نوفل سلامة يكتب/ رواية ‘صلاة القلق’ سردية أمة لا تزال تعيش على وقع قلق الهزيمة والعجز والضياع..

كتب: نوفل سلامة
من الإصدارات التي شدّت إليها انتباه القارئ العربي في الآونة الأخيرة ومثلت الحدث مع كتب أخرى في معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الحالية، رواية ‘صلاة القلق’ للكاتب المصري سمير ندا الصادرة عن دار مسكيلياني التونسية و المتحصلة على الجائزة العالمية للرواية العربية ( البوكر ) 2025…
السرد والرمزية
وهي رواية اعتمدت بشكل مكثف على السرد وعلى المتخيل وعلى الرمزية في تناول الأحداث وخاصة فهم هذا الواقع العربي الرديء المليء بالخيبات والانكسارات، والأحلام والأماني والآمال الضائعة وتميزت بتقنية مبتكرة في الكتابة بتخليها عن البطل الواحد والبطلين لتجعل كل شخوص الرواية وعددهم ثمانية أبطالا مركزيين أساسيين وتحويل كل فصل من فصولها إلى جلسة سرد تبسط فيها كل شخصية رؤيتها للأحداث وزاوية نظرها لما حصل.
نكسة 67
اختار صاحب الرواية أن يجعل من مرحلة الزعيم عبد الناصر و نكسة سنة 1967 والحرب التي دارت بين العرب وإسرائيل منطلقا و مسرحا لأحداث الرواية والعماد الذي يقوم عليه كل البناء السردي والحامل الفكري لكل المخاض النظري والايديولوجي الذي رافق تلك الحقبة المفصلية من تاريخنا العربي، ولا تزال تداعياتها إلى الآن بادية…
والمثير أنه إذا كانت فاتحة الرواية مع عبد الناصر فإن نهايتها كانت تاريخ وفاة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ سنة 1977 في دلالة و رمزية إلى كون هذا الفنان قد ارتبط اسمه بـ عبد الناصر وكانت أغانيه وخاصة الثورية منها تجسد الأمل والحلم بالانتصار وتحقيق الوعود الذي علقت بكل الشعارات الناصرية وارتبطت بفكرة القومية العربية والحلم العربي المشترك والمصير الواحد، وبوفاته يعلن الكاتب عن نهاية حلم جيل بكامله الذي هو الآخر قد اختفى من المشهد ومعه اختفت كل الطموحات الجميلة التي كانت تجسّدها خطابات الزعيم عبد الناصر وأغاني عبد الحليم حافظ وأحلام جيل كامل كان حالما وانتهى به الحال الى الضياع والعجز.
أحداث الرواية
أما عن أحداث الرواية فهي تجري خلال عشرية كاملة بداية مما اصطلح على تسميته بنكسة 67 أو هزيمة العرب في حربهم مع إسرائيل، وهي المرحلة التي قادها جمال عبد الناصر وفيها سطع اسمه بقوة كرمز وقائد عروبي يحمل على عاتقه استعادة مجد العروبة و عام 1977 المرحلة التي يسميها القوميون العرب بالانقلاب على المسار والرؤية الناصرية..
في هذا الظرف التاريخي المنكسر يجعل الكاتب من صعيد مصر وتحديدا قرية
“نجع المناسي” المعزولة عن العالم المحاطة بما يعتقد أهلها أنه حقل ألغام لا يُمكن عبوره و يفصلهم عن المجهول، في هذا المجال الجغرافي الضيق لا يعرف سكان النجع شيئا عن الخارج سوى أن هناك حربا مستمرة منذ نكسة جوان 1967، وأن العدو الإسرائيلي يحاول التوغل عبر قريتهم التي يُنظر إليها كخط الدفاع الأول على الحدود في هذا الجو الذي يحفه التعتيم والخوف من المجهول يهوي على القرية جسم غامض، نيزك أو قمر صناعي لا أحد يعرف على وجه اليقين يعقبه وباء غريب لا يعرف كذلك أحد مصدره يتسبب في تشويه ملامح سكان النجع حتى الأطفال حديثي الولادة ويجد القرويون أنفسهم وقد تحوّلت رؤوسهم إلى رؤوس سلاحف، ويستفيقون على يد مجهولة تكتب خطايا الناس على الجدران ومن هنا تبدأ الأشخاص الثمانية التي جعلها الكاتب أبطال روايته في سرد وجهة نظرهم من كل الأحداث.
صلاة القلق
المثير الذي تصوره الرواية أنه علاوة على الحرب مع إسرائيل الذي يعيش على وقعها سكان القرية وما يلتصق بها من مشاعر متضاربة تدور بين الخوف والأمل والانقطاع الكلي عن العالم الخارجي، حيث النافذة الوحيدة التي يطلون من خلالها على هذا العالم هي التاجر الوحيد الذي يمثل السلطة الرسمية وجهاز الدعاية الذي يحتكر ترويج اخبار الحرب ونشر المعطيات وترويج المعلومة ويحتكر أيضا بيع وتوزيع السلع والمنتجات…
ويتحكم في مصير أبناء القرية من خلال إشرافه على عمليات التجنيد في الحرب المتواصلة مع اسرائيل، يعرض الكاتب حلا ومخرجا وخلاصا من كل هذه المصائب والمتاعب جسده فيما اقترحه شيخ القرية وإمام المسجد من صلاة جديدة سماها ‘صلاة القلق’ كيفيتها وصورتها ركوع غير مكتمل مع سجدتين يقرأ فيهما شيئا من القرآن وكثيرا من الدعوات وهنا يفتح الكاتب على القارئ حيرة على لسان السكان الذين رفضوا ما قام به شيخ القرية من ابتداع لصلاة جديدة غير معروفة وما حصل من انقسام في صفوف السكان بين موافق لها ومنكر ومعارض ويبدأ الهجوم على الشيخ أيوب ويتم التجريح في شخصه والتشكيك في نزاهته، وفضح معطياته الخاصة واتهامه بجريمة نكراء ممارسة الجنس مع إحدى بطلات الرواية شواهي الراقصة…
منعرج جديد
مع هذه الفضيحة وهذا التصرف الذي تبناه جانب من سكان القرية تأخذ الرواية منعرجا جديدا بالدعوة الى التمرد والثورة على صاحب المحل الوحيد والجهاز الذي يحتكر كل شيء ويتحكم في كل الأمور والواجهة التي ينفتحون بها على العالم الخارجي وتنتهي الثورة الداخلية بحرق محله والتخلص منه في إشارة ورمزية وتعبير عن التخلص من السلطة التي كانت تكبلهم وتأسرهم وتمنعهم من الوعي والفهم الصحيح.
دعوة للتفكير
هذا جانب من الرواية وهي عمل إبداعي مشبع بالرمزية والخيال والتخيل وفيها دعوات كثيرة للتفكير والتأمل في واقعنا العربي وعالمنا الإسلامي من خلال قرية محاصرة تعيش على وقع حرب طويلة سكانها عاشوا خيبات كثيرة و راهنوا على الأمل والانتصار و بحثوا عن مخلص لهم من هذا الواقع الرديء لكن ما حصل هو أن الحلم قد تحول إلى وباء شوّه حياتهم وحولها إلى سراب فعوض الانتصار على العدو الحقيقي وجدوا أنفسهم مضطرين للقيام بثورة في الداخل والانخراط في حرب على كل الرموز التي وثقوا فيها بعد أن افتضح حالهم وانكشفت بما يكتب من أسرارهم على الجدران والحيطان التي لا يعلم أحد من كتبها فكل القيادات والمرجعيات تم التشكيك فيها وفقدوا الثقة فيها حتى رموز السلطة التي جسدها صاحب المتجر الذي كان يتحكم فيهم رأوا فيه عائقا ومانعا وحائلا من التحرر.
ضياع الحلم
فكرة انقطاع القرية عن العالم وفكرة النيزك الغريب الذي حل بها وفكرة الوباء الغريب الذي أصاب السكان وفكرة الثورة على الرموز الدينية والمرجعيات التي تحملت مسؤولية تأطير الجماهير وخاصة المرجعية الدينية والمرجعية السياسية وفكرة ضياع الحلم وخيبة الأمل في القيادات المؤدلجة…
كلها نوافذ يفتحها الكاتب ومساحات يعرضها للتفكير والتأمل فيما حصل ويحصل للإنسان العربي والأهم من كل ذلك فإن كل الذي تحدثت عنه الرواية هي حالة قلق تلبست بالإنسان العربي وكبلت حياته ومثّلت أزمة عميقة يبدو أن موت الفنان عبد الحليم حافظ قد زاد من عمقها وتأصيلها ليتواصل القلق حتى يومنا هذا…