صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب:/ على خلفية مطويات الأمم المتحدة للتربية الجنسية: حينما تتحايل الحداثة على الشعوب

slama
كتب: نوفل سلامة

خلّف التصرف الذي قامت به منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة في معرض تونس الدولي للكتاب لهذه السنة بتوزيعها لـ كتيبات صغيرة بالمجان تتناول موضوع التربية الجنسية موجهة للأطفال وللأولياء تتعرض إلى قضية المثلية الجنسية باستعمال اللهجة التونسية الدارجة مع توظيف الصور واستخدام طريقة السؤال والجواب صدمة كبرى عند الكثير من الذين تسلموا هذه الكتيبات واطلعوا عليها لخطورة ما جاء فيها من مضمون…

مضمون أعتُبر غير مقبول وغير مستساغ ولا يعكس طبيعة ثقافتنا ولا يمثل هويتنا وخصوصيتنا ومخالف لقيمنا وأساسيات المرجعية الثقافية التي تميز هذا البلد وخطرا على أبنائنا الصغار.
وخطورة الموضوع لا تتوقف عند مناقشة خيار تدريس الناشئة والأطفال الصغار مادة التربية الجنسية في السنوات الأولى في مدارسنا، و لا جدوى إدخال مادة الجنس في برامجنا التعليمية ومناهجنا التربوية بالنسبة لأقسام معينة، وتتعدى النقد الكبير الموجه إلى محتوى هذه المادة ومدى نجاعتها في تربية الناشئة تربية جنسية سليمة تحقق لهم حالة من الوعي مطلوبة وحالة من التوازن النفسي تؤهلهم للتعامل مع مختلف الوضعيات الجنسية التي تعترضهم وقدرتها على التقليل من منسوب الجرائم الجنسية داخل المدرسة وفي مختلف فضاءات المجتمع الأخرى…
وتتخطى سؤال طريقة تدريس هذه المادة وأهلية المدرس القائم على عملية التدريس هذه والقدرات المعرفية والبيداغوجية التي يتوفر عليها حتى لا ينحرف الدرس الجنسي و يتحول إلى مشكلة بعد أن كان حلا…

انحراف عن الطبيعة البشرية

الخطورة تجاوزت النقاش القديم الجديد حول موضوع المثلية الجنسية وقضية الزواج المثلي بعد أن تحول استعمال المصطلح أمام الرفض الكبير له من الحديث عن اللواط والسحاق وكل المضمون الديني الرافض له باعتباره انحرافا عن الطبيعة البشرية وشذوذا في السلوك إلى استعمال مصطلح ‘المثلية الجنسية’ للتخفيف من وقعه وإيجاد موطئ قدم له بيننا، وحالة من القبول به والحديث عن الخيار الأسرة القائمة على عنصرين من نفس الجنس، وقضية التخلي عن مفهوم الأسرة التقليدية القائمة على عنصرين مختلفين يكونان أسرة تضمن استمرار العنصر البشري وتحقق عملية الإنجاب الهدف الأساسي لبقاء الوجود والعالم والإنسان ليصبح الحديث عن الجنسية والجنسيات وحقوق الأقليات والمتحولين جنسيا.
الخطورة اليوم لم تعد قضية أقلية تبحث عن الاعتراف و تريد أن تعيش على طريقتها وتشكل نمط عيشها وتحدد طبيعة علاقاتها بمفردها من دون تدخل من أي جهة كانت ولا قضية حقوق إنسان تتطلب أن ندافع عنها ونتجنّد لتمكينها من الاعتراف و الوجود .. الخطورة تعدت كل تلك المحاور التي فرضت علينا في السابق وتم توجيهنا لمناقشتها نحو فرضها علينا من منظور فكرة العيش المشترك وحق الأقليات والحريات الفردية والحقوق الكونية والقيم الإنسانية..

تداعيات خطيرة

الخطورة تحولت إلى ما كشفت عنه عملية طوفان الأقصى وفضحته تداعيات حرب الإبادة على شعب غزة وتداعياتها الخطيرة على صورة النظام العالمي القائم ومنظومة قيمه وطبيعة حداثته وأفكار أنواره وثقافته ونظرياته وأخلاقه وقيمه، وهو مسار عالمي جديد جعل من موضوع توزيع هذه الكتيبات بهذا المضمون من طرف هيكل من هياكل الأمم المتحدة المؤسسة التي تمثل إحدى أذرع النظام العالمي الحالي لا يمكن فهمه فهما حقيقيا إلا إذا تجاوزنا النظرة المجزئة التي تعودنا عليها في التعاطي مع مثل هذه القضايا وأنزلنا هذا الحدث ضمن إطار اشمل وضمن مقاربة مركبة تقوم على ما يعرفه العالم بعد عملية طوفان الأقصى من نقاش واسع حول صلاحية منظومة القيم العالمية والنقد والمراجعة التي تعرفها منظوماته وهياكله ومؤسساتها التي اتضح أنها غير عادلة وظالمة وغير منصفة وغير محايدة وهي في خدمة الإنسان الغربي وقضاياه واستعملت للسيطرة على الشعوب والهيمنة عليها.

الهيمنة والتبعية

لا يمكن فهم ما يحصل لنا وما حصل في معرض تونس الدولي للكتاب وما قامت به اليونيسيف من دون ربط كل ذلك باستراتيجية الهيمنة والتبعية التي نبه إليها المفكر الفلسطيني ” إدوارد سعيد ” في نقده للاستشراق، وفضحها المفكر ” عبد الوهاب المسيري ” وكل المفكرين المناهضين لنظام العولمة والرافضين للفكر الكولونيالي في نسخته الجديدة المعدلة، لا يمكن فهم ما حدث في هذا المعرض إلا باستحضار ما قاله عبد الوهاب المسيري حول المثقف الوظيفي ونقده للحداثة الغربية وما قاله المفكر مالك بن نبي حول فكرة الهزيمة الداخلية في ذواتنا.
لقد انتقد إدوارد سعيد الفكرة التي روج لها الغرب ونشرها المثقف العربي الوظيفي ولا زال من أن الدخول إلى عالم الحضارة يمر حتما عبر استبدال المبادئ والأفكار المسماة عند الغرب ‘رجعية’ والقيّم التي يعدها العالم المتقدم قيما تقليدية سائدة هي في نظره ما يكبل ويعيق تقدم شعوب العوالم الأخرى بأفكار جديدة من مجال عصر الأنوار الأوروبي وفضاءات الحداثة الغربية .. لقد أعادت حرب غزة النقاش من جديد حول المركزية الأوروبية ومفهوم الإنية والغيرية وفرضت مراجعة فكرة الكونية ومراجعة منظومة الحقوق العالمية والقيم الكونية والحداثة الأوروبية المطلقة الرافضة لمسألة الخصوصية والقيم الذاتية فما يصلح لهم ليس بالضرورة صالحا لنا وما يتماشى مع تربيتهم وتعليمهم وتدريسهم قد لا يعنينا ولا يهمنا…

توجيه الوعي الجمعي

كشفت حرب غزة أن احتلال الشعوب واستعمار الأوطان وإدامة الاحتلال والتبعية للآخر المتفوق وأن الهيمنة على الشعوب والسيطرة على العقول وتوجيه الوعي الجمعي لا يمر فقط عبر استعمال القوة العسكرية والتفوق الحربي، وانما يتم قبل ذلك عبر مسالك التربية والتعليم ومن خلال الطفل والمتعلم وعبر التمكن في مصادر الغذاء والقوت اليومي للشعوب ومن خلال احتلال العقل والفكر وعبر تحقيق الهزيمة في الداخل وفي الذوات والأنفس ونحن اليوم مع كل أسف محتلون فكريا ومعرفيا وعقليا وشعوريا ومنهزمون في ذواتنا لذلك كانت عملية طوفان الأقصى حالة وعي تاريخي كبرى ومنعرجا حادا في الفهم والإدراك …

لقد كشفت الحرب على غزة أن الفكر العالمي ليس بالضرورة واحدا وأن هناك فكرا آخر غربي وغير غربي يقاوم هذه الهيمنة الأطلسية التي تريد تشكيل العالم على مقاسها وحسب نظرتها وقناعاتها وتيار جنوبي يرفض الكولونيالية الجديدة وفكرها السلطوي وهيمنته.
ما حصل مع منشورات اليونيسيف وما قامت به منظمة الأمم المتحدة في هذا المعرض هو صورة من صور مواصلة إنتاج الهيمنة الغربية وصناعة التبعية ومواصلة الارتباط الثقافي المهين الذي أنتج لنا عبر تاريخنا الطويل الهزيمة وجعلنا دوما تبعا لهذا الغرب المنافق والظالم والمتنكر لقيمه ومبادئه.

انخراط في خط المقاومة

اليوم رفض منشورات اليونيسيف حول التربية الجنسية واستنكار السماح لمنظمة الأمم المتحدة بتوزيعها في بلادنا هو في العمق انخراط في خط المقاومة للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وموقف رافض ومناهض لكل محاولات الهيمنة والسيطرة الموجهة نحونا من بوابة التربية والتعليم ومن نافذة الثقافة والمعرفة الكونية .. ما نقوم به اليوم هو الدفاع عن خصوصيتنا وذاتيتنا وهويتنا التي استرجعناها بعد عملية طوفان الأقصى وتداعيات الحرب الظالمة التي تقودها إسرائيل على الشعب الفلسطيني التي اتضح اليوم أنها هي من تتحكم في العالم، وبعد أن تبين أن الحداثة الغربية هي اليوم حداثة يهودية و تقودها إسرائيل بعد أن هيمنت على كل مفاصل ومجال الفضاءات العالمية المؤثرة وبعد أن خططت للهيمنة والسيطرة على العوالم الأخرى ومنها عالمنا العربي والإسلامي…

معارضة مشاريع الغرب

ما نقوم به هو فضح وكشف المثقف العربي الوظيفي المرتبط فكريا وثقافيا بفكر المستعمر القديم والذي ما زال في خدمة مشروعه الكولونيالي وهو مثقف يدافع عن حداثة غربية ظالمة منحازة انتهازية وغير عادلة ومنافقة.
إن معارضتنا لمضمون هذه الكتب الموجهة لأطفالنا هي معارضة للمشاريع الغربية التي توجه للعالم العربي وترمي إلى ابقائه في حالة من التبعية و التخلف بعد إيهامه بأن تقدمه لن يكون إلا إذا طلق قيمه وأفكاره وأخلاقه وهويته وبعد أن يتخلى عن خصوصيته وذاتيته وما يميزه وبعد ايهامه بأن الانتماء إلى الإنسانية لا يلغى ذاتيته وأن تبني القيم الكونية لا ينفي الخصوصية في عملية تحيل كبرى تعتمد على المرحلية ليصبح التدريب عن الحب الجنسي بين رجلين أو امرأتين في المدرسة مرحلة تسبق الاعتراف بالزواج المثلي والتساهل مع العلاقة الجنسية بين شخصين من نفس الجنس والتطبيع مع القيم الفاسدة المدمرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى