صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ كتاب ‘ليبيا العميقة’: حلم الاستقرار..وصعوبة الوصول إلى تسوية…

كتب: نوفل سلامة  

يعود الحديث مرة أخرى عن الملف الليبي الذي لم يعرف إلى حد اليوم تسوية تنهي حالة الغموض والترقب التي علقت به.. ويعود من جديد الحديث عن المسألة الليبية التي عرفت الكثير من العثرات رغم انعقاد العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية والإقليمية لإيجاد مخرج من المأزق السياسي الذي وقعت فيه ليبيا بعد سقوط نظام الرئيس معمر القذافي

مبادرات تسوية

وبعد جملة من مبادرات التسوية احتضنتها عواصم عربية وغربية من دون أن تفضي إلى حل ينهي حالة الفوضى وحالة انتشار السلاح والميلشيات وحالة الانقسام، ومشاريع التجزئة والصراع على السلطة ويؤسس ليبيا موحدة ودولة مدنية ديمقراطية تحقق آمال الشعب الليبي في العيش بأمان ورفاه وتتحقق في ظلها أهداف الثورة الليبية في بناء جمهورية تحمي مقدرات الشعب، ويستفيد فيها المواطن بقدر من عائداتها المالية وبنصيب من العدالة الاجتماعية في ظل سيادة وطنية على خيراتها واستقلال قرارها السياسي من دون تدخل من أي جهة كانت…

المسألة الليبية

وعودة الحديث عن الملف والمسألة الليبية كانت بمناسبة صدور كتاب ‘ليبيا العميقة : حتحات على ما فات؟’ عن دار يس للنشر مارس 2023 للباحث في العلاقات الدولية والمختص في الشأن الليبي والمغاربي الأستاذ البشير الجويني…

وهي عودة تزامنت مع ما يشهده السودان من توتر حاد على خلفية مطالبة الحراك الشعبي الذي تقوده المعارضة بعودة الديمقراطية وعودة الحكم للمدنيين والمطالبة بعودة الجيش إلى ثكناته والتطورات الخطيرة التي يعرفها النزاع المسلح بين أجنحة القوى الصلبة المؤسسة العسكرية وقوى الدعم السريع وهو صراع بقدر ما يهدد وحدة واستقرار السودان فهو كذلك مؤثر بقوة على أمن واستقرار ليبيا بصفتها من بلدان الجوار التي تتأثر بقوة بما يحصل على حدودها خاصة في هذه الظروف التي تمر بها وبحكم وجود الكثير من العلائق بين ما يحصل في ليبيا وما يحصل في بلدان الجوار، وبحكم الارتباطات الموجودة بين الفرقاء السياسيين في الداخل الليبي والقوى الإقليمية الأخرى.

الحالة الليبية

فكان اللقاء مع البشير الجويني في ندوة مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات يوم السبت 9 أفريل 2023 في ندوة خصصها للحديث عن الحالة الليبية في راهنيتها مع العودة إلى مجريات الأحداث منذ سقوط النظام الليبي في سنة 2011 والتوقف عند مسألة أهمية الاستقرار والوصول إلى حل وتسوية سياسية في ليبيا وتداعياته المباشرة والمؤثرة على الوضع في تونس.
الكتاب حافل بالكثير من المقالات التي كتبها المحاضر على فترات قاربت الخمس سنوات احتوت على الكثير من المعلومات التي تؤرخ للذاكرة الليبية في أبرز محطات أحداثها خلال عشرية الثورة والكثير من المعطيات المهمة التي تساعد على فهم ما حصل ويحصل في هذا البلد منذ القرار الذي اتخذ لإسقاط حكم الرئيس معمر القذافي مرورا بكل الأحداث الجسام التي عرفتها البلاد في علاقة بالصراع على الحكم بين الجهة الغربية والجهة الشرقية وبين حكومة الوفاق الوطني والمشير خليفة حفتر وفي علاقة بتدفق السلاح بكميات كبيرة من جهات كثيرة ومعه حديث مفصل وهام عن قدوم المقاتلين والمليشيات المسلحة التي تجاوزت الحضور الإرهابي والجماعات السلفية المقاتلة القادمة من بؤر التوتر في سوريا والعراق ليتم الحديث عن صورة مخيفة عن عدد المرتزقة المتواجدة في كامل التراب الليبي وهوياتهم والجهات المرتبطة بها وفي علاقة بالحضور الدولي المكثف والذي تعدى الحضور التركي والمصري و الإماراتي إلى دول أخرى غربية وأجنبية وكل مشاريع التسوية التي تقدموا بها وكل محاولات التسوية الأممية الفاشلة وكل المبادرات الدولية والإقليمية المتعثرة وفي علاقة بالدور الأمريكي والروسي لإنهاء الأزمة أو إدامتها وفي علاقة بالخيارات الممكنة والمتاحة للوصول إلى الحلم الليبي في إرساء دولة جديدة تقطع مع الحقبة القذافية وتنهي حالة الفوضى و هيمنة الأجنبي وتحكّم الانقسام وسيطرة الجماعات المسلحة والفرق المرتزقة التي غصّت بهم ليبيا.

