هادي دانيال يكتب: حلف ‘الناتو’ أداة لتدمير الدُّول وإذلال الشعوب

كتب: هادي دانيال
تنصُّ المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي “الناتو”، على أنّ “أيّ هُجوم أو عُدوان مُسلّح ضدّ طرف من الحلْف، يُعَدّ عدواناً عليهم جميعاً، ومن حقّهم الردّ باتخاذ الإجراءات التي يراها الحلْف بقيادة واشنطن ضروريّة على الفور، بشكْلٍ فرْديّ وبالتوافُق مع الأطراف الأخرى، بما في ذلك استخدام قوّة السلاح، لاستعادة والحفاظ على أمْن منطقة شمال الأطلسي”.
دفاع جماعي
لكنّ هذا البُنْد المُتَعَلِّق بالدفاع الجماعي لم يُفَعَّل إلّا مرّة واحدة ولم يتمّ استحضار هذا البنْد الخاصّ بالدفاع الجماعي إلّا مرّة واحدة في تاريخ الحلف الأطلسي، وذلك دعماً للولايات المتحدة بعد هجمات11 سبتمبر2011، التي تعرضت لها “نيويورك” و”واشنطن”، والتي كانت ذريعةً لحروب شَنّها هذا الحلْف ضدّ تنظيمات الإسلام السياسي الإرهابي كتنظيميّ “القاعدة” و”داعش” اللذين أنشأتهما المخابرات الأمريكية نفْسها كما اعترفَ لاحقاً على الأقلّ زعيمان أمريكيّان هُما “هيلاري كلينتون” الديمقراطية و”دونالد ترامب” الجمهوري. علْماً أنّ نتائج التحقيق بهجمات 11سبتمبر في نيويورك وواشنطن لم تُنْشَر حتى الآن.
عدوان على ليبيا والعراق
لكنّ هذا الحلْف شنّ عدوانين همجيّين على العراق والجماهيرية الليبيّة وأطاح بنظاميّ الرئيسَين صدّام حسين ومعمّر القذّافي ونكّل بهما وبرمزيّتهما الوطنية والقوميّة، العدوان الأوّل بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة “دفاعاً” عن نَمَط الحياة الأمريكيّة والأمن الإستراتيجي للكيان الإسرائيلي والعدوان الثاني بقيادة فرنسا إرضاءً لرغْبةِ زعيمها آنذاك “نيكولا ساركوزي” بطمْس أدلّة تلقّيه دعماً ماليّاً من العقيد معمّر القذافي خلال حملة ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسيّة.
حرب على سوريا
ومحميّةً بدرْع “الناتو” وبِكَونِها قوّة عسكريّة رئيسيّة وضاربة فيه إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبولندا تشنّ تركيا الطيّب أردوغان، بجيشها ومخابراتها والفصائل الإرهابية التي استدعت مرتزقتها وتكفيريّيها من كلّ أصقاع العالم، حَرْباً مُتواصِلة دامت قرابة الأربعة عشر عاماً على الجمهوريّة العربيّة السوريّة أفضَت إلى إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد وتنصيب المدعو “أبو محمد الجولاني” حاكماً مؤقّتاً على دمشق لا يكتفي بمحاولة تغيير نَمَط حياة الشعب السوري بل يرتكب مجازر إبادة بسكان الساحل من “العلويّين” أقْدَم مكوّنات الشعب السوري إلى جانب السريان، في ظلّ شعارات طائفيّة حاقدة، تُحاكي مجازر جيش الاحتلال الاسرائيلي في قطاع غزة والضفّة الغربيّة وتتفوّق عليها في بعض التفاصيل، وتُجاريها في الهدف المُعْلَن نفسه (فكما أعلنت الحكومة الإسرائيلية عزْمها على إقامة “دولة إسرائيل اليهودية” من خلال تصفية الفلسطينيين العرقيّة وتهجيرهم ، أعلنت فصائل الجولاني المندرجة في وزارة دفاعه عَزْمها على إقامة دولة سوريّا السنّيّة من خلال البدْء فوراً بتنفيذ سياسة تصفية دموية وتهجير عرقيّين ضدّ الأقلّيات الطائفية والدينية والعرقيّة بَدْءاً بالعلويين) وفي الوقت نفسه يغضّ الطرف تماماً عن تمدّد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي السورية حتى لامَسَت جنازير دبّابات “الماركافا” أطراف دمشق أو ريفَها.
شعوب تئن
وهذه الحروب العدوانية الأطلسية على العراق وليبيا وسورية مُهِّدَ لها بحصارات شاملة وجائرة وحمْلات إعلاميّة مُغَلّفة بشعارات حقوق الإنسان وتصدير الديمقراطية البرّاقة لشيطنة أنظمتها الوطنية، التي ما أنْ سقطت حتى تحوّلت الدول الثلاث إلى كيانات فاشلة تئنّ شعوبُها تحت وطأة الجوع والتجهيل وانعدام كلّ أشكال الأمْن و تمزُّق النسيج الاجتماعي ونهْب ثرواتها الطبيعية والبشريّة، دون أن ننسى أنّ المسمّاة “جامعة الدول العربية” كانت ديّوثَ هذه الحروب التي لم تُسقط الأنظمة الوطنية فقط بل دمّرت مؤسسات الدوَل ودفعت الشعوبَ إلى حُروب طائفيّة وعرْقيّة وعشائريّة و مناطقيّة جهويّة.
لكن دائماً كانت الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي هما اللذان يحصدان ثمار حروب “الناتو” العدوانيّة في منطقتنا، اقتصاديّاً وهيمنةً سياسية بالقوّة العسكريّة.
وفي السياق ذاته جاء دعم دُوَل “الناتو” المالي والعسكري والإعلامي والسياسي لحكومة “كييف” في الحرب التي شنّها الغرْب ضدّ الاتحاد الروسي مِن وعلى الأراضي الأوكرانية.
إذن ليس حلْف الناتو، منظمةً دفاعية كما يزعمون، بل هو وسيلة غاشمة لتحقيق السياسات الأمريكية عبْر العالم بالقوّة.
رؤية ترامب
الذي اختَلَفَ الآن هُوَ أنّ الرئيس “ترامب” يرى أنّ الولايات المتحدة هي التي تتحمّل كلْفة وجود هذا الحلف وكلفة الحروب التي يخوضها، وبالتالي كما طلَبَ من الكيانات الخليجيّة أن تدفع المبالغ الباهظة مُقابل الحماية الأمريكيّة لها وضمان بقائها ووقايتها من تقلّبات الزمن وتداعيات صَدَئِهِ المُحْدِق بالسلطات كافّة عبْر العالَم، وكما طَلَبَ من “فولوديمير زيلينسكي” أن يدفع من اللحم الحيَ الأوكراني (الثروة المعدنيّة) مقابل مليارات الدولارات التي دَفَعَتْها له واشنطن كي تواصل “كييف” الحرب ضدّ موسكو، فإنّه يطالب الدوَل الأوروبيّة بأن تزيد من مُساهمتها المالية في الحلْف التي لم تصل بعد إلى الـ 2 بالمائة من الناتج المحلي لكل دولة إلى 3 بالمائة فوراً، وأن تضع خططاً جدّية خلال السنوات الثلاث القادمة لترتفع مساهمتها إلى خمسة بالمائة من الناتج المحلّي لكلّ دولة عضوة في الحلف بما في ذلك تركيا التي أعلنت وقوفها إلى جانب أوروبّا في هذه المحْنة، على الرّغم من فشل أنقرة الذريع بوضع قدمها على عتبة الاتحاد الأوروبي.
أمريكا قد تنسحب
وإن لم تخضع دُوَل حلْف “الناتو” للطلبات الأمريكيّة برفْع نسبة مساهماتها والقبول بالتسوية التي يقترحها الرئيس ” دونالد ترامب” للحرب في أوكرانيا ناهيك عن طلبه وضع اليد على جزيرة غرينلاد، فإنّ الرئيس الأمريكي هدّدهم تهديداً صريحاً بأنّ بلاده ستنسحب من حلف “الناتو” وتتخلى عن التزاماتها تجاه الدول الأوربية التي ستتحمّل مسؤولية الوقوف في وجه القوة الروسية المتعاظمة.
تحييد روسيا
لاشكّ أنّ “ترامب” تَرَكَ دُوَل الاتحاد الأوروبي في حيصَ بيص، بعضها يريد الانصياع له وبعضها يرفض، ولكنّ انهيار حلف الناتو، أو إقامة حلْف شبيه له سيكونُ مُكلفاً جدّا في حال افترضنا إمكانية الاتفاق على وجود هذا البديل أصْلاً، وبالتالي يستخدم “ترامب” سياسة الذهاب معهم إلى حافّة الهاوية اعتقاداً منه أنّهم سيذعنون في النهاية، لأنّ بديل إذعانهم هو انهيار الاتحاد الأوروبي وتركيا بعد صراعات بَيْنيّة، وفي الوقت نفسه تعاظُم نفوذ موسكو التي يوهِم “ترامب” أنصارَه وخصومَه أنّه يريد تحييدها في سياق استعداده لخوض حرْب فاصلة مع الصين لاستعادة واشنطن هيمنتها المُطلَقة على العالم التي يعتقد أنها فقدتها لصالح بروز مشهد سياسي جديد متعدّد الأقطاب.
خلاص البشريّة
ولأنه من المُسْتَبْعَد أن يفكّر “ترامب” بالذهاب وحيداً إلى حربٍ مع الصين، فإنّ عزْمه على استثمار علاقته التي يصفها بالجيدة مع الرئيس فلاديمير بوتين لإيجاد تسوية للحرب في أوكرانيا، هو أيضاً استثمار هذه التسوية لدعم الاقتصاد الأمريكي على حساب الاقتصاد الأوكراني باتفاقية المعادن وبالتخفُّف من عبْء تكاليف استمرار الحرب، فضلاً عن التخفّف من عبء حَمْل “الناتو” على ظهره، وذلك باستثمار حاجة الأمن الأوروبي للحضور العسكري الأمريكي القويّ ولهذا التوجّه السياسي الأمريكي، وبالتالي الإذعان لِطلبات “ترامب” وشروطه. وخلاف ذلك معناه الطلاق الباتّ بين الثنائي الغربي، أوروبا و الولايات المتحدة، فيتّجه أحدُهما شرقاً على حساب الثاني الذي يُتْرَك للتآكُلِ السريع فالانهيار… وهذا أحد سيناريوهات خلاص البشريّة الحالمة التي نتمنّاها.