نوفل سلامة يكتب/ شهادة صادمة لـ الباهي الأدغم عن مواصلة الهيمنة للاستعمار الفرنسي على تونس

كتب: نوفل سلامة
نشر المنصف بن فرج الديبلوماسي السابق وعضو مجلس نواب الشعب في زمن حكم الرئيس بن علي والكاتب العام للجنة التنسيق الحزبي للتجمع الدستوري الديمقراطي ببن عروس شهادة للزعيم الباهي الأدغم أحد أبرز وزراء الرئيس الحبيب بورقيبة بمناسبة مرور 27 سنة على وفاته ( 1998 / 2025 )…
على إثر لقاءات متتالية جمعته به خلال شهري جويلية وأوت من سنة 1985 بمنزله بضاحية أميلكار بالعاصمة، وقد كانت دواعي اللقاء توثيق شهادات عن مرحلة الكفاح الوطني وكل ما جدّ خلال مرحلة الاستقلال من أحداث مؤثرة كان الباهي الأدغم حاضرا وبارزا بقوة فيها وشاهدا عليها كفترة التعاضد ومرحلة بناء الدولة الوطنية.
ملحمة النضال
في حديث الذكريات هذا ذكر المنصف بن فرج صاحب كتاب ‘ملحمة النضال’ التونسي أن الباهي الأدغم قد حدّثه عن المنعرج الذي اتخذته البلاد خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وتحديدا بعد مؤتمر قصر هلال في 2 مارس 1934 الذي حدد الرؤية للكفاح الوطني والمنهجية المتبعة بعد أن قررت فرنسا إدامة حضورها في أقطار المغرب العربي إلى الأزل، وهيأت لذلك بتنظيمها المؤتمر الافخارستي المسيحي احتفاء بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر وخمسين سنة على احتلال تونس وانتصاب نظام الحماية وقد كان هذا الحدث الكبير ميلادا لاندلاع شرارة الثورة الحقيقية..
شهادة مثيرة
في هذا اللقاء قدم الباهي الأدغم شهادة مثيرة عن خطة كان الزعيم الحبيب بورقيبة قد أعلن عنها للكفاح الوطني ونظريته لإخراج المحتل الفرنسي من الترابي تونس وإنهاء نظام الحماية تقوم على ثلاثة عناصر كبرى:
العنصر الأول: ضرب محتوى معاهدة الحماية الصادرة في 12 ماي 1881 الوثيقة القانونية التي دخلت بها فرنسا للتراب التونسي والوسيلة التي فرضت بها هيمنتها الاقتصادية والسياسية وسيطرتها على الأراضي الفلاحية وبسط نفوذها على الإدارة التونسية مجال المالية العمومية والتي بفضلها تم إغراء بعض التونسيين للانخراط في عملية التجنيس للحصول على امتيازات المستعمر خاصة فيما يتعلق بامتلاك الأراضي الزراعية وفضح خطورة معاهدة الحماية على هوية الشعب التونسي، وكيف أنها تكرّس وضعا غامضا للبلاد من حيث أنها ترتب سيادة تونسية منقوصة و مزدوجة تمكن الفرنسيين من مجالات واسعة للحكم مع الباي.
العنصر الثاني: إحراج الحكومة الفرنسية والمستعمر الفرنسي فيما تعتبره فرنسا رسالة تكفلت بها لتمدين الشعب التونسي والرفع من وعيه ومن مستوى عيشه وإدخاله في عالم الحضارة وهو الهدف الذي أعلنت عنه فرنسا وادعت أنها جاءت لتحقيقه لتبرير بسط حمايتها على البلاد وهي مسألة في غاية الخطورة لم يقبل بها قادة الحزب الدستوري الجديد بقياد الحبيب بورقيبة ورفاقه اشتغل عليها زعماء الحركة الوطنية لتأجيج الشعب وتجنيده للانخراط في مسار التحرر الوطني خاصة وأن فيها إهانة للشعب والتقليل من صورة أفراده الذين لن يقبلوا بمثل هذا التوصيف وهذا الحكم الذي يجعل من الشعب التونسي شعبا مختلفا يحتاج إلى تأهيل وإعادة إدماج في المجتمعات المتحضرة والمتقدمة وخاصة فيما قامت به فرنسا من نشر للتعليم في صفوفه ونشر قيّم التمدن الغربية وجعله ينخرط في مسار المجتمعات الصناعية الجديدة.
العنصر الثالث: أن الزعيم الحبيب بورقيبة وقادة الحزب الحر الدستوري الجديد كانوا يعتبرون أن خوض معركة التحرير لا تعني أن تقطع تونس الصلة نهائيا مع فرنسا، ولا أن تفك الارتباط معها كليا، و لا أن يكون الاستقلال حائلا دون الإبقاء على جسور التعاون بين تونس وفرنسا رغم عدم تكافؤ ميزان القوى بين البلدين حيث يقر الباهي الأدغم في هذه الشهادة أن بورقيبة كان يرى أن إلغاء نظام الحماية ونهاية مرحلة الاستعمار الفرنسي وخروج الجنود الفرنسيين من التراب التونسي وتحقيق الاستقلال يجب أن لا يكون حائلا دون الإبقاء على مجالات تعاون بين البلدين في الكثير من المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وأن مناهضة الاحتلال لا تعني أن لا تبقي تونس على روابط في مصالح مشتركة بعيدا عن كل هيمنة استعمارية قديمة أو القضاء عن الشخصية التونسية…
الاستقلال دون فك الارتباط
هذه الشهادة التي نقلها المنصف بن فرج عن الباهي الأدغم الذي تحدث فيها عن خطة الرئيس بورقيبة لمقاومة المستعمر الفرنسي وقيادة الحركة الوطنية التي عرفت منعرجا مع مجيء الزعيم بورقيبة وبرنامجه بعد نهاية الاستعمار وطبيعة العلاقة مع المحتل الفرنسي بعد الاستقلال، هي شهادة إن صحت وهي على ما يبدو صحيحة ولكنها صادمة ومثيرة خاصة في جزئها المتعلق برؤية بورقيبة لطبيعة العلاقة مع فرنسا بعد نهاية مرحلة الحماية وهي رؤية تعتبر أن الاستقلال لا يعني فك الارتباط كليا مع فرنسا ولا يعني نهاية العلاقة معها ولا يعني إنهاء الروابط القديمة في مجالات حيوية وهي رؤية خطيرة تديم هيمنة المستعمر على البلاد وتمكن من مواصلة وصايته على الشعب التونسي وتبقى البلاد مقاطعة مستعمرة بأشكال جديدة.
ولعل في هذه الشهادة ما يفسر الهيمنة المتواصلة لفرنسا على بلادنا في مجال الفكر والثقافة والتعليم وحالة الوصاية على اللغة العربية ومنع فرنسا لأي محاولة للذهاب إلى فضاءات أخرى غير اللسان الفرنسي والثقافة الفرنسية والمقاربات الفرنسية في التربية والتعليم ولعل هذا ما يدعم موقف بعض الأطراف المناهضة للهيمنة الفرنسية على كل ما هو اقتصاد وتجارة ومال وعلاقات تجارية وثروات تونسية.
فرنسا لم تغادر!
الخطير في هذه الشهادة المهمة أنها تأتي من شخصية كانت قريبة جدا من سلطة القرار البورقيبي وشاهدة على زمن وعصر كانت فيه أفكار الرئيس بورقيبة هي الفاعلة والمؤثرة والمطبقة.. الخطير في هذه الشهادة أن صاحبها المرحوم الباهي الأدغم قد قدم ما اعتبره نظرية الرئيس الحبيب بورقيبة في معركة التحرير الوطني ورؤيته للعلاقة مع المستعمر بعد الاستقلال كان قد تبناها منذ ثلاثينات القرن الماضي لما انتقلت إليه قيادة الحزب و زعامة حركة مقاومة الاحتلال الفرنسي على أنها نظرية مبنية على الواقعية الثورية وعلى الحكمة والمعقولية وتحكيم المنطق والرشد والاتزان والرصانة في التعامل مع فرنسا وهي نهج جلب له حسب صاحب الشهادة احترام الكثير من الفرنسيين الذين ساندوا بورقيبة وتعاطفوا معه في استراتيجيته للاستقلال واعتبر الكثير من الصحفيين والكتاب والمفكرين الفرنسيين أن بورقيبة برؤيته هذه يتحدث بمنطق جديد مخالف للزعماء السياسيين من قبله يفرض الاحترام والمساندة.
الخطير في هذه الشهادة أنها أكدت أن فرنسا لم تغادر البلاد وإن تم الاعلان عن استقلالها، وأن فرنسا أبقت على واقع الهيمنة القديم وحافظت على مجالات ارتباط كثيرة وابقت على نفوذها رغم خروجها السياسي والعسكري من البلاد.