صالون الصريح

هادي دانيال يكتب: سيناريوهات تنفيذ خطّة تدمير الدولة الوطنية العربية لم تنْفد بَعْد!

كتب: هادي دانيال

هل نحن الآن، شُعوباً وحكوماتٍ عربيّة، بِصَدَد الإذعان المُطْلَق لإرادةٍ غربيّة صهيونيّة قرّرت ونفّذت خطّة شاملة تهدف إلى تدمير الدولة الوطنية في المنطقة العربية وتقسيمها اجتماعيا وجغرا سياسيا إلى دويلات فاشلة على أسس دينية طائفيّة وعرْقيّة انفصالية تدور جميعها في فلك دولة “إسرائيل اليهودية الكبرى” ووضعت لتنفيذ هذه الخطّة سيناريوهات متعددة؟…

غزو العراق أوّلا…

السيناريوهات المتعددة والمختلفة بدأت بغزو العراق واحتلاله وتحطيم الدولة الوطنية العراقية ونهب ثروات العراق وإفقار مواطنيه وتجريدهم من حقوقهم الإنسانية كافة وإشاعة فوضى اجتماعية وسياسية بإضرام النعرات الطائفية والعرقية أفضت واقعيّا إلى جعله جاهزا للتقسيم..
ولم تنته هذه السيناريوهات الشرّيرة بما سُمِّيَ ثورات الربيع العربي التي استهدفت أيضا الدولة الوطنية في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن فضلا عن سيناريو تقسيم السودان.

ولئن أفضى سيناريو “الثورات” إلى زلازل أمنية واجتماعية وسياسية واقتصاديّة في الدول التي استهدفتها وتوقّف مسارها الأمني نسبيا على صخرة صمود الجيش السوري ويقظة الجيش المصري، إلّا أنّ الدوائر الغربية الصهيونية وضعت قيد التنفيذ سيناريوهات جديدة تفضي إلى وضع مصائر شعوب هذه الدول على حافة مجاعات حقيقيّة ودفع عمْلاتها المحليّة إلى الانهيار، حيث “يبشّر” غربان إعلام الدول الخليجية بانهيار العملات المحليّة في سبع دول عربية، وهذه العملات هي الجنيه المصري، الليرة السورية، الليرة اللبنانية، الدينار التونسي، الدينار العراقي، الدينار الليبي، والريال اليمني.
والدول الخليجية المتورّطة في تمويل هذه الخطة الغربيّة الصهيونيّة ودعمها ليس فقط لوجستيا وسياسيا وإعلاميا بل وفي تجنيد الإرهابيين المحليين والأجانب وتدريبهم وتسليحهم، فضلا عن إقامة علاقات كاملة وعلنية مع العدو الإسرائيلي على حساب الحقّ الفلسطيني، باشرت حالياً التدخّل في هذه الدول المحاصَرة بقانون “قيصر” وغيره، للحؤول دون استعادة عافيتها تحت عناوين تقديم قروض ومساعدات مشروطة أدخلت مصرَ حاليا في أزمات اقتصادية واجتماعيّة متشعّبة مِن تداعياتها الأوليّة  تراجع سعر الجنيه المصري أربع مرات أمام الدولار الأمريكي حيث كان الدولار سنة 2016 يساوي 7 جنيهات ليصل أوائل العام الحالي 2023 إلى 32 جنيها مقابل الدولار الأمريكي الواحد، هذا في مصر ذات الدولة الوطنية التي لم تتأثر مؤسساتها واقتصادها بمؤامرة الربيع العربي مقارنة بالعراق واليمن وليبيا وسوريا ولبنان…لكن ما بدأ بدعم حكم مرسي أكملته السعودية والإمارات خاصة بـ ‘دعم’ السيسي المزعوم.

خطة مرسومة

لأنّ الخطّة مرسوم لها أن تتواصل ولو بسيناريوهات تبدو متناقضة في مظهرها لكنها في واقع الأمر منسجمة ومتفقة في أهدافها، ذلك أنّ الجيشين المصري والسوري (الأوّل والثاني والثالث) أن نجحا بإبعاد الوحش الصهيوغربي ذي المخالب الخليجية فإنّ السيناريو الحالي أن يتقدّم الوحش نفسه إلى الدول السبع وفي مقدمتها مصر وسوريا ولكن هذه المرّة بمخالب في قفافيز سعودية وإماراتية وربما كويتية وعمانية ناهيك عن القفافيز التركية، وهذه المرّة قد لا تسيل الدماء لأنّ القتل سيكون خنقا، أعني خنق اقتصاد هذه البلدان وليس بالضرورة العمل هذه المرة على تحطيم المؤسسة العسكرية وتدمير قدراتها بل “إنهاكها ودفعها إلى التآكل البطيء بثبات” على حدّ تعبير البروفيسور “ماكس مانوارينج” خبير الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات التابع للكليّة الحربية الأمريكية، وذلك في محاضرة ألقاها بتاريخ 1 ديسمبر 2018 في الكيان الصهيوني أمام ضبّاط من حلف الناتو والجيش الإسرائيلي.
ولكي نفهم ما يجري الآن في الدول العربية السبع من اليمن إلى تونس مرورا بالعراق ولبنان وسوريا ومصر وليبيا، وربما لاحقا في الجزائر كما هو مرسوم في الخطة عينها إيّاها، ننقل أهم ما ورد حرفيّا في هذه المحاضرة الخبيثة على لسان البروفيسور ماكس. فقد أضاف إلى ما ذكرناه أعلاه: “هدفنا هو إرغام العدوّ على الرضوخ لإرادتنا الهدف زعزعة الاستقرار، وهذه الزعزعة ينفذها مواطنون من الدولة العدو لخلق الدولة الفاشلة، وهنا نستطيع التحكّم. وهذه العملية تُنَفَّذ على خطوات ببطء وهدوء وباستخدام مواطنيّ دولة العدوّ.
و التآكل البطيء يعني خرابا متدرّجاً للمدن وتحويل الناس إلى قطعان هائمة وشلّ قدرة البلد العدوّ على تلبية الحاجات الأساسية للمواطن، بل تحويل نقص هذه الحاجات إلى وجه آخر من وجوه الحرب، وهو عمل مدروس بدقة”.

ويواصل البروفيسور ماكس الذي هو ضابط سابق في المخابرات الأمريكية، يواصل محاضرته قائلا:” في مثل هذا النوع من الحروب قد تشاهدون أطفالا قتلى أو كبار السن، فلا تنزعجوا. علينا المضيّ نحو الهدف، بمعنى: لا تتركوا المشاعر أمام هذه المشاهد تحول دون تحقيق الهدف »…

الإنهاك البطيء عوض الانهيار السريع

لماذا الإنهاك وليس تدمير الدولة دفعة واحدة؟ يجيب ماكس: “إنّ استراتيجيّة الإنهاك تعني نقْل الحرب من جبهة إلى أخرى ومن أرض إلى أخرى واستنزاف كلّ قدرات العدوّ على مراحل متباعدة، وجعْل الدولة العدو تقاتل على جبهات متعددة مُحاصَرَة بضباع، مُحارِبين محلّيّين شرسين وشرّيرين، من كلّ الجهات، والتخطيط لتسخين جبهة وتهدئة جبهة أخرى، أي استمرار إدامة الأزمة وليس حلّها.
فلكي لا يتم انهيار الدولة السريع، لأنّ الانهيار السريع يبقي على كثير من مقومات ومؤسسات الدولة والمجتمع، فإنّ أفضل الطرق هو التآكل البطيء لتقويض الدولة والمجتمع ومحوهما ولو عبر عملية طويلة”.

الدول السبع…ثم الجزائر

ما جاء في هذه المحاضرة نلمس تطبيقه منذ سنوات في العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان، وبدأت ملامح تطبيقه في مصر وتونس، والمحاولات لم ولن تتوقف بغية إلحاق الجزائر بهذه الدول السبع.

لقد أُغْرِقَ العراق دولةً ومجتمَعاً خلال أكثر مِن عقدين في رمال متحركة من الحروب وعدم الاستقرار وأنواع الحصار والتجهيل والإفقار والفتن الطائفية والعرْقية والعشائرية مزّقت الدولة الوطنية ووحدة المجتمع وجعلت ثروات هذا الشعب نهبا للمستعمرين الأجانب وعملائهم المحليين الذين جردوه من حقوقه الأساسية في العمل والتعليم والصحة والتدفئة ولقمة العيش والكساء الكريمين، وهو بلد الحضارات العريقة و النهرين وغابات النخيل والاحتياطي النفطي الهائل.

وخلال أكثر من عقد ألحقوا به سوريا ولبنان واليمن وليبيا ومصر وتونس متوسّلين في ذلك ما سُمِّيَ “ثورات الربيع العربي”. فَهَلَ نَبقى أسرى ردود الفعل الترقيعيّة لمواجهة هذه الخطة الصهيو غربية المدروسة وسيناريوهاتها المضبوطة بدقة، أم بات لزاما علينا الانتقال إلى الفعل المتكئ إلى دراسات تفضي إلى استراتيجية مواجهة تنطلق مِن مُعطيات الواقع الراهن؟. وأوّل هذه المُعطيات إعادة بناء الوحدة الوطنية من القوى الوطنية الحاكمة والمعارضة بعيدا عن عملاء الأجنبي والإسراع في إعادة الدولة الوطنية المواطنيّة العلمانية المدنية بعيداً عن اجترار الشعارات التي تتراوح بين ما قبل الدولة وما فوقها، وأن نرسم السياسات والبرامج العاجلة والآجلة التي تحررنا من حبال استهلاك ما يصدّره الغرب إلى مجتمعاتنا من غذاء ودواء وثقافة ونمط حياة، وصناعة وعي قائم على التضليل والتجهيل، فنبدأ الآن قبل الغد بإنتاج ما نأكل ونشرب ونتنقّل جنبا إلى جنب إعادة ما سلبه الغزاة وعملاؤهم من تراب وطني، قبل أن تحكم هذه الحبال التفافها على أعناقنا وتضغط حتى الموت.

الحاجة أمّ الاختراع

إنّ “مِن بديهيات الفيزياء أنّ لكلّ فعل ردّ فعل يساويه في القوّة  ويعاكسه في الاتجاه” وبالتالي إنّ الحاجة أمّ الاختراع وعلى نخبنا أو قوانا الوطنية الحيّة أن تخترع أساليب المقاومة الوجودية في لحظة لا يخفي فيها الأعداء خطتهم المعلنة لإبادتنا، وهذا يرتّب على القوى الوطنيّة في السلطة أن تمدّ يدها إلى القوى الوطنية الحيّة في المعارضة أحزابا فاعلة ومراكز دراسات وكفاءات فرديّة لرسم خطة إنقاذ وسيناريوهات تنفيذية ناجعة، بعيدا عن “المعارضات” المرتبطة بالخارج وتنفذ أجنداته وتخدم مصالحه على حساب مصالح شعوبنا.

وهذا يتطلّب أيضا فرز أصدقائنا الموضوعيين إقليميا ودوليا، فمن السذاجة أن ننتظر من حاكم يستظلّ بقواعد الأمريكان والناتو العسكرية أن يُغيثنا مِن خطرٍ أحاطنا به سيّدُه الأمريكي إن لم تكن “إغاثته” كمينا يُعَجِّل في القضاء علينا، ومن الانتحار أن نقبل من يده الملوّثة بدمائنا لقمة لا بد أن تكون مسمومة.

وحتى عندما نختار أصدقاءنا على قاعدة أنّ عدوّ عدوّك هو صديقك بالضرورة، فهذا قد يكون صحيحا في معركة ولكن ليس في حرب طويلة الأمد وفي عالم متشابك المصالح، فالصداقات بين الدول يجب أن تكون قائمة على المصالح المشتركة التي تقتضي أن يحرص صديقنا على مصالحنا تماما كما نحرص على مصالحه، وإلّا سنكون قد استبدلنا سيدا بسيّد واستمرأنا العبوديّة. ولكن لا نستطيع أن نطالب صديقنا باحترام مصالحنا إذا لم نحدد نحن هذه المصالح، إذا لم نكن قوّة وطنيّة غير متصارعة بين بعضها البعض، ولها استراتيجيّتها بعيدة المدى إلى جانب برامجها العاجلة كي يثق الصديق بأننا قادرون على الدفاع عن مصالحه الإقليمية والدولية كي يدافع هو بقوة عن مصالحنا الوطنية ضدّ الأعداء المشترَكين. وعندئذٍ لا نقتسم معه الدماء فقط بل أيضاً الخبز ووقود المصانع والتدفئة ووسائل النقل وتأمين الماء والكهرباء.

في هذا السياق يجب أن نفتح عينا على الوضع الداخلي وعينا على الوضعين الإقليمي والدولي ونفرّق بين القوى الإقليميّة والدولية التي تضغط لأجل إلحاقنا ثرواتٍ بشريّةً وطبيعية بالمركز الإمبريالي الدولي وسياساته الليبرالية المتوحشة وبين القوى الصاعدة الساعية لإقامة سياسة دولية متعددة الأقطاب تلتزم الشرعية والقانون الدوليين اللتين تحفظان حق الشعوب ودولها الوطنية في تقرير مصائرها وبسط سيادتها على ترابها الوطني وثرواتها تحت هذا التراب وفوقه.

ضغط على الجزائر

وبناء عليه يجب الحذر مثلا من السياسات الغربية التي تضغط على دولة كالجزائر تمكنت حتى الآن من التصدي الناجع لجميع المؤامرات الداخلية المدعومة من الخارج بتحريك الأقليات العرقية والطائفية أو الإسلام السياسي الذي “يغلّف كلّ باطل بغلاف ديني” على حدّ تعبير “ابن رشد” كي يتحكّم بالرعاع الذين يطلقون عليهم الآن صفة “الشعب العميق” مراهنين على ثمار سياسة التجهيل التي استمرت عقودا في غفلة من الدولة الوطنية، وإنْ كنّا نراهن على أنّ الشعب الجزائري لُقِّح من هذا الخطر بمعاناته الدامية خلال العشرية السوداء في العقد المنصرم ومن مراقبته للكوارث التي نتجت عن ما سُمّي “ثورات الربيع العربي” في دول الجوار ناهيك عن ما حدث في اليمن وسورية ومصر.
وبالتالي فإننا نأمل أن تكون الدولة الجزائرية التي تشهد عملية إصلاحات داخلية نشيطة لزيادة الدولة الوطنية تماسكا ومناعة، أن تكون حذرة من المناورات الغربية الأوروبية والأمريكية لإبعاد الجزائر عن الصديق الروسي تارة لإجهاض ضغط موسكو بحجب الغاز الروسي عن أوروبا في مواجهة العقوبات الأوروبية والأمريكية التي فرضت على روسيا، من خلال تعويضه بالغاز الجزائري، وهذا ما ترمي إليه زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية مؤخرا إلى العراق والجزائر، وتارة لجرّ الجزائر إلى التورط في دعم الجانب الغربي في مساعيه إلى إقامة نظام صهيوني جديد في أوكرانيا، حيث لا هدف لزيارات رئيس ومسؤولين آخرين في المخابرات الأمريكية إلى دول شمال أفريقيا كليبيا والجزائر  غير استقطابها في الحرب التي تجري على الأراضي الأوكرانية بين حلف الناتو من جهة وروسيا وحلفائها من جهة مقابلة.

الخطأ الأمريكي

فعلى الرغم من سياسة الجزائر المستقلّة إزاء حمّى الاستقطاب الأمريكيّة لم يجد رئيس المخابرات الأمريكيّة حرجا في أن يطلب من الجزائر معدات عسكرية لصالح أوكرانيا مؤكدا في ذلك قول ويلسون مانديلا إنّ واحدة من الأخطاء التي يرتكبها الأمريكيون هي أنهم “يعتقدون أنّ أعداءهم يجب أن يكونوا أعداءنا”، ناهيك عن مقولة جورج بوش الابن الشهيرة “مَن ليس معنا فهو ضدّنا”.

إنّ ثقتنا بيقظة القيادة الجزائرية وبالقوى الوطنية الجزائرية ثقة عالية، لكنّنا ننبّه أيضا القوى الوطنية في الجوار الجزائري إلى أنّ زعزعة استقرار الجزائر سيزيد من أزمات دول الجوار تعقيدا، بل وسينشر “الفوضى الخلاقة” سيئة السمعة في القارة الإفريقية بأسرها، وبالتالي فإنّ سلامة الجزائر شرط أساس من شروط تعافي دول الجوار وصمّام أمان لكلّ دولة وطنية في هذه القارّة المُسْتَهدَفة من الغرب والصهيونية العالميّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى