازما لأحد أهمّ الفاعلين في الحياة الثقافية في تونس على امتداد نصف قرن وأعني به الـمنعّم محمد مزالي فتحمّل إلى جنبه وزر الـمجلة الرائدة “الفكر” منذ تأسيسها عام 1955 ولقد تفضّل أخيرا بإعداد فهرس لكل أعدادها حتى تكون وثيقة تاريخية لـ مسيرة الإبداع في هذه الربوع، ثم إنه منذ ذلك التاريخ وهو يرافق سـي محمد أينما وضعته إرادة الرئيس بورقيبة من مؤسّسة الإذاعة والتلفزة إلى وزارة التربية القومية ثم الوزارة الأولى.
لم ينقطع الفقيد عمّن كان يعتبره “الـمجاهد الأكبر” العضد الأيمن وكنا نعرف ما آلت إليه هذه “العروة الوثقى”.

مسيرة سياسية

لقد عرفت سـي البشير منذ سنة 1969 وهو في ديوان وزير التربية وكنت آنذاك أتحمل أمانة اتحاد الطلبة ولقد واكب الوزير وقتئذ حماسنا الفيّاض في الدفاع عن حقوق الطلبة والإفصاح عن مواقفنا من القضايا الحارقة ـ فلسطين والتعريب ـ ولا بدّ أن أذكّر هنا بأن الوزير مزالي هو الذي سخر لنا بورصة الشغل يــوم 09 فيفري 1970 ذلك اليوم المشهود الذي عبّرت فيه الجموع الطالبيّة عن رفضها لزيارة وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز  والذي آل فيما آل إليه إلى غلق الجامعة واعتقال عدد من مناضلي الاتحاد.
ثم كان لنا موعد آخر مع سـي البشير صحبة سـي محمد عند تنظيم أسبوع التعريب وقد غادر الاثنان الوزارة فحوصرت دار الثقافة ابن رشيق التي احتضنت فعاليات ذلك الأسبوع والذي تمّ إيقافه من طرف السلطة الحاكمة عقابا لنا وللمحاضرين الاثنين،
 ومن بعد ذلك تزامنت رئاستي لبلدية أريانة مع سـي البشير الذي حمّل وزر الثقافة فصال وجال في شتى مجالات الفعل الثقافي ولقد زارنا بتلك الصفة فاطلّع على حال الثقافة في مدينتنا ولم يكن جيّدا، وإنّي أستحضر زيارته لقصر برج البكوش في آخر عهدته وتعهّده بصيانته ولكن لم ينصفه الوقت إذ تعسّف الرئيس بورقيبة عليه إذ كان من بين ضحايا فيما عُرف بمسلسل ‘يوم الاثنين’ عندما خطّطت الحاشية لتصفية أعضاء الوزير الأول قبل إزاحة هذا الأخير في جويلية من سنة 1986. فبقي الوضع على ما كان عليه أي منذ أربعين عاما إلى يوم الناس على الرغم من زيارات كلّ الوزراء الذين تداولوا على الكرسـي من بعده.

“لم لا؟”

ولقد جال بخاطر منذ مدّة أن أقترح على القائمين اليوم على الشأن الثقافي إطلاق اسم الكاتب البشير بن سلامة على المكتبة المعلوماتية بأريانة الكائنة في الفضاء الخارجي للقصر ولقد طلبنا من أحد زوّار سـي البشير وهو الصديق علي بالعربي بجسّ نبضه في هذه المسألة ففاتحه منذ شهرين فأجاب بكل تواضع : “لم لا؟”
إن تكريم الأحياء من شيم أهل البرّ والعرفان ولكن لا تقل شئنا فإنّ القدر شاء…

لأنيّ لست أكاديمياّ…

في سنة 2015 أهداني الفقيد كتابه “عابرة هي الأيام” الصادر عن منشورات برق “تعبيرا عن ذكرياتي الأخوية وتقديرا لـ نضالك الـمتواصل”
في هذا الكتاب يبوح الكاتب “أنّه رجل كأيّها الناس قذفت بمركبه الأقدار في خضمّ اللحظة العابرة خائضا لجج الحياة الطامية”
لقد جالسته مرات عديدة إثر خروجه من عالم السياسة في عديد المحافل والمنتديات ولقد لاحظت غضبه الشديد عند محاولة البعض التغاضي عمّا قدّمه قبل الآخرين في محاور شتى وبالخصوص في محور ” الشخصيّة التونسية” وهو أوّل من نشر كتابا في القاهرة يتناول فيه هذه المسألة وكان يقول : “لا يذكرني البعض لأنيّ لست أكاديمياّ، وهو الذي أنشأ فيما أنشأ أكاديمية العلوم والمعارف “بيت الحكمة”. هذا علاوة على تجاهله في كل مؤتمرات اتحاد الكتّاب التونسيين وهو من مؤسسيه إلى جانب الرئيس الأول الأستاذ محمد مزالي.
وتلك حكاية أخرى
رحم الله الفقيد العزيز وأسكنه فراديس الجنان ورزق ذويه وأهل الثقافة في تونس وفي الوطن العربي جميل الصبر والسلوان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى