صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ مسلسل معاوية: إشكالية القديم والجديد تفجّرت منذ زمن الإسلام المبكر..

slama
كتب: نوفل سلامة

من بين الأعمال الدرامية التي شدّت إليها المشاهد العربي والمشاهد التونسي في رمضان هذا العام مسلسل معاوية الضخم ماليا وفنيا الذي سُمح له أخيرا بالبث في القنوات العربية..

مسلسل معاوية ظهر بعد سنوات من المنع بسبب اعتراض بعض الجهات الدينية الإسلامية، وعدم موافقتها على مضمونه و حبكته الدرامية والقراءة التاريخية التي اعتمدها للحديث عن أخطر مرحلة عرفها العالم الإسلامي لا تزال أسبابها ونتائجها وتداعياتها إلى اليوم متحكمة في الواقع والفكر…

معالجة درامية تاريخية

وهي معالجة تاريخية درامية يراها المانعون في حاجة إلى الكثير من التصويب وخاصة ما تعلق منها بأحداث الفتنة الكبرى، وما حصل فيها من اقتتال بين المسلمين صحابة وتابعين وما قد يتسبب فيه المسلسل من تذكية لمشاعر الكراهية واستعادة لـ روح الحقد والتخوين بين أبناء المذهب السني والمذهب الشيعي فضلا عن اعتراض آخر يتعلق بالخلاف حول جواز تجسيد الصحابة الكبار والخلفاء الراشدين واظاهر صورهم، حيث ظهر في هذا المسلسل الكثير من الصحابة الأوائل من قادة الإسلام المبكر..

شخصية ‘الأشتر’

في إحدى حلقات هذا مسلسل الحدث ظهرت شخصية معروفة في التاريخ الإسلامي تحت إسم ‘الأشتر’ وهو لقب عُرف به مالك بن الحارث النخعي أحد التابعين من الذين حظوا بشهرة واسعة في زمانه، بسبب مواقفه المعارضة لما نسب للخليفة عثمان بن عفان من شبهات فساد في إدارة الحكم وإدارة شأن المسلمين وتهمة تعيينه لأقربائه من بني أمية وفشله في إدارة مال المسلمين…

رجل مهاب

هذا التابعي يقول عنه كل من أرّخ لسيرته أنه كان رجلا مهابا في قومه مسموعا غيورا على الإسلام، ومقاتلا شرسا في الحروب التي خاضها مع المسلمين وخاصة في معركة اليرموك في زمن الخليفة عمر بن الخطاب..ولُقِب بالأشتر بعد أن تعرض إلى إصابة في عينه على مستوى الجفن..
وقد ذكرت كتب التراجم أنه رغم هذه الصفات النبيلة كان سليط اللسان وسيء الطِباع حيث ينقل عن عمر بن الخطاب لما رآه أنه قال سوف ينال المسلمين من ورائه أياما وظهور هذه الشخصية في سرد الأحداث التاريخية، في هذا المسلسل جاء في سياق الأزمة السياسية التي تعرض إليها الخليفة عثمان بن عفان بعد أن حوصر بالشائعات والاتهامات حتى وصل الأمر إلى تأليب الناس عليه ومطالبته بالتنحي عن الخلافة، وقد تزعم الثورة على الخليفة الاشطر الذي جمع حوله مجموعة من الفرسان المقاتلين وبدأ في حملته لإسقاط الخليفة.

أرسله إلى معاوية

ولما بلغ الأمر إلى عثمان بن عفان وشعر بخطورة تحرك الأشتر وجماعته على استقرار الحكم فكر في طريقة للتعامل معه من دون سجنه والحكم عليه بسبب خروجه عن طاعة الخليفة، فتوصل إلى قرار إخراجه هو وجماعته من الكوفة وأرسله إلى الشام عند معاوية بن أبي سفيان في محاولة لاحتوائه وتليين موقفه غير أن معاوية قد فشل في رده عن تصرفاته ومواقفه واختلف معه، بل زاد الأشتر أن انتقد تصرفات معاوية ولامه على مظاهر البذخ البادية عليه وحد القول له فقرّر هو الأخير طرده من الشام وإرساله مع جماعته إلى اللاذقية…

عمق الأزمة

قيمة هذه الحادثة التي حصلت مع الأشتر في كونها تصور عمق الأزمة التي لاتزال متواصلة منذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا، وهي أزمة المثال الأول للإسلام المبكر وأزمة علاقة المسلم بالمتغيرات والحادثات من الحياة…
وسؤال كيف نتعامل مع الوافد الجديد ومع الآخر المختلف عنا والمؤثر في واقعنا بكل قوة، فـ ‘الأشتر’ يعبر عن الموقف الذي يرى أن الدين يجب أن لا يخرج عن النموذج الأول كما صِيغ في زمن الرسول الأكرم وكما ظهر به الإسلام المبكر على أنه النسخة المثالية التي لا يمكن تجاوزها أو التعديل والزيادة فيها..
ومعاوية كان يعبر عن الإسلام الجديد بعد أن انتقل من مرحلة البناء والتأسيس الأول إلى مرحلة الانتشار وبناء الدولة والتفاعل مع الموجود ويعبر عن صورة الإسلام، لما ينفتح على حضارات وأقوام آخرين ومدنية أخرى والإسلام القادر على التأقلم مع حداثة عصره فالشام في زمن معاوية كانت حاضنة لثقافات كثيرة وحضارات مختلفة من روم والبيزنطيين ومسيحيين وحتى حضارة الفرس وثقافتهم..

واقع حضاري مختلف

والناس في ذلك الزمان قد تأثروا بكل هذا الخليط وطبعت حياتهم هذه الثقافة غير العربية وتوافقوا عليها وأصبحت نمط عيشهم وحينما جاء معاوية إلى الشام وجد واقعا حضاريا وثقافيا مختلفا عن بيئة العرب في مكة والمدينة، فـ استوعب هذا الواقع الجديد وتعايش مع قيم ومفاهيم ونمط عيش هذه الثقافات الوافدة من بيئات أخرى وحقق التزاوج والتمازج، فكانت أن ظهرت صورة جديدة للإسلام الحضاري الذي حافظ على روحه وأهدافه.

شكل مخالف

المشكل في موقف الاشطر فيما عاينه ووجده في الشام وانتقاده الوضع الجديد للحكم الذي يتبناه معاوية على أنه شكل مخالف وخارج عن النموذج الأول للإسلام كما صيغ في زمن الإسلام المبكر أنه موقف يعبر عن تدين محافظ يرفض التقدم ويجاهد من أجل إبقاء الإسلام، كما تشكل في صورته الأولى ويعارض أي تغيير فيه تحت أي مسوغ من المسوّغات أو سبب من الأسباب حتى وإن كان مسايرة التطور المفيد الذي لا يمكن إيقافه أو الأخذ من الآخر في مسائل ووضعيات مفيدة وهو يعبر عن فئة من المسلمين ماتزال إلى اليوم ترى أن الدين والإسلام يجب أن يبقى على شاكلة النمط القديم وصورة التأسيس الأول…

قضية جدلية

وهي قضية بقيت إلى اليوم محل صراع وجدل يعيشه المؤمن في كل زمان واشكالية لم تحل ولن تحل بما يفيد أن البدايات الأولى لإشكالية الأنا والآخر وقضية الأصالة والمعاصرة والتراث والتجديد ليست إشكالية معاصرة ظهرت مع صدمة الحداثة التي حصلت للعالم الإسلامي لما دخل نابليون إلى مصر..
وإنما هي قضية قديمة في تاريخنا قد تعود جذورها الأولى مع خروج الإسلام من موطنه الأول وانتقاله إلى بيئة أخرى لها مؤثرات أجنبية وتلاقيه مع ثقافات وأقوام أخرى فكان السؤال القديم الجديد كيف نتعامل مع منجز الحضارات الأخرى؟ وكيف نتعايش مع ثقافة وقيّم وأفكار ونمط عيش الآخرين المختلفين عنا؟
وهو سؤال كان وراءه جانب من الاختلاف الذي يشق المسلمين اليوم…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى