صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ ملف البنوك: تنامي الانتهاكات والتجاوزات في ظل شل الرقابة المصرفية

slama
كتب: نوفل سلامة

ليست هي المرة الأولى التي يفتح فيها ملف البنوك في تونس في مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، كما لم تكن المرة الأولى التي تُخصص فيها المؤسسة ضمن سيمناراتها للذاكرة الوطنية ندوة فكرية حول القطاع البنكي…

أسئلة وإشكاليات

فقد كانت المؤسسة بعد الثورة منبرا حرا فتحت فيه جدلا فكريا ونقاشا موسعا حول المسألة البنكية وما تثيره ولا زالت من أسئلة و إشكاليات وصلت الى حد التخوفات والقلق والحيرة دعت إليها العديد من المختصين والمهتمين بالشأن المالي والاقتصادي لفهم هذا الملف المتشعب و المعقد والمتداخل..
وندوة يوم السبت 26 أكتوبر 2024 تأتي في هذا السياق من الاهتمام خاصة وأن البلاد مقبلة على تنقيح تشريعي هام هو الآن على طاولة اللجنة المالية بمجلس نواب الشعب لمراجعة مسألة استقلالية البنك المركزي التي ثبّتها القانون عدد 35 لسنة 2016 الذي منع على الدولة الاقتراض من البنك المركزي لتمويل ميزانية الدولة بشكل مباشر، وفي المقابل جعل البنوك هي المقرض الأساسي للدولة بنسب فائدة مرتفعة فضلا عن تخليه عن لعب أدواره الضرورية من محاسبة ومراقبة لحركة المال والعلاقة بين البنوك وحرفائها سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو معنويين…

الهيكلة البنكية

لكن الجديد هذه المرة كان موضوع الهيكلة البنكية ومسألة المساءلة والرقابة على نشاط البنوك وكل التجاوزات والإخلالات التي ترتكبها و تم رصدها من قبل الهيئات والجهات المختصة وكل المتابعين للنشاط البنكي.
للحديث حول هذه الجوانب الهامة والحساسة في ملف المؤسسات البنكية كان اللقاء مع عبد الرزاق حواص الناطق باسم الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة ولسعد الذوادي الناشط في المجتمع المدني والخبير في مجال المحاسبة المالية، وهو لقاء أكدت فيه المؤسسة على أن الغاية من ورائه هي الفهم والنقاش وإصلاح الأخطاء أكثر منه شيطنة القطاع البنكي أو التحامل عليه.
أهم الأفكار التي تم تداولها والتركيز عليها أن البنك المركزي هو في حقيقته مؤسسة مستقلة في قراراتها المالية لكن ما حصل مع القانون عدد 35 لسنة 2016 أنه تم منع الدولة من التدخل في القطاع البنكي بما جعل هذه الأخيرة تتغول يعطيها سلطة واسعة لجني أرباح كبيرة في عملية نقل واستنساخ لما أقرته اتفاقية ” ليزبون “وتشريعات الاتحاد الأوروبي في المجال البنكي وقد اتضح أن وراء هذا الإجراء إملاءات صندوق النقد الدولي مما نتج عنه صعوبة في لجوء الدولة إلى الاقتراض من البنك المركزي، ومن تداعياته صعوبة في إعداد ميزانية سنوية من دون اللجوء إلى ميزانية تكميلية وقد تم تبرير هذا الإجراء الذي فك ارتباط الدولة والعلاقة مع البنك المركزي بكون البنوك هي وسيط مالي وهي الوحيدة المخول لها منح القروض مقابل نسب فائدة تحددها اتضح أنها تحقق بفضلها هامشا من الأرباح معتبرة، وأمام هذا الإشكال حاولت الدولة تدارك الأمر من خلال إصدار تشريع في سنة 2021 لإنشاء صندوق لتمويل الدولة الفكرة المستوحاة هي الأخرى من تجربة البنوك الأوروبية التي أثبتت تجربتها أنها لم تنقذ الدول الأوروبية من أزمتها المالية.

مؤسسات الإيجار المالي

تم الحديث عن مؤسسات الإيجار المالي التي ينظمها قانون سنة 1991 و اتضح أن نشاطها مخالف للمعاهدة الدولية المبرمة في مدينة روما في مسألة اعتمادها في منح قروضها على فكرة الإكراه في المعاملات وتكييفها للعلاقة القائمة بينها وبين حرفائها على أنها علاقة كراء وأن الحريف في وضعية المتسوغ بالنسبة لها، في حين أن الأصل في الأشياء أنها مؤسسة اقتراض تمنح حرفائها مبالغ مالية لتمويل شراء سيارات وعربات نقل هي في الأصل ملكية خاصة للحريف مقابل تقديم ضمان يقع الاتفاق عليه لكن ما حصل أن الطرف التونسي قد غيّر بنود الاتفاقية الأوروبية وحول الموضوع إلى علاقة كرائية بين الحريف ومؤسسة الإيجار المالي!! وبذلك يتعرض الحريف في صورة عدم خلاص الأقساط المحمولة عليه إلى فقدان سيارته وبيعها وفقدان كل حق له على السيارة وهذا الاجراء الذي تتبعه هذه المؤسسات للإيجار المالي قد أصبح متبعا لدى كل البنوك الأخرى لكونه مربحا للغاية. الإشكال الذي تثيره هذه الوضعية في كون هذا النوع من المعاملات لا يمكن أن يتواصل أكثر خاصة وأن الاقتصاد التونسي يحتاج اليوم إلى منظومة بنكية جديدة حتى يستطيع أن ينطلق من جديد على أسس سليمة وشفافة.

ضعف أدوات المراقبة

من القضايا الأخرى التي أثيرت في هذه الندوة موضوع لجنة العقوبات المحدثة بمقتضى الفصل 172 من القانون البنكي المخول لها إصدار عقوبات والتي بقيت معطلة لغياب النصوص التطبيقية المسهلة لعملها وكذلك تركيبتها الحالية التي بقيت إلى اليوم فاقدة للعدد المطلوب وهو 40 عضوا ودون النصاب المستوجب وهو الخلل الذي أشار إليه صندوق النقد الدولي في تقريره لسنة 2014 الذي تناول فيه نشاط البنك المركزي إضافة إلى ضعف الأدوات والوسائل الممنوحة لهذه اللجنة للقيام بمهمتها الرقابية خاصة في مجال الإعلامية وقاعدة البيانات والبرمجيات القديمة غير الملائمة للعمل علما وأن البنوك ترفض تحسينها وتطويرها لأن الوضعية الحالية تلائمها وتستفيد منها.

لا صلاحيات تأديبية

من الاخلالات الأخرى التي تم تناولها في علاقة بنشاط البنوك مسألة غياب الإجراءات الموحدة و التناسق بين الفروع البنكية في أخذ القرارات وتسوية حالات تشكي الحرفاء بما يجعل كل بنك يتصرف وفق مزاجه وانطباعه وقراره الخاص ومسألة غياب التأهيل والمعرفة الكاملة لدى الموظفين المتخصصين في التعامل مع الحرفاء و ضعف التنسيق بين الهيئات الرقابية مع عدم استكمال النصوص الترتيبية و عدم تفعيل البنك المركزي صلاحياته التأديبية للبنوك سواء كانت خاصة أو عمومية..

وهنا يجدر التذكير إلى أن تقرير محكمة المحاسبات قد ذكر جملة من العقوبات لم يقع تنفيذها إضافة إلى غياب منشور يضبط النسبة التي يستخلصها البنك المركزي من البنوك وموضوع لجنة الرقابة المصرفية التابعة له وهي هيئة ولدت ميتة وبقيت مهجورة وهنا يأتي الحديث عن المنصة الالكترونية التي جاء بها التشريع الأخير لتنقيح بعض فصول المجلة الجزائية المتعلقة بإصدار الشيك دون رصيد لتشبيك المعلومات المالية والتي من المفروض أن تجمع المعطيات عند البنك المركزي وتوفر قاعدة للبيانات المالية للحرفاء والبنوك موحدة وأخيرا إشكال تفسير وفهم النصوص البنكية المطبقة والتي تختلف من بنك الى آخر ما يتجه معه الأمر إلى توحيد إجراءات الفهم والتفسير.

إرسال الوثائق أيضا

موضوع الوثائق الواجب على البنوك إرسالها إلى لجنة الرقابة البنكية كان من القضايا التي ركزت عليها هذه الندوة وهي قضية أثبت تقرير دائرة المحاسبات أن البنوك لا ترسل جميع ما يُطلب منها وإنما يحصل ذلك بنسب متفاوتة من بنك إلى آخر مما يجعل النظرة الموضوعية للبنوك أو دراسة الملفات غير مكتملة وهي الحالة التي أفرزت وجود ثمانية بنوك لم تحترم المعايير الدولية في توزيع المخاطر وهذا فيه مس بمسألة شفافية الخدمات وحقوق المستهلكين وأخيرا مسألة تراجع جدوى آلية التشكي وفض النزاعات قبل اللجوء إلى التقاضي التي اتضح أنها غالبا ما تكون في مصلحة البنك لا الحريف.

اقتراحات للإصلاح

لكل هذه التجاوزات والهنات انتهت الندوة إلى تقديم جملة من الاقتراحات تضاف إلى ملف إصلاح القطاع البنكي منها ضرورة القيام بمراجعة جذرية لكل القوانين والتشريعات الخاصة بمكافحة الجرائم المالية وتبييض الأموال وما تعلق بهما مع تغيير الطريقة في التعامل مع هذا النوع من الجرائم و تعزيز ضوابط رأس المال البنكي وتطوير الحوكمة المتبعة من قبل المؤسسات البنكية والقيام بتحديث نظام رقابة داخلي بالإضافة إلى الرقابة الخارجية للبنك المركزي وهنا تم التأكيد على أن مراقب الحسابات في كل البنوك لم يمض على حسابات البطاقات البنكية لوجود عدد من المعطيات غير المفهومة.
من مقترحات الإصلاح الأخرى إيلاء موضوع تدريب الموظفين وتأهيلهم العناية التي تستحق لضمان توفير خدمات في المستوى المطلوب وضرورة احترام المعايير الرقابية المتبعة دوليا والأهم من ذلك التسلح بالجرأة لتسليط العقوبات عند الاقتضاء عند ارتكاب البنك لخطأ فادح من عقوبات مالية والحرمان من ممارسة نشاط معين أو سحب الترخيص عند الاقتضاء وهي عقوبة لم تفعل بتاتا.
هذه الندوة بدأت قلقة وانتهت حالمة ومتفائلة رغم وعرة الطريق وكثرة المنعرجات والمطبات ومحاولات تثبيت الإحباط .. ولكن المهم المفيد هو هذا الحرص وهذه الإرادة والعزيمة في البقاء على عهد الإصلاح للارتقاء بالبلاد الى قادم أفضل ومستقبل أحسن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى