نوفل سلامة يكتب/ الدكتورة رياض الزغل تشّرح الوضع: حتى لا تتحول المرحلة الانتقالية إلى ديكتاتورية جديدة…


كتب: نوفل سلامة
لماذا وكيف فشلت الثورة التونسية التي كانت محل إعجاب كل دول العالم وراهن عليها الشعب التونسي في أن تغير من حاله نحو الأفضل بعد عشريات من الاستبداد وفشل السياسات التنموية؟
وكيف نفسر الخيبة التي منيت بها النخبة السياسية التي حكمت البلاد بعد رحيل نظام الرئيس بن علي وفشلها في تحقيق أهداف الثورة واستحقاقات من قام بها؟ ولماذا حصل الارتداد العنيف والنكوص المدوي عن مسار الانتقال الديمقراطي؟
وهل من تفسير لكل المخاوف الجدية التي يبديها الكثير من الناس من عودة الحكم الفردي والسلطة الاستبدادية؟ وفي الأخير كيف الخروج من أزمة الحكم التي تلقي بظلالها اليوم على كامل المشهد السياسي وهل من حل لهذا الانسداد في الحكم؟ وإذا كان ذلك ممكنا فمن أين نبدأ وكيف تكون الانطلاقة نحو إصلاح الوضع المأزوم؟
كان هذا جانب من الأسئلة القلقة التي تتعب اليوم الشارع التونسي والهواجس التي تحيّر الشعب بعد أن تعثرت الثورة عن تحقيق أهدافها وتوقف مسار الانتقال الديمقراطي وهي الأسئلة نفسها التي طرحتها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات على الدكتورة رياض الزغل الأستاذة الجامعية المتخصصة في مجال الاقتصاد والتصرف ومجال علم الاجتماع في ندوة يوم السبت 4 مارس الجاري.
أزمة حادة
تعتبر الدكتورة رياض الزغل أن البلاد في راهنها تعيش أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية حادة عميقة ومركبة ومتعددة المظاهر، وحلها يحتاج إلى وسائل غير عادية وهذا يعني أن فهم هذه الوضعية المعقدة التي عليها المشهد العام تحتاج إلى تحليل يعتمد على المقاربة الشمولية الكلية التي تأخذ في الحسبان جميع أبعاد الظاهرة بما يعني الاستعانة والاستفادة من عدة اختصاصات علمية في عملية تفاعل ضرورية…
حالة انسداد
هذا الاختناق السياسي الذي نعيشه اليوم وهذا الانسداد الذي يكبل البلاد ويمنعها من الانطلاق نحو وضع مريح أفضل هو نتيجة تجربة الحكم التي عرفتها البلاد بعد ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي عرفت الكثير من العثرات، ويفسر بفشل من حكم البلاد خلال عشرية كاملة بعد الثورة وهو فشل يعود إلى التصور الذي تبناه من تولى إدارة الشأن العام وتسلم مقاليد الحكم والسلطة، وعهدت إليه مهمة تحقيق أهداف الثورة والمرور بالبلاد نحو الحياة الديمقراطية…
وهو تصور انتج أخطاء فادحة منها المراهنة على تأسيس جمهورية جديدة والقطع مع الماضي الاستبدادي في صورته البورقيبية و النوفمبرية والذهاب نحو صياغة دستور جديد بعد إنهاء العمل بدستور 1959 دستور دولة الاستقلال الذي كرس حكم الرئيس الأوحد والرئاسة مدى الحياة وأجّل تبني الديمقراطية نظاما للحكم…
اضطرابات اجتماعية
تعتبر رياض الزغل أن مراهنة النخبة السياسية التي جاءت بها الثورة على التأسيس السياسي وإعطاء الأولية للنظام السياسي وتغيير الدستور والذهاب نحو البناء الديمقراطي في جانبه السياسي وتأجيل البعد الاقتصادي والاجتماعي والتنموي للديمقراطية، هو خيار أدى إلى حصول اضطرابات اجتماعية كثيرة وموجة من الاحتجاجات عطلت آلة الإنتاج وفوضى عارمة من وراء سقف الحرية الذي كان عاليا جدا ودخول البلاد في عملية محاسبة للقديم وتحميله مسؤولية تردي الأوضاع التي أدت الى اندلاع الثورة والتخلي عن كل رموز النظام القديم ومنعهم من المشاركة في الحكم والانتخابات.
الخطأ الثاني القاتل الذي كلف الثورة حصول فشل ذريع وانتكاسة لكامل المسار الديمقراطي ودخول البلاد اليوم في مأزق حاد هو عدم التقدير الجيد لطبيعة المناخ الذي كان سائدا بعد الثورة وعدم القراءة الجيدة للقوى التي تتحكم في هذا المناخ وتحركه، فما حصل هو أن النخبة السياسية الحاكمة أساءت تقدير المناخ الذي سيطر وساد بعد الثورة وأساءت تقدير قدرة القوى المتحكمة والفاعلة والماسكة بمفاصل الدولة والمجتمع…
ونقصد هنا الدولة العميقة وبقايا النظام السابق والإدارة في تعطيل المسار الثوري وإفشال كل انتقال نحو الوضع الديمقراطي.
قراءة خاطئة
حول هذه المسألة تعتبر الدكتورة رياض الزغل أن القراءة الخاطئة للمشهد العام بعد الثورة وعدم الانتباه إلى قدرة القوى الفاعلة في التحكم والتأثير هو الذي جعل الوزراء الذي ساهموا في العشرية الماضية والذين تحملوا مسؤولية انجاح مسار الثورة وهم من الكفاءات يفشلون ويعجزون عن تحقيق التغيير المنشود والذي كان ينتظره كل من قام بالثورة لأن المناخ العام لم يكن يسمح بالإنجاز وكذلك المناخ السياسي لم يكن هو الآخر مساعدا على النجاح..
فعدم توفر مناخ مريح يسهل العمل الحكومي كان سببا مباشرا في فشل كل الفاعلين السياسيين وكان مدخلا للحكم على هؤلاء الوزراء بالفشل وعدم الكفاءة.
لقد كان من الأجدى تبني خيارات أخرى والمراهنة على أوليات مختلفة تستجيب للشعارات التي قامت عليها الثورة وهي شعارات نادت بالكرامة والشغل والحرية فمنطلق الثورة كان رفض خيارات منظومة بن علي التنموية وغضب على الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي عرف وقتها ارتفاعا في نسبة البطالة وتراجع نسبة الاستثمار وهو وضع كان سيؤدي حتما إلى حصول انفجار اجتماعي واندلاع ثورة على النظام السابق، وقد كان الأولى أن تسير البلاد نحو الديمقراطية التدريجية وهذا يعني أن الانتقال الى الديمقراطية كان متوقعا بعد أن تعفن الوضع في آخر فترات حكم الرئيس بن علي…
تطورات مشابهة لتجارب أخرى..
هذه الأخطاء التي ارتكبت في بداية الثورة هي التي أنتجت الوضع الذي نعيشه اليوم والذي يعرف انسدادا وتعثرا كبيرين وخوفا من العودة إلى الاستبداد والحكم الفردي وهو وضع تعده الدكتورة الزغل طبيعي في تاريخ الثورات التي كثيرا ما تعرف فترة ارتداد وتراجع إلى الوراء وحنين الى الماضي وكثيرا ما تلعب القوى الفاعلة والمرتبطة بالمنظومة القديمة أدوارا خفية وعلنية في إسقاط الثورة والدخول في مرحلة استبدادية والعودة إلى الديكتاتورية من جديد، وللتدليل على ذلك تستشهد الدكتورة الزغل بكتاب ” تشريح الثورة ” للكاتب الأمريكي كرين برينتن ( 1898/ 1968 ) تناول فيه بالدرس والتحليل مسار الثورات التي حصلت في التاريخ مركزا على تفكيك أربعة ثورات مؤثرة في حياة الإنسانية في تاريخها المعاصر وهي الثورة الإنقليزية (1640) والثورة الأمريكية (1775) و الثورة الفرنسية (1789) و الثورة الروسية (1917) وقد انتهى في دراسته لخصائص هذه الثورات إلى وجود مشترك بينها يتمثل في الجانب العاطفي الذي يفرض نفسه ويأتي أولا قبل الوصول إلى مرحلة الاستقرار الديمقراطي ويتمثل في أربع مراحل :
المرحلة الاولى : فرحة الناس وحماسهم والأمل والنشوة التي رافقتهم للتغير.
المرحلة الثانية : مرحلة القلق والخوف من تعثر الثورة وما يحصل لها من ارتدادات خطيرة تؤدي إلى منعطفات و منعرجات مؤثرة.
المرحلة الثالثة : يعرف فيها الشعب الذي قام بثورة حالة من الرعب والحيرة والاقتتال وهي مرحلة تعرف فيها الشعوب انتكاسة و بوادر عودة إلى الوضع الاستبدادي.
المرحلة الرابعة : تعرف فيها الثورة حالة من التعافي والاستقرار وهي مرحلة قد تحتاج وقتا طويلا وقد تدوم زمنا قصيرا.
نحن في المرحلة الثالثة..
وحسب الدكتورة رياض الزغل نحن اليوم في المرحلة الثالثة التي يطغى عليها خوف الناس من انحسار الحريات والتراجع عن مسار الانتقال الديمقراطي وعودة الاستبداد من جديد، ولكن ما هو متيقن أن المرور إلى الوضع الديمقراطي هو مطلب إنساني وحالة لا بد من الوصول إليها، وأن المرور بالمرحلة الاستبدادية هي مسألة ظرفية ومرور طبيعي في تاريخ الثورات وما عاشته الشعوب التي عرفت عملية الاطاحة بالحكم بعد ثورة شعبية.
كيف الخروج من وضع الأزمة؟
تعتبر الدكتورة رياض الزغل أن تونس اليوم تعيش أزمة كبيرة في مرورها إلى الديمقراطية وأن وضع الأزمة هذا يحتاج فهم وإدراك لحقيقتها وتشعبها، وهذه الأزمة تحتاج إلى إدارة وقيادة للخروج منها لذلك فإنها تقترح حلا يكمن في إنشاء عقد اجتماعي جامع يقوم على مشروع وطني جامع موحد وغير مفرق فالعرض الذي تقدمه لجميع الفاعلين السياسيين لمعالجة ما يحصل من انحراف عن مسار مرحلة الانتقال الديمقراطي قوامه أن العمل السياسي يحتاج رؤية تقوم على فكرة التشارك والقبول بالاختلاف وأن البناء يساهم فيه الجميع على اختلافهم، عقد اجتماعي مؤسس على المشترك الجامع الذي يلتقي حوله كل التونسيين من أجل المصلحة العامة للوطن ومن أجل العيش المشترك للشعب…
بناء الثقة
وهذا العقد الاجتماعي يحتاج في المقام الأول إلى بناء الثقة المفقودة اليوم وهي تعتبر أنه من دون استعادة منسوب الثقة فإنه لا يمكن تأسيس عقد اجتماعي يحتكم إليه الجميع وينهي حالة الاحتقان ويسمح للبلاد من أن تمر إلى وضع ديمقراطي أفضل من وضع الأزمة الذي يتحكم في كل شيء..
فاليوم الثقة مفقودة في كل شيء في السياسي وفي النخبة بكل تصنيفاتها وفي الإعلام وفي الجامعة والتعليم و في الدولة وأجهزتها.. حيث أوضحت كل الدراسات التي اعتنت بموضوع علاقة التونسي بالثقة أن الجهة الوحيدة التي حافظت على ثقة الشعب هي المؤسسة العسكرية وهذا يعني أن الاشتغال على استعادة الثقة عند الشعب هي مسألة لها الاولوية في صناعة عقد اجتماعي للإنقاذ.
عقد اجتماعي جديد
وهذا العقد الاجتماعي الذي تقترحه الدكتورة الزغل مخرجا من وضع الأزمة مضمونه مرجعية مشتركة بقيادة مشتركة ومعترف بها ولها مقبولية عند الناس وهو عقد يقبل بالاختلاف والتنوع في إطار المصلحة الوطنية الجامعة ويقبل بالتعددية في المؤسسات والنقابة والأحزاب والجمعيات وهي حالة صحية ضرورية لبناء دولة ديمقراطية قوية حتى وإن تولد عن هذا التعدد وهذا الاختلاف صراع معلن…
وهو يعتبر مسألة عادية حينما يتم التعبير عن الاختلاف والجهر بالصراع السلمي وحالة صحية يحتاجها المجتمع الذي يحتاج إلى معرفة العيوب والمحاسن والايجابيات والسلبيات وهذا لا يتوفر إلا بالإفصاح العلني عن الاختلاف والقبول بوجود الصراع السلمي وهنا المقترح يحيل على فكرة أخرى لهذا العقد الاجتماعي الذي يحتاج إلى جانب الاعتراف بالاختلاف والقبول به إلى اللامركزية في اتخاذ القرار والانفتاح على الكفاءات غير المعلن عنها وفي نطاق المحلي والجهوي يتم تكريس التعددية والاختلاف والنقاش والحوار والدربة على الحياة الديمقراطية وهي تجربة بدأت فيها البلاد بعد الثورة وكرسها دستور سنة 2014 غير أنها حققت بعض النتائج وعرفت الكثير من الصعوبات نتيجة عدم توفير الإمكانيات اللازمة للنجاح وخاصة الجوانب المادية و كل التسهيلات اللازمة للعمل.
بناء جديد
وهذا كله يحتاج إلى بناء جديد بنماذج إرشاد جديدة وتفكير جديد في التعامل مع الأزمة ركيزته الأولى أن الدولة التي ليس لها إستراتيجية وطنية في كيفية التعاطي مع مختلف القضايا هي دولة لا تعلم إلى أين تسير، وركيزتها الثانية تطبيق الحوكمة وجعل هذه الآلية صالحة بالقدر الكافي في كل المجالات.
الركيزة الثالثة هي التخلص من فكرة الديمقراطية الشكلية والمرور نحو تبني فكرة الديمقراطية التشاركية التي تسمح للأفراد بالمشاركة في الشأن العام وتسمح للسكان بالتعبير عن رغباتهم وما يصبون إليه من خلال المحلي والجهوي والإقليمي وهي الركائز الثلاث هي التي تمثل ما تسميه الدكتورة بالمثلث الفاضل للحكم على النحو التالي :

منهجية التشبيك
وتواصل الزغل في تحليل هذا العرض الذي تقدمه للسياسيين للخروج من وضع الأزمة باقتراح جملة من الرافعات تراها ضرورية لإنجاح العقد الاجتماعي المقترح تقوم على فكرة الفاعل الشبكي أو ما يسمى بالتحرك ضمن خيار الشبكات الصلبة التي يجتمع حولها وفيها جملة من الاختصاصات وتقوم على منهجية شاملة ومحكمة لأن القضايا المركبة تحتاج إلى حلول مركبة لا يمكن أن نجدها إلا في منهجية التشبيك.
مقاربة متفائلة
ما نخرج به من هذه الندوة التي بدأت متفائلة وهذه المقاربة التي تقدمها الدكتورة رياض الزغل لإنهاء وضع الأزمة الحانقة اليوم في تونس قد انتهت متشائمة أو فلنقل قلقة و متخوفة من أن تدوم حالة الانتكاسة وحالة الارتداد عن الديمقراطية فهي تعتبر أنه ما دامت سياسة الدولة مشدودة إلى مركزية القرار وما دامت الديمقراطية لا تزال متعثرة والقيم مغيبة فلا استغراب من ظهور علامات ديكتاتورية جديدة في الأفق وملامح استبداد في طريق التشكل ومع ذلك تبقى حسب المحاضرة الحاجة إلى التغيير قائمة…