أهم فكرة

أهم فكرة يركز عليها الكتاب ويدافع عنها الأستاذ البشير الجوينى هي أنه رغم تعقد المشهد الليبي وصعوبة الوصول إلى تسوية تنهي حالة الفوضى ورغم تعدد المؤثرين في الساحة الليبية وصعوبة الحسم في طبيعة الحل لإنهاء الأزمة و الذي يتراوح بين الخيار العسكري والسياسي وبين الحل الخارجي والداخلي وبين سيناريو الدولة الموحدة و فكرة التقسيم والتكامل فإن مسألة عودة الاستقرار إلى ليبيا بقدر ما هي مهمة للشعب الليبي، فإن لها أهمية مضاعفة للداخل التونسي لذلك فإنه من مصلحة الدولة التونسية أن يعود الهدوء والاستقرار للشقيقة ليبيا وهو مفيد بالدرجة الأولى للشعبين اللذين تربطهما تاريخيا علاقات تجارية واقتصادية متواصلة ووشائج وارتباطات عائلية وعلاقات نسب ووحدة المصير والتاريخ المشترك فليبيا كانت دوما حلا من حلول الممكنة للتخفيف من الضغوطات الاجتماعية بما توفره من مواطن شغل للكثير من التونسيين وبما تمثله من فرض استثمار وتصدير سلع وترويج للمنتجات المختلفة وراءها العديد من الشركات التونسية التي تنشط في هذا البلد من أجل ذلك كان عودة الاستقرار إلى ليبيا ضروري ومفيد لتونس.

المشهد الليبي

ولكن الجديد في هذه العلاقة المتينة التي تجمع البلدين هو أن ما حصل من ثورة في البلدين وما عرفه المشهد الليبي من كثير من التطورات والتغييرات المؤثرة سمحت بدخول فاعلين كثر عرب وغربيين و محاولتهم التأثير على القرار السياسي والظهور بمظهر الفاعل المؤثر في إيجاد تسوية للملف الليبي ومحاولة كل فاعل الظفر بصفقات تجارية ومشاريع استثمار وإبرام عقود تشغيل وعقود تجارية  قد قلص من الحضور التونسي وجعل الأسبقية لغير التونسيين وجعل الدولة التونسية تعرف منافسة قوية من طرف العديد من الدول التي نزلت بكل ثقلها للظفر بمكانة متقدمة في ليبيا…

ليبيا اليوم…بلد آخر

والجديد الآخر هو أنه نتيجة لكل التطورات التي شهدها الوضع في ليبيا خلال العشرية الأخيرة بعد الثورة الليبية فإن لم يعد من الممكن النظر إلى ليبيا على أنها مجرد سوق للسلع التونسية ومجال تصدير المنتجات لا غير وحل للدولة التونسية في التخفيف من وطأة البطالة لذلك فإن المطلوب اليوم هو تغيير نظرتنا إلى ليبيا وتحديث معطياتنا حول هذا البلد وأن نقطع مع الفكرة التي ورثناها من عقود على أننا اللاعب الوحيد واللاعب المميز.. اليوم ليبيا بعد القذافي بلد آخر، بلد متنافس عليه ومحل أنظار الكثير من القوى العالمية والإقليمية والجميع يريد أن تكون له المكانة الأولى في المعاملات التجارية وفي الاستثمار والمبادلات التجارية من أجل ذلك فإن المطلوب اليوم هو تغيير نظرتنا وفق تصور جديد للعلاقات يقوم على فكرة تبادل المنافع والمصالح المشتركة بدل تصور ليبيا سوق لتونس ..الواقع اليوم أن تونس خسرت الكثير من المواقع في ليبيا ولم تعد البلد الأول في التعامل معها بعد أن تراجعت كل القطاعات التي كانت متواجدة هناك والخدمات التي تقدمها تونس وخاصة القطاع الصحي والخدمات الطبية التي لم تعد تستهوي المواطن الليبي الذي خير اليوم وجهات أخرى وتحولت تونس إلى منطقة عبور لا غير نحو دول أجنبية..

علاقة ‘رابح..رابح’

اليوم لم يعد ممكنا المواصلة في ربط العلاقة بين البلدين وفق منطق الأخوة والتاريخ المشترك ووحدة المصير فهذا كله لم يعد يكفي في ظل الحضور الأجنبي المكثف في ليبيا .. اليوم القاعدة التي على أساسها تبنى العلاقة مع هذا البلد هي قاعدة الربح المتبادل والشراكات التي تحقق الفائدة للبلدين فهناك أشياء عند تونس وأشياء أخرى لدى ليبيا وأشياء يحتاجها كلا البلدين والمطلوب هو إرساء علاقات تجارية تقوم على التكامل الاندماجي بدل علاقة الترويج للسلع التونسية فقط.
المشكلة في كل هذه التحولات التي تشهدها ليبيا والتي جعلت مكانة تونس تتراجع في علاقة بالمسألة الاقتصادية والتجارية وفي علاقة بعملية التكامل الاقتصادي المطلوبة والمهمة للبلدين هي في غياب الاستقرار السياسي وفي تواجد العنصر الأجنبي بكثافة وفي تعثر الانتهاء من مرحلة الانتقال الديمقراطي التي أخذت وقتا طويلا دون أن تستكمل لتمر ليبيا إلى تأسيس الدولة الجديدة وفي هذا المستوى من التحليل فقد تعرض المحاضر بإطناب كبير إلى مسألة تواجد المرتزقة داخل التراب الليبي وخطر هذه الجماعات المسلحة على تحقيق السلم الأهلية وعلى إنهاء العملية السياسية والوصول إلى تسوية للملف الليبي حيث تواجدت بعد سقوط نظام معمر القذافي عشرات الجماعات المسلحة والفرق المرتزقة تابعة إلى جهات ودول أجنبية كثيرة حيث تم رصد مرتزقة من دولة النيجر ومن مالي ومن التشاد ومن السودان ومرتزقة من فرنسا وايطاليا وبريطانيا والإمارات العربية المتحدة مع التواجد التركي الرسمي من خلال إسناد الحكومة الشرعية بحوالي 5000 مقاتل تركي إلى جانب الجماعات الجهادية القادمة من سوريا والعراق وآخر هذه المجموعات المسلحة قدوم مرتزقة ” فاغنر ” الروسية والكثير من التشكيلات المسلحة الأخرى التي لها ارتباطات بجهات داخلية بما جعل ليبيا مسرحا لنزاع مسلح خطير يهدد أمن واستقرار ليبيا ويجعلها بلدا غير قابل للسيطرة ويلقي بظلاله على محيطها المغاربي وحدودها الافريقية ويهدد بالدرجة الأولى جارتها تونس لذلك كان تحقيق الاستقرار في هذا البلد ضروري للحفاظ على الأمن والاستقرار في تونس وقد اتضح ذلك جليا فيما يحصل اليوم في السودان من صراع على الحكم ومشاركة قوات خليفة حفتر في هذه المعركة الذي تربطه بقوات الدفع السريع السودانية علاقة كبيرة من خلال حضورها العسكري في ليبيا لإسناد هذا الأخير في معركته مع حكومة الوفاق الوطني.

تحديات كبرى

كانت هذه صورة موجزة عن الحالة الليبية وعن التحديات التي تواجه هذا البلد الذي يبحث عن استقراره وعن توازنه وعن خروجه من مأزق بناء الدولة وأزمة الحكم .. وكانت هذه فكرة حول الإكراهات والتحديات التي تحول دون تحقيق الاستقرار وما يعوق هذا البلد من الانطلاق نحو تحقيق ما يصبو إليه الشعب الليبي من أمن واستقرار ورفاه..
ولكن ما وقفنا عليه خلال هذه المحاضرة التي أتينا على قدر يسير منها أن الملف الليبي مركب ومعقد ومتداخل ومكبل بكثير من الإنسدادات وأن الحل هو كذلك صعب إن لم نقل مستحيلا في ظل هذا المشهد المأزوم بعد أن فشلت كل المبادرات السياسية الأممية وسقطت كل الحلول الاقليمية والعربية .. وما يجعل الحل صعبا كثرة الفاعلين فيه وكثرة المتدخلين وكثرة الخلافات وتضارب مصالح الفرقاء وقد زاد الوضع تعقيدا وتأزما وجعل الحل يتأخر تواجد المجموعات المسلحة وكثرة الفرق المرتزقة التي جعلت من الدولة الليبية غائبة وجعلت من السلطة الحاكمة ضعيفة وممزقة .. ما وقفنا عليه في هذه اللوحة المزركشة التي قدمها البشير الجويني عن الحالة والوضع الليبي في راهنيتها والتي صحّحت الكثير من المعلومات والمعطيات أن الحل في ليبيا لن يكون عسكريا ولا سياسيا كما لن يكون حلا داخليا ولا قرارا خارجيا وإنما الحل يكمن في كل هذا والصعوبة اليوم هو كيف يمكن الوصول إلى توليفة تجمع كل هذه العناصر معا.

يُنهي البشير الجويني هذه المحاضرة بالقول أنه طالما تواصل تغليب المصالح الذاتية على مصلحة ليبيا وطالما تواصل صراع الدول على نفط ليبيا مع تواجد الجماعات المرتزقة وطالما تواصل تدفق السلاح فإننا لن نصل إلى حل للملف الليبي رغم أن الشعب الليبي قد أبدى وعيا كبيرا بضرورة إنهاء الأزمة وعبر عن رغبة قوية في الذهاب إلى الانتخابات وتأسيس دولة ديمقراطية مدنية وإنهاء حالة الحرب والاقتتال…
المشكلة في ليبيا كما دونها الممثل الأممي ” غسان سلامة ” لإنهاء الأزمة الليبية تكمن في صعوبة الوصول إلى توافق حول مكانة المؤسسة العسكرية في عملية الحكم وإعطاء حظوة مطلوبة ومستحقة لبعض أجزاء ليبيا في علاقة بالتنمية وعائدات النفط..

مسألة حيوية

ما يهمنا في الأخير في علاقة بالوضع في تونس فإن مسألة الاستقرار السياسي في ليبيا مسألة حيوية للشعب التونسي حيث تبين أن تحقيق الاستقرار في ليبيا يحقق نسبة نمو تساوي 3.8 % وهي نسبة عالية جدا يحتاجها الاقتصاد والوضع الاجتماعي في تونس ولا تكلف بذل أي مجهود وهي مسألة على السياسي التونسي أن ينتبه إليها جديا وأن يعطيها الأولية القصوى من بين أوليات حكمه ويرسم لها الاستراتيجيات المتأكدة في ظل ليبيا جديدة النظرة إليها لم تعد كما هي والكل يتنافس عليها وفي ظل وضع جديد لم يعد هذا البلد مجرد سوق لبيع السلع التونسية أو توفير مواطن شعل للتونسيين فقط وفي ظل علاقات جديدة تقوم على قاعدة تبادل المنافع والمصالح بدل أن تكون ليبيا سوقا ترويجية للسلع والمنتجات التونسية لا غير.

فهل فهم السياسي التونسي هذه الحقائق؟…وهل استوعب الدرس أم مازال يتعامل مع ليبيا كما كانت في زمن التسعينات من القرن الماضي وبعقلية قديمة لم تعد تصلح اليوم؟  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى