صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ حصاد العمر للدكتور محمود الذوادي: بحث في المسألة اللغوية وواقع اللسان العربي في تونس

كتب: نوفل سلامة  

مواصلة في العمل الكبير الذي تقوم به مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات في حفظ الذاكرة الوطنية والتأريخ لأحداث تونس المعاصرة من جوانبها المتعددة ومواكبة التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع التونسي في راهنيته…

وما يعيشه من منعرجات مؤثرة على جميع المستويات ما اعتبر مآزق قاتلة تهدد ديمومة ثقافة وحضارة وهوية هذا البلد وخصوصيته التي عرف بها  ومواصلة في كتابة تاريخ البلاد من جوانب مختلفة وخاصة الجوانب الثقافية والرمزية…

صراع وجود؟

فقد ارتأت المؤسسة أن تفتح ملف اللغة العربية وحقيقة اللسان العربي في واقع الناس وتطرح السؤال المغيب أي حضور للعربية في حياة الشعب؟ وهل تعيش العربية في تونس صراع وجود وحضور ومعركة اعتراف بعد أن أوضحت كل الدراسات والتقارير عن تراجع استعمال اللغة العربية في الحياة اليومية على حساب لغات أجنبية أخرى وعلى حساب اللهجة العامية وما درج عليه الناس من لحن الكلام الفصيح خاصة بعد هيمنة لغة ثالثة هي خليط من عربية وعامية ولسان أجنبي ورموز وأشكال مبهمة..
وبعد أن أوضحت هذه الدراسات كذلك الضعف الواضح لدى التلاميذ والطلبة في التكلم باللسان العربي الفصيح والعجز عن القراءة والكتابة بالعربية في السنوات الأولى من التعليم ما جعل الكثير من الغيورين عن اللغة العربية يطلقون صيحة فزع لإيلاء مسألة اللغة الأهمية في القرار السياسي وفي المنظومة التربوية التي اتضح اليوم أنها  هي سبب المشكل وأنها لا تساعد على تحبيب الناشئة في لغتهم الأم.

الاستقلال اللغوي

ونظرا لقيمة اللغة في حياة الشعوب ودورها في بناء الهويات واعتبارها من عناصر الأمن القومي للدول لا تقل قيمة عن الأمن الغذائي والطاقي وغيرهما، وأن مسألة الاستقلال اللغوي لا تقل قيمة وأهمية عن صور الاستقلال الأخرى من اقتصادي وسياسي ومالي ، استضافت المؤسسة في ندوة يوم السبت 7 جانفي الحالي الدكتور محمود الذوادي الأستاذ الجامعي المتخصص في علمي الاجتماع والنفس…
تلقى تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ودرّس في عديد الجامعات الأجنبية وكان أستاذا زائرا في عديد الجامعات في الجزائر والسعودية وماليزيا وسلطنة عمان له العديد من المؤلفات في مسألة الهوية واللغة العربية ناهزت الثلاثين مؤلفا من أهمها كتاب: ‘التخلف الآخر عوامل أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث’ وكتاب ‘ضعف المناعة اللغوية والثقافية والهوية المرتعشة في المجتمعات المغاربية’ وكتاب المجتمع التونسي واحتضانه لمأزق الاستلاب: إعاقة اللغة وارتباك الهوية وكتاب الإنسان ذلك الكائن الثلاثي الأبعاد وكتاب حفريات في بعض معالم الشخصية التونسية والمغاربية فضلا عن العديد من المقالات في مجلات عربية وغربية محكمة.

هذا زبدة ما توصلت إليه…

يقول محمود الذوادي إن ما سوف أقدمه في هذه المحاضرة العلمية هو زبدة ما توصلت إليه من أبحاث في المسألة اللغوية دامت سنوات عديدة وحصاد عمر كامل من الدراسة والتأمل والبحث في واقع اللغة العربية في أوطانها ولدى شعوبها الناطقة بها وخاصة المجتمع التونسي الذي ينتمي إلى الفضاء العربي وله رابطة باللسان العربي خطابا وتعلما وثقافة وحضارة وأول هذه الخلاصات المهمة التي انتهيت إليها أن الوضع الطبيعي لكل شعب ولكل أمة ولكل بلد أن يتكلم أبناؤه اللغة التي تميزهم ولغة المجموعة التي ينتمون إليها فالحالة السليمة أن يتكلم الفرنسي الفرنسية والألماني الألمانية والأنقليزي الانقليزية والإسباني الإسبانية وهكذا لكل بلد وكل شعب لسانه الذي يعرف به ولغته التي ينشأ عليها وأن الوضع السليم أن يتكلم العربي اللغة العربية وأن يتحدث التونسي باللسان العربي أما الحالة غير الطبيعية والوضع غير السليم أن لا يتكلم شعب ما لغته الأصلية وأن لا يتعلمها ولا يكتب بها والحالة الطبيعية والسليمة أن تهيمن اللغة القومية على كل اللغات وأن تستعمل في الخطاب والتواصل والتدريس…

هوية لغوية

وحينما كنت في كندا وكان بلدا مقسما إلى جزأين، جزء يتكلم الفرنسية واخر يستعمل الانقليزية كنت متواجدا في مقاطعة الكيبك وكانت حينها تعيش على وقع الثورة الهادئة ولما كانت هذه المقاطعة تتكلم الفرنسية فقد سنت قانونا يحمي اللغة الفرنسية سموه القانون رقم 1 فرض أن يكتب كل شيء باللغة الفرنسية وألزم الجميع أن يتكلموا الفرنسية فالهوية والانتماء إلى هذا الجزء من كندا هي هوية لغوية بالأساس وبهذه الطريقة حموا لغتهم من كل اختراق وأعلوا من شأنها وفرضوا احترام الآخرين لها.
وفي الحالة التونسية كانت تقلقني ظاهرة المزج اللغوي واعتزاز الفرد التونسي بالفرنسية أكثر من اعتزازه باللغة العربية التي نشأ عليها فكانت هذه الظاهرة بداية اهتمامي وانشغالي بالمسألة اللغوية وبدأت أبحث عن تفسير علمي من زاوية علم النفس وعلم الاجتماع وأحاول أن أفهم لماذا يتكلم التونسي خليطا من اللغة في الوقت الذي كنت فيه مقتنعا بأن العلاقة الطبيعية بين الفرد واللغة هي أن يستعملها لوحدها مشافهة وكتابة وأن تكون اللغة الوطنية هي اللسان المهيمن على كل الألسن الأخرى وأن تستعمل من طرف أهلها في كل شيء بطريقة عفوية..
فمن الأخطاء الشائعة والتي نجدها تتردد باستمرار عن جهل أن توجد لغة عاجزة في حد ذاتها فكل اللغات بإمكانها أن تتواجد متى استعملها أهلها في جميع ميادين الحياة فالاستعمال هو ما يجعل اللغة حاضرة ومتواجدة ويضمن لها الحضور الدائم وهذه هي المعادلة الطبيعية التي تقول أن استعمال اللغة بالكامل يجعلها قادرة على التعبير عن كل شيء.

اعتزاز باللغة

من الخلاصات المهمة الأخرى التي انتهيت إليها والتي تفسر تراجع الحديث باللغة العربية في المجتمع التونسي ما أسميه بفقدان التعريب النفسي وغياب العلاقة الحميمية مع اللغة فحينما يغيب القبول النفسي والرضا وتوفر حالة من الاقتناع بأن اللغة العربية قادرة على التعبير والتواصل وأن تكون كغيرها من اللغات لغة علم وتفكير وبحث ومعرفة حينها تفقد اللغة حضورها…
وهذا ما حصل مع الصادقيين والجيل الذي درس في المدرسة الصادقية وقبل ذلك القرار الذي اتخذه خير الدين باشا بالانفتاح على العالم الغربي وأنشأ المدرسة الصادقية بصيغة التدريس وليس من أجل التعلم حيث درس الصادقيون كل المواد باللغة الفرنسية والنتيجة أن تخرّج جيل، وإن كان يتقن اللغتين العربية والفرنسية إلا أن حماسته الأولى كانت اللغة الأجنبية واعتزازهم الكبير بأنهم يتكلمون لغة المستعمر في حين لم نجد غيرة ولا حمية ولا تحمسا للذود عن اللسان العربي والحال يختلف حينما أقدمت الدولة في بداية الاستقلال على تجربة في تدريس كل المواد باللغة العربية إلى حدود الباكالوريا ضمن ما يعرف بالشعبة ( أ ) فكانت النتيجة أن نخرّج جيل يتقن استعمال اللغة العربية ولديه غيرة كبيرة عليها وكان مدافعا عنها في كل المحطات التي تعرضت فيها العربية إلى التشويه أو التقليل من شأنها.
ما نشاهده اليوم من انحسار الحضور العربية في جميع الفضاءات العامة وتراجع استعمالها في الخطاب والتواصل اليومي وما نشاهده من غزو وانتشار مكثف للدارجة وللعامية وحضور كبير للسان الأجنبي وخاصة استعمال لغة هجينة في اللافتات الإشهارية وفي الإذاعات والتلفزات وفي حديث الناس ما يطرح السؤال هل ما تعيشه اليوم اللغة العربية هو راجع إلى طبيعة الشخصية التونسية التي تتميز بكونها شخصية قابلة بهيمنة اللسان الأجنبي؟

سؤال معرفي

وهل يعود ذلك إلى طبيعة الشخصية التونسية المستنفرة وغير المتصالحة مع لغتها الأصلية وميلها إلى استعمال لغات ولهجات آخرى غير لغتها الأم ؟. فهل نجد اليوم الوعي الكافي بضرورة الاعتزاز باللغة الوطنية ؟ هذا السؤال المعرفي قادني إلى إعادة صياغة تعريف الإنسان وتقديم مفهوم آخر له بعد أن أضفت بعد ثالثا للإنسان وهو كونه الوحيد الذي له لغة ويستعمل الرموز وعرفت الانسان زيادة على ما عرفه به الفلاسفة كونه كائنا له جسد وروح بأنه كائن يحتوي على ثلاثة أبعاد الروح والجسد والرموز الثقافية ووجدت أن اللغة هي أول الرموز الثقافية ومن دون لغة لا يمكن أن نتحدث عن إنسان فوجود الإنسان مرتبط بوجود اللغة وهذا هو الكوجيتو اللغوي فمن دون لغة لا يمكن أن نتحدث عن إنسان وفي هذا المستوى ابتكرت مفهومي ” الازدواجية اللغوية الأمارة ” وهي حالة الفرد الذي يتكلم أكثر من لغة ولكنه يعلي من اللغة الأجنبية على حساب لغته الأصلية و ” الازدواجية اللغوية اللوامة  “وهي حالة الفرد الذي يتكلم أكثر من لغة ولكن له نفس تعيده دوما إلى لغته الأم…

وضع غير مريح

ما يمكن الخروج به من هذه المحاضرة أن اللغة العربية في تونس تعرف وضعا غير مريح وحالة من الإنكار الخفي أحيانا والمعلن أحيانا أخرى على المستوى الرسمي والشعبي وحالة من الاحتقار والتهميش على حساب اللغات الأجنبية وخاصة اللغة الفرنسية وعلى حساب اللهجة الدارجة وما درج عليه العوام من حديث فيه الكثير المزج والخلط مع لغات ولهجات أخرى…
ما يمكن الخروج به هو أن اللغة العربية التي كانت بداية من القرن الثامن وحتى الحادي عشر ميلادي لغة العالم ولغة العلم والمعرفة ومن لا يتقنها يعد شخصا متخلفا واللغة التي بفضلها تعرفت أوروبا على علوم الأقوام الأخرى ومنجز الحضارات القديمة بفضل عملية الترجمة التي حصلت وتمكنت بفضلها من بناء حضارتها المعاصرة وما كانت اللغة العربية أن تصل إلى هذه المكانة التي وصلت إليها لولا وجود قوة سياسية مهيمنة فرضتها على سائر شعوب الدنيا وجعلت منها لغة العالم كما هو حال الانقليزية اليوم…

استعادة الحضور

وهذا يعني أن اللغة العربية اليوم تحتاج حتى تستعيد مكانها وحضورها وإشعاعها الذي فقدته وحتى تستعيد ثقة أبنائها فيها إلى إرادة سياسية تعلي من شأنها وتفرضها وتجاوب مجتمعي وحاضنة شعبية متصالحة مع لغتها و لديها الإيمان والقناعة والرضا النفسي بقيمة وقدرة اللغة العربية أن تكون لغة استعمال في كل شيء .. ويبقى السؤال المحير كيف نحقق هذا التجاوب المجتمعي المفقود في عالم تطغى عليه وفيه ثورة التكنولوجيا الرقمية ومنظومة العولمة التي فرضت على الجميع لغة واحدة جعلوا منها لغة العلم والمعرفة الوحيدة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى