هادي دانيال يكتب: العالم يتغيّر…والإدارة الأمريكية هي الجدار الأخير لـ اسرائيل..

كتب: هادي دانيال
بات مُتداولاً عبْر الأجيال التي عرفها تاريخ البشرية المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية أنّ الإدارة الأمريكية جمهورية كانت أو ديمقراطية ورثت عن الغرب الأوربي، وعن بريطانيا خاصة، تبني الكيان الصهيوني كمشروع غربي لحماية مصالحها في المنطقة العربية…
هذه المصالح المتمثلة في إبقاء المنطقة غير مستقرة سياسيا وأمنيا وَمُسيْطَراً على مُعظم دولها من حكومات تابعة لواشنطن المعنية أساسا بنهب ثروات دول المنطقة الطبيعية تحت التراب الوطني لهذه الدول وفوقه.
نقطة ارتكاز
وكان الكيان الصهيوني ولا يزال نقطة ارتكاز لاستراتيجية الولايات المتحدة من أجل السيطرة على منطقتنا من خلال تقوية هذا الكيان بدعمه المطلق سياسيا وإعلاميا وعسكريا وماليا لاستنزاف طاقات ومقدرات شعوبنا وإبقائها في حالة عامة من الحمق يجعلها تفاخر بانتماءاتها القبلية العشائرية والدينية الطائفية والعرقية الشوفينية…
هذه الانتماءات التي تشف عن غباء وهمجية وجهل وتتناقض جذريا مع الانتماء الوطني إلى دولة وطنية كانت بدورها محكومة بقوى داخلية تؤجل دائما تنفيذ ما تدعي أنها تحمله من مشاريع مجتمعية تَبَيّن لاحقا أنّها وهمية، وأنّ لا مشاريع لهذه القوى الداخلية غير مشروع الحفاظ على السلطة بالتواطؤ خاصة مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة المعنية بالحؤول دون أي تغيير مجتمعي يفضي إلى دولة وطنية مواطنية حديثة على أنقاض الانتماءات القبلية العشائرية والدينية الطائفية والعرقية الشوفينية…
وغيرها من مكونات ما قبل الدولة التي تستخدمها واشنطن وأخواتها الغربيات من جهة لتصوير الكيان الصهيوني وكأنه واحة من الديمقراطية والحداثة في محيط من الجهل والهمجية،
تأبيد مستمر
ومن جهة ثانية تسعى إلى تأبيد هذه “المكونات” التي تقوم عليها القوى التي تعارض الدولة الوطنية وإلى منحها مشروعية زائفة باسم “الديمقراطية” التي تصدرها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدول التي تستهدفها كمحاولة إعادة الإخوان المسلمين إلى المشهد السياسي في مصر وتونس على سبيل المثال.
وفي سياق اعتماد المعايير المزدوجة فإنّ حركة “حماس” الإخوانية كانت مُدْمَجة في ترتيبات “الربيع العربي وثورات الفوضى الخلاقة” إلّا أنها بعد حدث 7 أكتوبر2023 في المسمّى “غلاف غزة”، وتداعياته التي تتصدّرها إبادة جماعية قام ويقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بَدْءاً ولا حقا في الضفة الغربية والقدس والأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948، باتت “حماس” عند إدارة بايدن منظمة إرهابية ويدعم خطة نتنياهو لاجتثاثها ولو أبيد في سبيل ذلك مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين العزّل وخاصة الأطفال والنساء والشيوخ.
الهدف الحقيقي
وواقع الحال أنّ اجتثاث “حماس” ليس هو هدف بايدن/نتنياهو الحقيقي، بل الهدف هو تخليص الكيان الصهيوني من قنبلة ديمغرافية فلسطينية مؤقتة، بإبادة الفلسطينيين وخاصة النساء والأطفال الحشوة الأساسية لهذه القنبلة، أو تهجير مالم يُقتل بالأسلحة النارية أو الجوع أو المرض، وهذه هي الغاية الحقيقية من استخدام واشنطن حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن ضد مشاريع القرارات الأممية الداعية إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة. بل إنّ بايدن الصهيوني، كما جدّد تعريف انتمائه الأيديولوجي مؤخرا وكذلك طاقمه في الإدارة الأمريكية، مثله مثل نتنياهو ربط مستقبله السياسي بنتائج حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين ليس في غزة فقط بل على كامل جغرافيا فلسطين التاريخية.
دفاع عن النفس!
وغير بعيد عن أهداف الاستراتيجية الأمريكية العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية والإعلامية لإخضاع الشعوب التي أشرنا إليها أعلاه، فإنّ الاستراتيجية الإعلامية الأمريكية للتحكم بالشعب الأمريكي، والتي تطرق إليها المفكر اليهودي الأمريكي نعوم تشومسكي (الإلهاء، مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال، استثارة العاطفة بدل الفكر، إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة وتشجيعه على استحسان الرداءة وتعويض التمرد بالإحساس بالذنب ومعرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم وغيرها)، هذه الاستراتيجية التي من خلالها تسربت الرواية الإسرائيلية إلى الوعي الجمعي الغربي الأمريكي والأوربي وتملكته أسقطتها المشاهد الحية التي عُرِضَت على شاشات التلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي لمجازر الإبادة التي اقترفها ولايزال جيش الاحتلال الإسرائيلي وسقطت معها تحت أقدام طلبة الجامعات الأمريكية ومعهم طلبة الجامعات الأوروبية مصداقية الإدارة الأمريكية، خاصة وأن إدارة الصهيوني بايدن ما فتئت تصرّح، على الرغم من ذلك كله، بأنه لا يوجد ما يؤكد لها أنّ جيش الاحتلال الصهيوني قد قام بجرائم إبادة جماعية، وأنّ ما يقوم به الكيان الصهيوني مجرّد دفاع مشروع عن النفس. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى تقديم مليارات الدولارات و الأسلحة الأحدث والأشدّ فتكاً إلى جيش القتلة الإسرائيليين.
فرصة إضافية
وعلى الرغم من تبني طلبة الجامعات الأمريكية والأوربية سردية الحق الفلسطيني بقوة وحماسة ، هؤلاء الطلبة الذين سيأخذون على عاتقهم مستقبلا قيادة بلدانهم وصناعة سياساتها واتخاذ قراراتها الداخلية والخارجية، ناهيك عن تحوّل الرأي العام الغربي وانحيازه للرواية الفلسطينية وإدانة جرائم الإبادة ، وما شكله ذلك كله من ضغط على حكومة بايدن مما اضطر البيت الأبيض إلى أن يصدر تصريحات شديدة اللهجة “تحذر” إن لم نقل “تعاتب” الكيان الصهيوني، وهذا يحصل لأول مرة في تاريخ الإدارة الأمريكية منذ ورثت عن أوربا العجوز تبني هذا الكيان الاستيطاني كمشروع غربي لمنطقة الشرق الأوسط، إلّا أنّ حسابات نتنياهو/بايدن المتعلقة بمستقبلهما السياسي المدعومة من المحافظين الجدد الديمقراطيين والجمهوريين في واشنطن، ضربت عرض الحائط بكل هذه الضغوط و دفعت ببايدن أخيراً إلى أن يستثمر حرب الإبادة الجماعية في غزة وكأنها فرصة إضافية، لتجديد وتفعيل هيمنة واشنطن الدولية ومسح الغبار عن صورتها الأثيرة عند المحافظين الجدد خاصة، صورتها كـ “شرطي العالم”، وبالتالي عندما يطلب بايدن من الكونغرس موافقته على تقديم 14مليار دولار لتل أبيب دعما لحربها الإبادية ضد الفلسطينيين و60مليار دولار لكييف دعما لحربها الاستنزافية ضد الاتحاد الروسي فإنه يعزز السلوك الأمريكي التقليدي في مواجهة التحديات الدولية عبر العالم، بدون أن ” يتردد في استخدام القوة وممارسة البطش وارتكاب الجرائم للحفاظ على هذا الدور وهذه الهيمنة”، لدرجة أنّ ثمّة مَن يرى في هذا السياق أنّ الولايات المتحدة تخوض حربا مزدوجة على الفلسطينيين بوجه/قناع إسرائيلي وعلى الروس بوجه/قناع أوكراني لتأكيد أنها لا تزال سيدة العالم الذي ترفض أن تعترف بأنه بات متعدد الأقطاب.
“مقترح إسرائيلي »؟!
وتقوم هذه السياسة المتغطرسة المكابرة إزاء جرائم الإبادة الجماعية في غزة على الخطاب الديماغوجي الأمريكي المراوغ: “حديث عن الجانب الإنساني وضرورة مراعاة القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني خلال الحرب، والحثّ على زيادة وتيرة وكمية الإغاثة الإنسانية، الذي توّجته بقرارها، المثير للجدل والشك، بتدشين خط بحري تجاه شمال قطاع غزة لنقل المساعدات الإنسانية للقطاع” وفي ذات الوقت مواصلة تقديم الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي الأمريكي لرمزيّ سفك الدماء في هذه اللحظة الراهنة وضلعي مثلث الشر الصهيوني الذي قاعدته “جو بايدن” في حرب المصالح الصهيو أمريكية عبر العالم: “بنيامين نتنياهو” و”فولوديمير زيلينسكي”.
وفي خطابه من البيت الأبيض يوم الجمعة31 ماي 2024 قدّم “بايدن” ما زعم أنه “مقترح إسرائيلي” نُقِل إلى حركة “حماس” عبر قَطَر في محاولة لإعادة تدوير “حماس” الإخوانية صهيو أمريكيا، كطرف “فلسطيني” وحيد في اتفاق ليس فقط “لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس وإنهاء الحرب في قطاع غزة” بل حسب قول بايدن بعظمة لسانه ” إن الاتفاق سيسمح لإسرائيل بالاندماج في المنطقة والتوصل لاتفاق تطبيع تاريخي مع السعودية، كما تعهد بأن تساعد أميركا في صياغة حل للوضع على الحدود اللبنانية”.
واللافت هنا أنّ بايدن لأوّل مرّة لم يذكر من قريب أو بعيد أي دور لمنظمة التحرير الفلسطينية أو للسلطة الوطنية الفلسطينية في هذا الاتفاق الذي ستضمن فيه “دول عربية وعالمية عدَم إعادة تسليح حماس”، بل لم يتضمّن أي إشارة ولو من بعيد لالتزام واشنطن بحلّ الدولتين، علما أنّ مطلعين وقريبين من دوائر القرار الأمريكية أكدوا أنّ المقترح الذي ورد في خطاب بايدن على أنه “إسرائيلي” هو في الأصل مقترح أمريكي بحت وَصَفَه الرئيس الأمريكي بالمقترح الإسرائيلي (وهو لا شك كذلك في مراميه ونتائجه)، وإلّا كيف في ذات الوقت يطالب بايدن “إسرائيل” ورئيس حكومتها بالموافقة عليه كـ « لحظة.. يجب أن لا تضيع”.
تداعيات خطيرة
وليس بعيدا أنّ هذا “الاتفاق” المُقتَرَح الذي يحصر الشأن الفلسطيني بقطاع غزة وحماس، ستكون تداعياته خطيرة، لأنه يأتي كرد أمريكي-إسرائيلي ليس فقط على تسونامي الاعتراف بالدولة الفلسطينية العتيدة من دول العالم وفي الوقت نفسه قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني فضلا عن قرارات المحكمة الدولية التي تجري حاليا محاولات صهيو أمريكية للتقليل من شأنها لأنها أدانت الكيان الصهيوني وقادته بجرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني ولأنها أيضا بصدد إدانة الحكومات والجماعات والأشخاص كوزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين، الذين يدعمون تل أبيب سياسيا وعسكريا واقتصاديا للإمعان في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، بينما كانت هذه المحكمة الدولية عالية الشأن أوربيا وأمريكيا وإسرائيليا عندما كانت تحاول إبعاد الشبهة عن تل أبيب وواشنطن في عملية اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق الشهيد رفيق الحريري وإلصاق التهمة بالدولة السورية وحلفائها في لبنان.
وبفعل هذه السياسة الصهيو الأمريكية التي بقدر ماهي جبانة بقدر ماهي شرسة متوحشة عندما تستفرد بضحاياها أو تغدر بهم ” فإنّ كوكبنا يتحوّل إلى ثكنة إمبريالية قذرة الرائحة” كما حَدَسَ بذلك “ليون تروتسكي” مؤسس الجيش الأحمر و”قلم الثورة” البلشفية كما وصفه قائدها “فلاديمير إيليتش لينين”.