صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: انتشار نوادي غناء النساء الجماعي في تونس..أي معنى؟

slama
كتب: نوفل سلامة

ظاهرة برزت في تونس في أواسط عشرية الثورة خلال سنة 2016 وأخذت طريقها إلى الانتشار في هدوء ودون ضجيج حتى تحولت اليوم إلى واقع ثابت وموعد أسبوعي تعرفه عديد المدن وأحياء البلاد.

هذه الظاهرة هي نوادي الغناء الجماعي التي تُقام في المنازل والفيلات لأصحابها من الميسورين حالا، روّادها وأفرادها من النساء من مختلف الشرائح العمرية والوضعيات الاجتماعية ورغم غياب إحصائيات دقيقة حول عدد المنخرطات في هذه النوادي، إلا أن الأرقام المروجة إعلاميا تقدر عددهن بالآلاف موزعين بين الموظفات في القطاع العام والخاص وفيهن ربات البيوت، ومن أُحلنا على شرف المهنة وخرجن إلى التقاعد مع وجود فئة من الأساتذة و الجامعيات والطبيبات والمحاميات وحتى من سلك القضاء…

الأسباب والدواعي؟

هذا الإقبال المكثف من النساء التونسيات على الغناء الجماعي المنتظم يفرض طرح السؤال حول الأسباب والدواعي التي سهلت مثل هذا الحراك النسوي على الظهور والانتشار؟ والجذور الأولى لهذا النشاط الأنثوي اللافت التي فرض نفسه بقوة وجعله علامة على وجود تحول واضح في المجتمع.
مشروعية هذا السؤال الذي يعترض عليه البعض متأتية من محاولة الحفر في خفايا هذه الظاهرة المتزايدة لفهم لماذا تلجأ المرأة التونسية إلى المشاركة في نوادي غناء جماعي على خلاف نظيراتها العربيات؟ والبحث في الأسباب النفسية التي قد تكون وراء هذه الظاهرة التي اختصت بها التونسيات، والدور الذي يلعبه الوضع العام بالبلاد بمختلف جوانبه في نمو الظاهرة؟ وكيف يمكن اعتبارها ظاهرة صحية تنم عن حيوية المجتمع وتحول في طبيعة نمط العيش الذي لم يعرف من قبل مثل هذه الأنشطة النسوية العلنية؟

فائدة نفسية

قدمت إجابات عديدة لتفسير هذه الظاهرة منها وجود قناعة عند الكثير من النساء من أن ممارسة هواية الغناء الجماعي تعود بالفائدة الكبيرة على نفسية وصحة المرأة وهي بالنسبة لهن مجالا للترفيه عن النفس عبر الغناء في رحلة البحث عن الراحة المطلوبة.
من الإجابات الأخرى البحث عن مناطق لتغيير مسار الحياة من خلال إيجاد الصداقات الجديدة بعيدا عن علاقات العمل والأسرة و الهروب من ضغط الحياة وشواغل الالتزامات اليومية وروتين العمل والتخفيف من المسؤوليات الملقاة عليهن ومحاولة تعديل المزاج وإيجاد حالة من التوازن النفسي المفقود بفعل ضغط الحياة والذي يحققه الغناء والموسيقى.

إفراغ للشحنات السلبية

إجابات أخرى قدمت تتعلق بالبحث عن نشاط يساعد على الخروج من حالة الاكتئاب والقلق التي باتت عليها المرأة التونسية وخاصة ربات البيوت والنساء المنقطعات عن العمل فيكون الغناء الجماعي وبصوت عال عملية إفراغ للشحنات السلبية وخروجا من واقع الضغط والرتابة ومتنفسا لهن للخروج من إطار البيت الضيق خاصة لمن يسكن شققا صغيرة في العمارات والابتعاد ولو لساعات عن مناخ العائلة والدخول في عالم آخر بعيدا عن الزوج والأبناء ومسؤوليات البيت والالتقاء بأصدقاء جدد يشاركنهن نفس الأسئلة الوجودية…

هناك إجابات تتعلق بالرغبة في التعويض عن واقع الملل وحياة الوحدة بالنسبة للنساء اللاتي يغادر أبناؤهن أرض الوطن إما للدراسة، أو للعمل، أو الاستقرار في بلدان أجنبية فيكون الغناء الجماعي حالة تعويض عن هذا الفراغ فهذه النوادي بالنسبة للبعض محاولة للاندماج من جديد في المجتمع وكسب الصداقات الجديدة وربط الأواصر المفقودة.

تجربة روحانية

من الإجابات اللافتة أن الموسيقى يمكن أن تكون طريقا يُمكن المرأة من الدخول الى عالم الروح وإضاءة لمناطق منسية فيها والغوص في تجربة روحانية بحثا عن عالم جميل يريح النفسية، فالمرأة في حاجة إلى الانغماس في أنواع الفنون كالموسيقى باعتبارها نوعا من أنواع الروحانيات التي تفصل روحها عن هذا العالم السريع المتشنج و المتعب الذي تعيشه.
كانت هذه تقريبا أبرز الإجابات المقدمة حول نمو ظاهرة الغناء الجماعي للنساء وهي كما لاحظنا تدور حول أسباب ودوافع نفسية حيث تكررت عبارات من مثل القلق والملل والاكتئاب والوحدة والهروب والبحث عن التجديد والصداقات والخروج من الروتين وكسر الرتابة وهي إجابات لها علاقة بمجال الطب النفسي والعلاج النفسي وهو ما يطرح السؤال حول دوافع هذه الحالة النفسية التي عليها المرأة التونسية وكيف تكونت هذه المشاعر السلبية خاصة إذا علمنا أن رواد هذه النوادي من النساء المنتميات إلى الطبقة المتوسطة او الطبقة الميسورة..

حالة نفسية؟

ويتفرع عن هذا السؤال سؤال آخر يتعلق بتفسير كيف تحولت هذه النوادي إلى مناسبات أسبوعية لإظهار الاناقة في اللباس ورشاقة الجسم والتباهي بالمظهر أكثر من حضور موعد للتسلية والغناء، حيث لوحظ الاعتناء الكبير الذي تبديه المشاركات في هذه النوادي باختيار اللباس الجالب للأنظار وتسريحة الشعر والعطور المميزة والحذاء الأنيق مما جعل هذه اللقاءات فضلا عن كونها فرصة لممارسة الغناء والاستماع الى الموسيقى والترفيه عن النفس والخروج من حالة الملل مناسبة للتباهي باللباس والمظهر فهل وراء هذا السلوك النسائي حالة نفسية تعيشها المرأة التونسية في راهنها؟

الاحتراق النفسي

لتفسير هذه الظاهرة وفهمها وتقديم معنى مختلف لما درج عليه المختصون في علم النفس والاجتماع في التفاعل مع ظواهر المجتمع استعننا بكتاب ” مجتمع الاحتراق النفسي ” للفيلسوف الألماني الكوري ” بيونغ شول يوهان الذي يتعرض إلى الظواهر المرضية التي تشق أغلب المجتمعات الإنسانية في حاضرها من اكتئاب وغيرها ويناقش مختلف السلوكيات الطارئة حديثا والتي تنتمي إلى مجال الطب النفسي تعرف باسم
“الاحتراق أو التآكل النفسي” الذي ينتاب الأفراد في وضعيات معينة وأوقات تعرف فيها المجتمعات أزمات حادة وعلى عكس المعالجات التي تبحث عن جذور هذا المرض في الاكتئاب أو التحليلات الفرويدية للأنا وإخفاقاتها في العالم فإن يوهان يقوم بربط بين تلك الظواهر وطبيعة مجتمع العمل المعاصر الذي يُطلق عليه مجتمع الإنجاز والتسارع ومجتمع الحياة المتسارعة المضغوطة في مقابل مجتمع التأديب ويعتبر أن ما يسميه بالاحتراق النفسي ما هو إلا النتيجة الطبيعية لعالم يُقدس العمل لدرجة العبادة، بما يعني أنه يرجع الظواهر المرضية التي يعيشها الإنسان المعاصر والتي تكتسي طابع الأزمات النفسية و تلامس الشعور والعاطفة والجوانب الروحية هي نتيجة لفكرة العمل المتداولة وطريقة أدائه بالشكل الذي استقر عليه منذ عصر الثورة الصناعية في أوروبا والتي حصرت نشاط الإنسان فيما يقوم به من أعمال مختلفة في ساعات وحيز من الزمن محدد بكل دقة وتأخذ حيزا كبيرا من وقته واهتماماته وحصرت معنى وجوده وقيمته فيما يقضيه من سنين عمره في مصنع أو شركة أو إدارة أو مؤسسة من مؤسسات المجتمع في إنجاز نشاط عُدّ من قبيل تحقيق الذات الإنسانية وبه تم إقناعه أنه بهذا النشاط تم اكساء معنى لحياته مما حول العمل إلى عبادة ومكان العمل إلى معبد تؤدى فيه صلوات العمل المقدس.

أزمات متعددة

ويذهب أكثر من ذلك في تفسير مختلف الهزات والأزمات النفسية التي يمر بها الإنسان فيقر بأن لكل عصر نوازله التي تحل بآليات ووسائل ذلك العصر بما يعني أن المجتمعات هي التي تنتج أزماتها وهي وحدها من توجد حلولا لها و من ذاتها واليوم الإنسانية قد تجاوزت وتخطت عصر الفيروسات التقليدية باكتشافها للمضادات الحيوية وبفضل وسائل المناعة..
وعصرنا اليوم لا يمكن تحليله إلا من خلال الخلايا العصبية و الأمراض العصبية المتصلة بالاكتئاب وبفرط النشاط واضطراب الشخصية الحدية و متلازمة الإرهاق و مشكلة الجهاز المناعي النفسي في مهاجمة الدخيل على حياتنا حتى وإن لم يكن له نوايا عدوانية ومن هذا الدخيل كل الظواهر النفسية المعروفة.
يحيل يوهان على كل النقاشات الفكرية والفلسفية التي بدأت تتحدث عن تفسيرات للمجتمع الحديث الذي نعيشه و نماذج مناعته وحديث آخر عن تحول النموذج الارشادي للمجتمع وحدود هذا التحول الذي يظهر في المجتمع الحديث كحشد هائل منفلت وخارج عن مخطط المناعة التقليدي – والقول له – بما يعني أن المضادات الحيوية التي كان يستعملها المجتمع لفهم وتفسير وإيقاف نزيف الأزمات النفسية التي يعيشها الافراد لم تعد كافية ولا تفي بالحاجة لإرجاع المجتمع إلى عافيته فالمجال الجماعي حسب يوهان يبحث اليوم عن حل جديد ومختلف لمناعته من خارج الوصفات التقليدية التي تحيل على الطب النفسي والمعالجة عن طريق مختص في الأمراض العصبية ليُطرح الإشكال من جذوره ويرجعه إلى أصوله الأولى ويطرح مسألة العمل وموضوع التصور الذي يحمله الفرد عن العمل وتقديس الدولة والفرد والمجتمع للنشاط المبذول في العمل سواء كان يدويا أو ذهنيا بما يعني حسب الفيلسوف يوهان فإن كل ما يعرفه الإنسان المعاصر من أزمات نفسية مختلفة مردها إلى فكرة العمل بالصورة التي بات عليها اليوم.

طريقة تفكير مختلفة

وهذا يحتاج ويدعو الى التفكير بطريقة مختلفة حول فكرة العمل تستجيب مع الواقع الحالي الذي هو بالضرورة مختلف عن واقع القرن التاسع عشر زمن تأصيل الفكرة فلسفيا.. هذه مقاربة مهمة تستحق أن نفكر فيها لفك حيرة الأزمات النفسية وكل ما ينتجه المجتمع من حلول بمفرده ومن هذه الحلول ما أوجدته المرأة التونسية لتجاوز واقع الروتين الذي تحياه في نوادي الغناء الجماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى