صالون الصريح

هادي دانيال يكتب: التجويع كسلاح أمريكيٍّ عبْرَ العالم…

adanille
كتب: هادي دانيال

لم تُمْحَ من ذاكرة ما تبقّى من ضمير البشريّة المعاصرة بَعْدُ مُعاناة الشعب العراقي من حصار دوليّ شامل جائر نزولاً عند إرادة الإدارات الأمريكية وتوابعها الأوربيّة والخليجيّة خاصّة أودى بحياة الملايين معظمهم أطفال بأسلحة غير عسكرية بينها التجويع على الرغم من الصفقة المذلّة للنوع البشري ومزاعمه بأنّه حقّق تراكماً حضاريّاً توَّجَّهُ بفضيحة “النفط مقابل الغذاء“، أي نهب ثروات شعب أرض السواد مقابل تمكينه من رغيف مُغَمَّسٍ بالذلّ.

من العراق إلى سورية…

ما حصلَ في العراق يُعيدُ هذا الغربُ المنافق وتوابعُه ارتكابَه في سوريّة، حيث يشهرون سلاح التجويع إن كان بعقوبات قانون قيصر أو بنهب النفط والقمح السوريّين بتواطؤ عملاء محلّيين يحاكون في شماليّ سورية الدور الذي قامت به “أربيل” ولا تزال في شماليّ العراق.

تدمير الدولة الوطنية في العراق وسورية ونهب ثرواتهما وترك شعوبهما تحت وطأة انعدام كلّ أشكال الأمن و بينها الأمن الغذائي، إضافة إلى استباحة ليبيا، هي بعض رصيد الغرب الأمريكي والأوروبي على مستوى تجريد الإنسان، في هذه الدول التي لا تزال جراحاتها مفتوحة، من حقوقه الأساسية كافة بدءاً من حقه في الحياة، هذا الحق الذي بات دريئة لجميع أسلحة الغرب العسكريّة وغير العسكريّة وبينها سلاح التجويع.

ومع ذلك لم يَجِدْ هذا الغربُ حَرَجاً في اتّهام موسكو بأنها تهدّد الأمنَ الغذائي العالمي بسبب العملية العسكرية الخاصة التي ينفّذها الجيشُ الروسي في أوكرانيا ردّاً على خطة غربية لتفكيك الاتحاد الروسي وفْق سيناريو يبدأ من ضمّ أوكرانيا “سلّة خبز العالم” إلى حلف الناتو.
وعلى الرغم من أنّ موسكو استجابت إلى اتفاق يقضي بنقْل الحبوب الأوكرانيّة عبْر ممرّ بحري منذ أوت 2022 إلّا أنّ الغرْبَ لم يستجب لجانبٍ من الاتفاق يقضي بإتاحة وصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية، والذي حال دون تطبيق هذا الجانب إصرارُ الغرْب على الالتزام بالعقوبات الاقتصادية والمصرفية التي يفرضها هو على موسكو، ناهيك عن أنّ شحنات الحبوب التي غادرت أوكرانيا وفْقَ هذا الاتفاق معظمُها ذهبَ إلى الدول الأوربية بينما كان يُفْتَرَض أن تستفيد منه شعوب الدول الهشة اقتصاديا.

الغرور الغربي

يبدو أنّ الغرور الغربي صنّف القيادة الروسية في مرتبةٍ أقلّ ذكاءً من دوائر القرار في واشنطن وتوابعها من العواصم في أوربا وغيرها، وَتَوَهَّم أنه ستكون لدخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا تداعيات شبيهة بتداعيات دخول الجيش العراقي إلى الكويت في تسعينات القرن الماضي مثلاً، وأنّ العقوبات الغربيّة على روسيا ستفعل فعلاً مُشابها نسبيّاً لفعْلِ العقوبات التي سُلِّطَت على العراق بعد دخول جيشِهِ الكويت، وربما أيضا غرّتهم نتائج عملياتهم الاستخباراتية التي عجّلت في انهيار الاتحاد السوفياتي وسيناريوهات الثورات الملونة التي اجتاحت دولَ أوربا الشرقية التي كانت تُسمّى “المعسكر الاشتراكي”. لكنّ مراقبا على قدر عاديّ من الذكاء يدرك أنّ البلدان غير البلدان والوقت غير الوقت.
فالاتحاد الروسي وَرثَ القوة العسكرية السوفياتية وطوّرها، وهو لا يستورد الأسلحة بمختلف أنواعها الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، الكلاسيكية والمتطوّرة تقنيّاً، بل هو مَن يصنعُها ويصدّرها، وهي تُنافِسُ باقتدار الأسلحةَ الغربيّة كافة بما في ذلك أحدث الأسلحة الأمريكية في سوق السلاح الدولية، وهو لا يستورد ما تأكله شعوبُه وتشربُه وتلبسه أو تداوي به أمراضها.

بوتين يغيّر المشهد

وهو أيضا يُدارُ من قيادة غير معزولة كما كان حال القيادتين العراقية والليبية مثلا إبّان استهدافهما، بل إنّ قيادة الرئيس فلاديمير بوتين تمكنت من تغيير المشهد السياسي الدولي من أحاديّ القطب إلى مُتعدِّد الأقطاب بتحالفات تمتدّ من الصين والهند إلى جنوب أفريقيا فالبرازيل وفنزويلا وكوبا، ومن الجزائر والنيجر ومالي وبوركينا فاسو إلى سورية وإيران فكوريا الشمالية.
وهذا الاستقطاب الذي جاء تحت عنوان عريض هو الدفاع عن الشرعية والقانون الدوليين اللذين ما فتئ الغرب الإمبريالي يخرج عليهما هازئا وبوحشية، هذا الاستقطاب وعنوانه العريض باتا يُتَرْجَمان بدعم القوى الوطنية الحيّة في الدول التي ما فتئ هذا الغرْبُ يَنهبُ ثرواتها تاركاً شعوبَها للفقر والحروب الداخلية التي يفتعلها ويغذّيها الغربُ العنصريُّ الإرهابيُّ الاستعماريُّ عينُه نفسُه إيّاه. وإن كان قد بدأ هذا الدعم الروسيّ بإسناد الدولة الوطنية السورية في مواجهة قطعان الإرهابيين التكفيريين والمرتزقة الذين تدفقوا عبر الحدود بمئات الألوف مدعومين بمئات مليارات الدولارات من أكثر من ثمانين دولة عبر العالم تتصدرها الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني والكيانات الخليجية وفرنسا وتركيا وبريطانيا وتونس والمغرب وغيرها، فإنّ موسكو التي كانت في الحقبة السوفياتية تدعم حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار عادت الآن في عهد الرئيس فلاديمير بوتين إلى مزاولة هذا الدور التقدمي الإنساني في دعم حركات التحرر الأفريقية من السيطرة الاستعمارية الغربية، وهو دور عبّر عنه الرئيس بوتين في القمة الأفريقية-الروسية التي انعقدت مُؤخَّراً بمدينة بطرُس بورغ بقوله إن بلاده “تدعم تطلعات الدول الأفريقية نحو الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والتقدم” بل كان أكثر وضوحا بمناسبة تالية عندما قال إنّ “روسيا منفتحة على تعميق التعاون العسكري التقني مع كُلّ مَن يدافع عن مسار مستقلّ للتنمية”، ولِفَهْمٍ أعْمَق لهذا الموقف الروسي لا بدّ من الإصغاء إلى خطاب رئيس بوركينا فاسو باليوم الثاني من القمة الأفريقية- الروسية المشار إليها أعلاه، وخاصة قول هذا الزعيم الأفريقي الشاب بنبرة غيفارية افتقدناها في العقود الأخيرة المنصرمة:” زمن عبودية أفريقيا للأنظمة الغربية انتهى، وبدأت معركة الاستقلال التام، إمّا الوطن وإما الموت”.

زمن مغاير

إذن نحن في زمن مغاير، زمن فلاديمير بوتين، الذي قال للغرب إنه، إنْ لم تُرْفَع العقوبات الغربيّة على بلاده، لا عودة إلى اتفاق أوت 2022المتعلِّق بنقل الحبوب الأوكرانية إلى دول الغرْب كي تستخدم ما تخزنه وتحتكره منه للضغط القاسي على الشعوب والدول الفقيرة، كما تفعل في سورية والعراق وليبيا حيث تنهب نفط هذه الدول وقمحها وتضغط عليها بحرمانها حتى من وقود التدفئة في فصل الشتاء ومن رغيف الخبز في بقية الفصول.

إلّا أنّ الرئيس بوتين أكّد في قمة بطرس بورغ أنّ بلاده ” قادرة على استبدال صادرات الحبوب الأوكرانية إلى إفريقيا، وستكون مستعدة لبدء توريد الحبوب مجانا إلى ست دول بالقارة في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر”.

وذكر أن هذه الدول هي: بوركينا فاسو، زيمبابوي، مالي، الصومال، جمهورية إفريقيا الوسطى، وإريتريا، مضيفا أنّ الدوَل المذكورة “ستحصل على ما يتراوح بين 25 و50 ألف طنّ لكلٍّ منها”.

وأكد بوتين موقفه هذا في خطاب التهنئة بمناسبة عيد عمّال الزراعة بقوله إنّ بلاده ستقدم المساعدة الضرورية لأفقر الدول النامية، وطمأن شعبه وحلفاءه بأنّ حصاد الحبوب في روسيا بلغ هذه السنة 2023 رقما قياسياً، حوالي 150مليون طن، بما في ذلك 100 مليون طن من الحبوب، مع مؤشرات جيدة لمحاصيل أخرى كالبنجر السكري وفول الصويا وعبّاد الشمس فضلا عن أنّ حجْمَ المنتجات الحيوانية في ازدياد.

بروباغندا غربية

تقوم البروباغندا الغربية، والأمريكية خاصة، على مقدمات تبدو صحيحة نسبيا مثل القول إنّ ما قرب من ثلث صادرات القمح في العالم و60 بالمائة من صادرات زيت عباد الشمس تأتي من روسيا وأوكرانيا، وأنه مقابل كل 100 سعرة حرارية من المواد الغذائية المتداولة في جميع أنحاء العالم يأتي 12سعيرة حرارية من روسيا وأوكرانيا، وفقا للمعهد الدولي لبحوث السياسات الدولية، ثمّ تذهب من هذه الحقائق إلى استنتاجات تضليليّة وحمقاء في آنٍ معاً، فتحمّل موسكو مسؤولية شبح فقدان الأمن الغذائي عبر العالم، لماذا؟….
لأنها تسببت بالحرب الدائرة في أوكرانيا حسب زعم هذه البروباغندا البائسة. فالأوكرانيون أنفسهم، وأعني خاصة النخب الأوكرانية غير الموالية لموسكو، تلقي بمسؤولية نشوب هذه الحرب واستمرارها على عاتق العواصم الغربية وخاصة واشنطن مناصفةً مع حكومة كييف العميلة للغرْب ومصالحه. وهذا الغرْبُ الذي يزجّ بالأسلحة الأمريكية ويدفع مليارات الدولارات وغيرها من العملة الصعبة لإبقاء الحرب مضطرمة على الأراضي الأوكرانية حتى آخر جندي أوكراني، يراهن على إنهاك الجيش الروسي بهذه الحرب الغربية التي بدأت بالوكالة لكنها باتت تشهد مواجهة مباشرة مع عتاد الغرب وبعض عدّته.

حقيقة أم ذريعة؟

فلو أنّ الغرْبَ حريصٌ حقّاً على الأمن الغذائي العالمي أما كان أوْلَى به أن يوقفَ هذه الحرب وأن يستثمرَ هذه الأموال التي يحرقها بأوارِها في دعْمِ الأمن الغذائي العالمي؟…
وإذا كانت روسيا وأوكرانيا تؤمّنان 12 سعيرة حرارية من كل 100 من المواد الغذائية المتداولة عبر العالم، وإذا كانا يؤمنان ثلث قمح العالم، فَمَن يسيطر على الــ 88 سعرة حرارية المتبقية وعلى ثلثي قمح العالم؟ ويحجبها عن الشعوب المُهدَّدَة بشبح المجاعة؟…
وهل الاضطراب الذي تشهده سعيرات وقموح روسيا وأوكرانيا هو سبب ارتفاع المواد الغذائية العالمية، أم أنها ذريعة لتغطية السبب الحقيقي الذي هو الاحتكار الغربي لقُوتِ شعوب العالم بغية قتْلِها جُوعاً وبَرْداً إذا لم تخضع لسياساتها النيوليبرالية المتوحشة ومصالحها الجشعة.

تحت الوصاية الغربية!

أخيرا، على الرغم مِن أنّ الرئيس بوتين أعلنَ عن عزْمِ بلاده على العمل مِن أجْلِ مكافحة الفَقْرِ وضمان الأمن الغذائي ومحاربة التغيّر المناخي وتداعياته في أفريقيا إلا أنّ بعض الدول الأفريقية الهش اقتصاديا وأمنيا والذي كان الغربُ نفسُهُ قد ورَّطَهُ في قضايا إرهابية كتجنيد وتدريب وتسفير الإرهابيين إلى القتال في سورية ضدّ الدولة الوطنية وجيشها وشعبها، وجعْل هذا البعض لاحقاً شرطيا للحدّ مِن الهجرة الأفريقية غيْر الشرعيّة باتجاه الدول الأوربية، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا البعض العربي الأفريقي لا يجد نفسه حاضرا ومستقبلا إلّا تحت الوصاية الغربية !.
علْماً أنّ الصينَ مثلا كانت قد تكفّلت بحلّ جميع المشاكل الاقتصادية والماليّة لهذا البعض، لكن كما تقول الأغنية بتصرف : نار الغرْب ولا جنّة الصين!.

استثمار المساعدة

وعلى المقلب الآخر يطالعنا البعضُ الآسيَوِيُّ العرَبيُّ، الذي ساعده بوتين في الحفاظ على الدولة الوطنية واستعادة سيطرتها على معظم التراب الوطني، لكن هذا البعض عوضَ أن يبادر إلى استثمار هذه المساعدة في تأطير وتدريب وتسليح مقاومة حقيقية من الفدائيين الوطنيين فاعلة ومستمرة بتصاعد لاستعادة جميع ترابه الوطني المحتل إما من القوات الصهيونيّة وإمّا مِن القوات الأمريكية أو مِن القوات التركية ترفدها الميليشيات التكفيرية أو الانفصالية التابعة للانكشاريين أو المارينز، فإنَّ هذا البعض العربي الآسيَوِي اكتفى بإعادة بناء سلطة الحزب الواحد البيروقراطية التي تفاخر بامتياز تقاعسها إن لم نقل فسادها، وتغطي سوآتها بشعاراتٍ أُفرِغَت من مضامينها منذ عقود، وتعيد إنتاج أسباب أزمات البلد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والأمنية إلخ، وهي سلطة بحكوماتها المتعاقبة لم تفشل فقط في استعادة حقول النفط والقمح، بل عوض أن تلتزم سياسة اقتصادية واجتماعية نضالية صارمة وإنسانية عادلة، فتتقشف وتجود بالموجود مؤمنةً بذلك الحدّ الأدنى الضروري للحياة اليومية بالتساوي لجميع المواطنين في ظلّ الدولة، تركت الأغلبية الشعبية وخاصة أهالي الشهداء والجرحى من جيشنا الباسل وشعبنا الصامد الصابر، تركتهُم يعانون فوق معاناة فقدان السند أو العينين أو الساق أو اليد، مِن جَشَعِ تجّارِ الحرب وأثريائها “القِطط السِّمان”، ومِن خواء الجيوب وارتفاع الأسعار بلا رقيب أو كابح فأصبحوا فرائس الجوع والبرد وعذابهما قبل “رحمة” الموت بطيئه أو عاجله!.

هي فرصة تاريخيّة تؤمّنُها روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، والشعوب وقواها الحيّة الذكية في الحكم أو المعارضة هي التي تغتنم هذه الفرَص لتأمين مصالحها الوطنية بعيدا عن قبضة الغرب الاستعماري النيوليبرالي المتوحش الذي يرسل إلى أفواهنا طلقات الرصاص ويمنع عنها لُقُمات الخبز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى