صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: يوميات ‘شيخ المدينة’ أو رحلة عيسى البكوش مع المسؤولية..

slama
كتب: نوفل سلامة

هو الكتاب العاشر في سلسلة إصدارات عيسى البكوش الأستاذ الجامعي والباحث في قضايا الاجتماع والعمران والكاتب الصحفي، وقبل ذلك السياسي الذي كان شاهدا على عصر ولى وانقضى وأحد الشخصيات التي عايشت تقلبات الحكم منذ التأسيس الأول للجمهورية في الزمن البورقيبي مرورا بمرحلة حكم الرئيس بن علي وصولا إلى مرحلة الثورة….

وهو في كل ذلك الرجل الذي بقي وفيا إلى تاريخ قريته أريانة كما يحلو له أن يناديها وعاشقا لهذه المدينة الراسخة في القدم، والتي يعود تأسيسها حسب بعض الروايات التاريخية إلى حقبة الرومان وفي أخرى إلى فترة الجرمان عشق الوليد لأمه…

عيسى البكوش قد تتفق وقد تختلف معه في الكثير من المواقف و القضايا خاصة فيما تعلق بالفترة البورقيبية، وكل ما حصل فيها من انحراف بالسلطة والخيارات السياسية والتنموية التي مهدت الطريق إلى مجيء الرئيس بن علي وعجلت بحدوث الثورة على منظومة حكم كاملة دامت ما يقارب النصف قرن وهي المرحلة التي كانت حالمة ومتفائلة وكان سقف الرهان حولها عاليا في تحقيق الطموحات قبل أن تعرف انحرافا وحيادا عن مسارها و ضلت طريقها الصحيح ما عجل بحصول المنعرج الكبير مع حدث 25 جويلية 2021 وما نعيشه اليوم من مشهد لا أحد يعرف مصيره أو يتكهن به…

من الدستوريين القدامى

الأستاذ عيسى البكوش من الدستوريين القدامى المحسوبين على الشق الديمقراطي في الحزب الدستوري في الزمن البورقيبي و من بناة الدولة الحديثة، قد خرج علينا هذه المرة بإصدار جديد سماه “يوميات شيخ المدينة ” صادر عن دار نقوش عربية 2023 عدد صفحاته 215 صفحة يحكي فيه تجربته التي قادته إلى رئاسة بلدية أريانة خلال خماسية كاملة من سنة 1980 وسنة 1985 بعد انتخابات بلدية تجري لأول مرة في تونس، بعد أن كان تقلد هذا المنصب وتعيين رؤساء البلديات يقع من طرف السلطة التنفيذية بقرار من الحزب الحاكم لقناعة كانت راسخة حكمت تسيير دواليب الدولة تعتبر أن المسؤولية على المستوى المحلي والجهوي يجب أن تمنح لأفراد تابعين للحزب الحاكم ومن الموالين له حتى تقدر الدولة على بسط نفوذها و قبضتها على المجتمع…

انفراج سياسي

غير أن المناخ الذي ساد في بداية الثمانينات من القرن الماضي كان مناخا عرفت فيه البلاد قدرا من الانفتاح الديمقراطي وبداية انفراج سياسي بعد مرحلة طويلة من الإنغلاق السياسي والتضييق على الحريات ورفض لكل صوت معارض حيث قررت الدولة أن تجري تجربة انتخابات ديمقراطية على المستوى المحلي فكانت انتخابات البلدية لسنة 1980 التي ترشح لها العديد من الشخصيات الوطنية وكان الفوز فيها للكثير من الشخصيات المستقلة وكان فوز عيسى البكوش فيها بطريقة طريفة بفضل تصويت كل النساء الذين يشكلون المجلس البلدي لفائدته على حساب المرشح الآخر وكان من عنصر النساء…

رفض المنصب!

بهذه الانتخابات الديمقراطية التي وصفت بـ الشفافة والنزيهة بدأت رحلة الرجل مع تجربة التسيير البلدي ورحلة أخرى من تحمل المسؤولية بعد تحمل الأمانة العامة لاتحاد الطلبة في أواخر الستينات من القرن الماضي حيث قادت عيسى البكوش الأقدار إلى العمل البلدي في وقت كانت النية متجهة إلى تسليمه مقاليد الإشراف على ولاية مدينة تونس وتسميته واليا عليها بعد أن زكاه إدريس قيقة وزير الداخلية حينها ودافع عنه، إلا أن عيسى البكوش قد اعتذر عن تسلم هذه المهمة وأعلمه بأنه ليس هو الرجل المناسب لمثل هذا المنصب واعتذر بكل لطف في ذلك الزمان الذي كان فيه السباق على المناصب على أشدّه ومحموما الأمر الذي أغضب وزير الداخلية الذي انتفض من فوق كرسيه واقفا على ما نقله صاحب الكتاب واعتبر رفضه تنكرا وتنصلا من تحمل مسؤولية خدمة البلاد…

هذا الموقف الرافض لتولي حقيبة ولاية تونس يحيلنا على فكرة مهمة ونراها تغيب اليوم وهي أن تحمل المسؤوليات تحتاج إلى مواصفات معينة ويتعين توفرها في الشخص المقترح واستعدادا خاصا وظروف عمل ملائمة فالأشخاص قد يصلحون لمناصب ولا يصلحون لأخرى و كل الاشخاص قد لا يصلحون لكل المناصب لذلك اعتبر عيسى البكوش أنه لا يصلح أن يكون واليا وأنه قد يفيد أكثر في مناصب ومهمات أخرى يراها أكثر توافقا مع قدراته وما يريد تحقيقه .. رفض عيسى البكوش أن يكون واليا لقناعة حصلت لديه أنه لن يستطيع أن يقدم الإضافة في منصب في تلك الظروف والصورة التي كان عليها الوالي في الزمن البورقيبي وبتلك الصلاحيات الممنوحة له وهامش التحرك والحرية التي يرى عيسى البكوش أنها لا تكفي لخدمة البلاد والعباد على الوجه الاكمل…

كيف يمكن أن نصنف كتاب يوميات شيخ المدينة الذي يحكي رحلة مسؤول بلدي من الجماعة المثقفة والمفكرة في البلاد وأحد رموز الحركة الطلابية في الزمن البورقيبي وكيف نموقع عيسى البكوش وهو من المثقفين القلائل الذي تسلموا مسؤولية الإشراف على بلدية وإدارة السلطة المحلية فهو مع الأستاذ محمد الهادي خليل الوحيدين الذين انتقلوا من حالة الفكر والثقافة وكل ما هو تصورات نظرية الى حالة العمل الميداني و التعامل مع المشاكل اليومية للمواطن.
فهل هو كتاب يحكي سيرة ذاتية لعيسى البكوس السياسي البورقيبي من الرعيل الأول ورجل الفكر والثقافة ؟ أم هو شهادة على عصر ولى وانقضى كان فيه العمل البلدي في خدمة الشعب وملتصق بهموم الناس وشواغلهم اليومية ؟ أم هو وثيقة تؤرخ لمرحلة من مراحل العمل البلدي في تونس عرفت فيها البلاد انتخابات محلية حرة ونزيهة لأول مرة.

أزهى فترات أريانة

إذا تجاوزنا مسألة عنوان الكتاب وتركنا جانبا مناقشة اعتبار عيسى البكوش شيخا لمدينة أريانة أم لا خاصة و أن المتعارف عليه أن هذا اللقب يمنح حصريا لرئيس بلدية تونس العاصمة كما هو حال السيدة سعاد عبد الرحيم آخر رئيس بلدية لمدينة تونس يمنح له لقب شيخ المدينة، فإننا نعتبر أن الكتاب قد كتب على نفس نمط كتاب توفيق الحكيم ” يوميات نائب في الأرياف ” وكتاب الأستاذ الطاهر بوسمة ” مذكرات وال في الزمن البورقيبي ” يحكي فيه عيسى البكوش تجربة خمس سنوات من التسيير المحلي والعمل البلدي بكل تفرعاتها وتفاصيلها الدقيقة وأحداثها ووقائعها عرفت فيها مدينة أريانة أزهى فتراتها وأبهى حلتها بعد مرحلة أولى قادها المرحوم مصطفى الحجيج كانت هي الأخرى مميزة بما تحقق فيها من إنجازات لا تزال إلى اليوم آثارها بادية ..
يوميات مسؤول بلدي تحدث فيها عيسى البكوش عن كل شيء بداية من المبنى الذي احتضن مقر البلدية وتاريخه وكيف تحول من قصر للبايات إلى مقر للبلدية وما قام به بمعية المجلس البلدي المنتخب من أعمال لفائدة موظفي البلدية وعمالها حتى تتوفر لهم الظروف المعيشية المريحة ومنحهم الطمأنينة المطلوبة على المستقبل حتى ينصرفوا إلى خدمة السكان وهم في راحة من البال ودون منغصات الحياة لقناعة نجدها اليوم تغيب من أن الموظف لا يمكن له أن يخدم الأهالي إذا كان قلقا في حياته ومنشغلا على مستقبله، لذلك كان الحرص الأول للمجلس البلدي حتى تنجح التجربة مسلط في المقام الأول على اتخاذ الإجراءات لطمأنة العمال والموظفين على حياتهم من ترسيم ومرتب محترم وجراية عمرية بعد الإحالة على التقاعد مع تغطية صحية مناسبة وحتى توفير قطعة أرض صالحة لبناء مسكن الحياة.

في الكتاب حديث ممتع عن بداية المغامرة لتهذيب مدينة أريانة وتنظيم مجالها العمراني من خلال القضاء على ما كان يسمى بحزام الفقر بإزالة كل المباني التي شيّدت بطريقة عشوائية وبطريقة غير قانونية فكانت تجربة مهمة مع ازالة الأحياء التي بنيت تحت جنح الظلام من أمثال “حي نقز” و “حي الليل ” وغيرهما وتجربة إنسانية في التعامل مع أصحاب هذه البيوت الفوضوية وكل المحاولات لإقناعهم بإخلاء الأراضي والحصول على تعويضات وبدائل عما بنوه تكون مقبولة من دون إحداث هزات اجتماعية ولا غضب قد يتحول إلى ارتكاب ما لا يحمد عقباه.

أريانة القديمة

في الكتاب حديث آخر عن معالم مدينة أريانة وأزقتها ودورها القديمة وأنهجها وشوارعها وعن العمل الكبير الذي بذل للحفاظ على العمارة القديمة، وكل الإرث من التاريخ القديم الذي امتزجت فيه الروح الإسلامية باليهودية والمسيحية وتلاقت في مجتمع صغير عرف كيف يحقق التعايش المشترك والتسامح الديني، وكيف تحول المجال الجغرافي نتيجة حركة التحديث المفرطة والسريعة التي قادتها دولة الاستقلال وكيف تحولت قرية فلاحية بقصورها التاريخية وجنانها الرائعة ومزارعها الوافرة إلى مدينة عصرية بمكونات أخرى ومختلفة افقدت المدينة القديمة رونقها وطابعها وقضى على خطها الأخضر الذي يمتد من منطقة المنار حاليا إلى شاطئ رواد…

شخصيات وطنية

في الكتاب حديث عن شخصيات كثيرة وطنية ومحلية في مجالات عديدة واختصاصات متنوعة وعن شخصيات أخرى منسية تغافل عنها الزمن وتركتها الذاكرة من أمثال الطبيب الطاهر بن عز الدين والأستاذ عبد الرحمان الخبثاني وشقيقه المناضل الزيتوني أحمد الخبثاني والصحفي إبراهيم المحواشي وغيرهم كثير .. وحديث عن ذكريات الماضي القريب الذي لن يعود وعن أيام كانت فيها المسؤولية مختلفة عما هي عليها اليوم .. حديث عن الأماكن القديمة والحانات التي أغلقت أبوابها ومقاهي الذاكرة كمقهى الشاذلي التي احتضنت أعيان القرية وجل رجال التربية ومقهى يوسف التي كان يرتادها المسؤولون عن الجمعية الرياضية ومقهى الجمهورية ومن إسمها نتعرف على روادها من المتقاعدين من مختلف الحرف وكانت فضاء لعقد الصفقات حول العقارات المبنية وغير المبنية ومقهى محمد الصالح التي آوت عديد الاجتماعات قبل الاستقلال والخطب الحماسية للزعيم عزوز الرباعي .. وحديث عن الملعب البلدي والمسلخ والسوق البلدي و كل ما شيد من مدارس ومكتبات للمطالعة وبيوت العبادة وأعلامها من العلماء والمشايخ من أمثال محمد الكلبوسي ومحمد الزغواني وحسن الخياري والصادق بسسيس والطاهر بن سعيد جدّ الرئيس قيس سعيّد والفاضل العبدلي وغيرهم وحديث عن جامع الإمام البخاري الذي كان من المفترض أن يشيد فوق الأرض التي تعرف اليوم
بـ »الشوقافية ” أو رحبة الغنم والمكان الذي يباع فيه الأجر وهو عقار كان قد اقتناه علي بن تنفوس من ورثة ” بونان Bonnan ” وتعذر عليه شراء جزء ضئيل يقدر بـ 120 جزء فتعطل البناء وبقي العقار إلى اليوم على حاله.
وحديث عن الجوانب الثقافية التي اعتنت بها البلدية أهمها كان تنظيم مهرجان عيد الورد لربط حاضر السكان بماضيهم والقرار الذي اتخذ بتحويل وردة أريانة إلى شعار للمدينة و هو المجسم الذي كان قد انجزه الفنان التشكيلي وأحد أبنائها الهادي السلمي ( 1934 / 1995 ) في شكل حسناء تحمل في يدها اليسرى باقة من الورد وفي اليمنى وردة للقادم نحوها من الزائرين قبل أن يتم اقتلاع المجسم من مكانه بعد انقلاب السابع من نوفمبر ويلقى به في غياهب المستودع البلدي مع تحطيم جدارية أخرى للزعيم الحبيب بورقيبة وهو في منفاه بجزيرة جالطة كانت موجودة بساحة الشهداء من تصميم نفس الفنان حيث ضريح المجاهد عمار المعروفي لمحو مرحلة كاملة من تاريخ تونس والرئيس بورقيبة لا يزال على قيد الحياة.

مشاريع معطلة

في الكتاب حديث مؤلم عن المشاريع التي بقيت على الرفوف دون انجاز بعد أن انتهت عهدة الفريق البلدي وغادرت الجماعة المنتخبة المسؤولية .. وحديث عن مدينة أريانة في سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي وكل تلك الحياة الجميلة العذبة الهادئة التي عاشها الأهالي في ذلك الزمان وسهراتها الفنية ومهرجانها الصيفي وما كان يدور في أهم شارع لها وكان يسمى ” شارع فرنسا ” قبل أن تتغير تسميته إلى ” شارع الحبيب بورقيبة ” من ارتياد المقاهي والمطاعم المتواجدة به والجلوس بها و الاستماع إلى انغام الموسيقى الشجية المنبعثة من ماكينات الموسيقى ورائحة الفل والياسمين الفواحة تغطى المكان يعرضها فوق سلات السعف بائع الورد المكنى ” بالفكرون ” وتمضي الأوقات في هذا الشارع وكل شوارع أريانة وبيوتها مسرعة في لمح البصر من دون أن يشعر بها أحد في ثوان معدودات.
حديث عن تاريخ الزاوية ومقام سيدي عمار المعروفي المجاهد القادم من مدينة الأغالبة لمحاربة النصارى ورد الغارة الافرنجية الصليبية على تونس بقيادة لويس التاسع فاستشهد في ضاحية قرطاج فأكرموا الأريانية مثواه وقدروا جهده فأقاموا له زاوية تكون مزارا تحول مع الزمن إلى مقام للتبرك وأهم معلم ديني عرفت به أريانة مع وردها ونسائم هوائها العليل.
وحديث عن المهندس الأمريكي ” كرنوا ” الذي كان سببا فيما حصل لأريانة من توسع عمراني في أواسط الستينات من القرن الماضي و بداية التمدد السكاني فوق هضبة تعرف اليوم بالمنزه الخامس وأنجز بها مساكن عصرية بلغ عددها 400 مسكن في زمن كان فيه الأريانية لا يرغبون في الخروج من مدينتهم ولا يقبلون بالمجازفة والمخاطرة فكانت النتيجة التي نراها اليوم ونشهدها مع ما أصبحت تحتله هذه الجهة من المنازه من قيمة ومكانة، ومنذ تلك التجربة التي تحسب لهذا الأمريكي قامت الدولة بعملية توسع كبرى شملت مناطق فلاحية كثيرة من أراضي أريانة التاريخية تجد حديثا عنها مفصلا في الكتاب..

تجربة ثرية

حديث يوميات عاشها المسؤول البلدي بكل تفاصيلها وتفرعاتها حاول عيسى البكوش أن يقدمها شهادة للتاريخ وتأريخ للذاكرة الوطنية عن سردية مدينة وحكاية قرية صور فيها كيف كان العمل البلدي وكيف استطاعت نخبة من الأفراد المنتخبين أن يخدموا الصالح العام بإمكانيات المرحلة وظرف زمانهم وبكثير من الحماس والإرادة القوية فحالفهم النجاح وحصلت لهم خيبات ولكن في النهاية كانت تجربة ثرية سعى الكتاب أن يؤرخ لها ويبرزها كتجربة حقيقية و يمكن الاستئناس بها.
كتاب يوميات شيخ المدينة هو كتاب مهم جدير بالقراءة والتمعن والتدبر والتفكر والاعتبار حوى الكثير من القضايا التي تعود صورها اليوم رغم بعد المسافة .. هو من الكتب التي أحببتها للأستاذ عيسى البكوش وشدتني إليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى