صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: انتفاضة الأحياء الفرنسية المهمّشة…أزمة دولة؟

slama
كتب: نوفل سلامة

عاشت فرنسا بأكملها منذ أيام على وقع احتجاجات ليلية عنيفة ومواجهات بين شباب الأحياء الغاضبين وقوات الأمن من شرطة ودرك وذلك على خلفية مقتل الشاب “نائل” المنحدر من أصول جزائرية.. بعد أن رفض التوقف لإشارة رجال الأمن أثناء عملية تثبت روتينية وتدقيق مروري…

غضب عارم

وقد تطورت الأحداث بصفة سريعة لتتحول من حالة معزولة تحدث من حين إلى آخر في كل مكان من العالم وفي الكثير من المدن وبلدان الدنيا إلى غضب عارم اجتاح جانبا كبيرا من الأحياء الشعبية في فرنسا وتمدد إلى مناطق كثيرة كانت في السابق لا تعرف مثل هذه الاحتجاجات وهذه الحركات الاحتجاجية المنظمة و المتواصلة والتي ترفع شعارات الاعتراف والبحث عن المعنى المفقود والمطالبة بتحقيق العدل والمساواة لشباب سكان الضواحي المنسية الذين يعيشون حالة من التهميش وعدم الاعتراف ومن فقدان لأي معنى بالانتماء الى بلد ووطن وهوية فرنسية جامعة من دون إقصاء.

احتجاجات عنيفة

تحولت هذه الاحتجاجات العنيفة التي يقودها شباب أعمارهم تتراوح بين 14 سنة و 18 سنة ـ وهو الانتقال النوعي في هذه الاحتجاجات بدخول عنصر القاصرين ـ إلى سؤال كبير بات اليوم يؤرق المجتمع الفرنسي وإلى مجال النقاش العام بعد أن تلقى المجتمع الفرنسي صدمة كبرى مفزعة، وهو يشاهد ارتكاب أعمال عنف خطيرة وعمليات نهب وسرقة وحرق للممتلكات الخاصة تعود لأفراد لا دخل لهم فيما حصل من قتل لهذا الشاب على يد أحد رجال الشرطة وفتح حوارا مجتمعيا كبيرا احتضنته المنابر التلفزية مداره الإجابة على سؤال محير ماذا يحصل في بلد الحداثة والأنوار…
وفي دولة تدعي أنها تتبنى الخيار الإجتماعي ومنوال تنمية يقوم على التضامن وتدخل الدولة في مرافقة الفقراء والطبقات الوسطى؟
ولماذا تُعاد مثل هذه الأحداث في فرنسا ولم تتوقف رغم كلفتها الباهظة وأسبابها المعروفة؟ و بماذا نفسر حجم الغضب وارتفاع منسوب التمرد الذي نشاهده اليوم عند هؤلاء الشباب؟ وكيف نفهم حالة التوتر التي عليها سكان الضواحي والأحياء الباريسية؟

تمدد رقعة الغضب

وكيف نفسر توسع وتمدد رقعة الأحياء الساخنة في فرنسا وازدياد عدد الغاضبين من السياسات المطبقة والتي اتضح اليوم أنها هي المتسبب في كل ما يحدث من تشنج وتوتر وغضب تعتبره السلطة غير مبرر ويعتبره شباب الضواحي مشروع وله جذوره في سياسات الدولة والمنوال الاجتماعي المطبق والذي يقصي سكان الضواحي وشباب الأحياء الفقيرة والمهمشة من الاستفادة من التنمية و الحظوظ المتساوية وخاصة تحقيق قيمة العدل.

حركة تمرد عنيف

الجديد هذه المرة فيما يحصل من حركة احتجاجية ليلية ومن تحركات شارعية يقودها شباب الضواحي الفرنسية وسكان الأحياء المهمشة أنها مرشحة للخروج عن السيطرة وفي طريقها أن تتحول إلى حركة تمرد عنيف إذا لم تغير الحكومة الفرنسية من مقاربتها في التعامل مع هذه الظاهرة التي تولدت عن هذا الحادث الأليم الذي ذهب ضحيته الشاب ” نائل ” وإذا لم تتخل عن الحلول الأمنية المتبعة والتي يتم استدعاؤها في كل مرة للتصدي لمثل هذه الحركات الشبابية لإظهار قوة الدولة وللتعبير على أن السلطة لا تزال موجودة وبقوة حيث لوحظ أن تعامل الدولة مع هذه الأزمة كان يقدم الحل الأمني على غيره من الحلول وأن خطاب السلطة يعول على إخماد حركة الأحياء الغاضبة بحشد المزيد من القوات الأمنية والتهديد بمضاعفة العقوبات وتحميل كل المسؤولية فيما يحصل من أعمال عنف ونهب إلى العائلات والأولياء.

جذور المشكل

المشكل الذي طرح في النقاش المجتمعي العام الذي يدور اليوم في فرنسا على خلفية الأحداث التي تعيشها فرنسا والتي عرفت بانتفاضة الضواحي أن الدولة الفرنسية لا تجيب عن أصل المشكل الذي ولد هذه الأزمة والذي يعود إلى تسعينات القرن الماضي حين ظهرت البوادر الأولى لهذا التململ الشعبي وبروز مشاعر الغضب لدى شباب الأحياء الباريسية والذي أصبح اليوم ظاهرة عامة تعرفها كل أحياء فرنسا تقريبا التي يقطنها الأجانب وتسكنها الجاليات العربية المسلمة والشباب من الجيل الثالث والرابع من المهاجرين المغاربة والأفارقة.
ما لم تفهمه السلطة الفرنسية أن الحركة الاحتجاجية التي اندلعت هذه الأيام هي حركة يبحث أصحابها عن تحقيق قيمة العدل في حياتهم ويطالبون بمعاملة حسنة معهم وإشعارهم بأنهم مواطنون يتمتعون بكامل الحقوق وكامل الواجبات شأنهم شأن غيرهم من الفرنسيين والحصول على نفس الحظوظ المتساوية في الدراسة والعمل وأثناء التعامل مع رجال الشرطة..

ما لم يفهمه المسؤول الفرنسى أن هناك اليوم مشكل حقيقي في فرنسا في علاقة بالظروف الاجتماعية غير اللائقة التي يعيشها سكان هذه المناطق وحالة ‘اللا عدالة’ التي تُطبق عليهم و معاملتهم معاملة فيها الكثير من العنصرية والتحقير والتمييز وعدم الاعتراف بكونهم مواطنين أصليين… يطالبون باعتراف لذواتهم ولوجودهم فوق التراب الفرنسي وبمعنى لحياتهم وبأن لهم مستقبل في فرنسا .. يطالبون بمزيد من حضور الدولة في حياتهم وبمن يستمع إليهم ويرافقهم .. يطالبون بقدر من الاهتمام والعناية وسياسات تقلل من واقع التهميش والاحتقار وتعيد إليهم الثقة في الدولة وفي المستقبل .. إنهم يطالبون بالاعتراف المتبادل و هوية فرنسية جامعة…

جيل الغضب

ما تغفل عنه الحكومة الفرنسية وكل الحكومات التي تعيش نفس الأوضاع والمجتمعات التي تعرف نفس السياقات أن هؤلاء الشباب الغاضب هو نتاج السياسات المطبقة والخيارات المنتهجة وهو جيل يشعر بتمزق الهوية وبحالة من التيه والضياع بين ماض بعيد يستحضر باستمرار جذورهم وثقافتهم الأصلية التي لا يعيشونها وبعدت عنهم وبين حاضر ضبابي تسكنه ثقافة لا تعترف بهم وتتنكر لهم وهي حالة خطيرة نبهت إليها المفكرة الألمانية ” حنة أرندت في حديثها عن الظهور الواسع لمشاعر الحقد المتبادل والهيجان الشامل في المجتمعات وفي علاقة الأفراد فيما بينهم وفي علاقة الشعب بالدولة وهي المشاعر التي عبر عنها المفكر الهندي بانكاج ميشرا في كتابه ” زمن الغضب تأريخ الحاضر ” بحالة الاستياء العارمة والتي يطول أمدها ما يجعل الدولة والمجتمع يدخلان في حالة من عدم الثقة المتبادلة وحالة من الانفلات في السلوك والممارسات وحالة من العنف الرمزي وغير الرمزي…
والأخطر من ذلك دخول المجتمع في حالة من الشك وحالة من العجز عن تحقيق الوعود بعالم أفضل وحالة من تراجع الأمل في الحاضر والمستقبل التي ينتج عنها ما يسميه المفكر ” توكفيل ” من تلاشي الروابط والدعائم والضوابط التقليدية وما كان يكفل للفرد من قيمة ذاتية وهوية وما كان يمنع من تفاقم الشعور بعزلة الأفراد وشعورهم بالوحدة والغضب وفقدان الأمان…

والأخطر من ذلك كله أن يجد المجتمع نفسه وقد ولد فيه أفراد جدد يجدون أنفسهم يكدحون في بيئات اجتماعية وسياسية دون تطلعاتهم ودون رغباتهم ولا آمالهم ويعيشون خارج المنظومة والنمط المعيشي وسياق الدولة فتزداد عزلتهم ويفقدون كل رابط لهم مع الدولة والمجتمع ومع كل شيء لنجد أنفسنا في النهاية أمام شباب تائه يطارده عقله المظلم الذي يجعله يتوق إلى الاستسلام كليا لأي حماقة تلقي به فوق أحد متاريس ثورة حالمة او حركة احتجاجية منفلتة أو تمرد شارعي متهور ولكنه في نظرهم مشروع وله ما يبرره في نظرهم ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى