صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: أي راهنية لرواية ‘برق الليل’ و’ليلة السنوات العشر’ في مأزق الانتقال الديمقراطي؟

كتب: نوفل سلامة

مواصلة لنشاطها الثقافي وفي إطار نادي ‘مجالس الفكر والأدب’ في حلقته الثانية للموسم الثقافي للسنة الحالية تحت شعار ‘كتب وكتاب’، نظمت المكتبة الجهوية متعددة الوسائط بأريانة وبالاشتراك مع جمعية أحباء المكتبة والكتاب ندوة فكرية بعد ظهر يوم الجمعة 20 جانفي الجاري قدمت خلالها خمس قراءات أدبية وفكرية لخمس روايات تونسية وعربية…

الأولى قراءة في رواية برق الليل للأديب المرحوم البشير خريف قدمها الأستاذ محمد القاضي، والثانية رواية الوقائع الغربية في إختفاء سعيد أبي النحس المتشائل للروائي الفلسطيني أميل حبيبي قدمها الكاتب حسونة المصباحي والثالثة قراءة في رواية الأسود يليق بك للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي قدمها الكاتب عيسى البكوش، والرابعة قراءة في روايته الأخيرة فاكهة الجنة قدمها صاحبها الكاتب مراد البجاوي والخامسة قراءة في رواية ليلة السنوات العشر للكاتب التونسي المرحوم محمد صالح الجابري قدمها الكاتب مصطفى المداني وبحضور أحد أبطال الشريط بعد أن تحولت إلى شريط سينمائي من إخراج إبراهيم باباي…

الروايات الخمس

الروايات الخمس التي أثثت هذه الندوة مهمة ولها دلالاتها وسياقاتها التاريخية وحمولتها الفكرية والأيديولوجية وهي روايات مفتوحة على قراءات متعددة وقابلة لتأويلات مختلفة ومشبعة بحمولة مضمونية تفرض راهنيتها في زمن التحولات هذا وزمن انتكاسة ثورات الربيع العربي وما يعرفه الانتقال الديمقراطي في تونس من انتكاسة ومآزق جعلت حلم الشعوب ومن ورائه حلم الشعب التونسي في حياة أفضل يتعثر.

حقبة الاستعمار الإسباني


رواية برق الليل هي أشهر رواية للأديب التونسي المرحوم البشير خريف ( 1917 / 1983 ) وهي عند المتابعين للشأن الأدبي أول ما كتب الراحل و ظهرت للعموم سنة 1961 بعد أن حازت سنة 1960 على جائزة على البلهوان التي كانت تمنحها مدينة تونس لكن بداياتها الأولى كانت في سنة 1946 عندما بدأ في كتابتها ولم ينهها في وقتها إلى أن جاء الاستقلال فأتمها ونشرها سنوات قليلة بعد الاستقلال ..
أحداثها تدور خلال القرن العاشر هجري السادس عشر ميلادي في زمن الاحتلال الإسباني لتونس في عهد الدولة الحفصية التي استنجد أميرها الحفصي بالباب العالي وطلب العون من الخلافة الإسلامية التي كان يمثلها الأتراك فأرسلوا القبطان بربروس في حملة عسكرية انتهت بطرد الأسبان وبداية حكم البايات في تونس وتأسيس الدولة الحسينية التي سوف تبقى تحكم البلاد حتى إلغائها على يد الرئيس الحبيب بورقيبة بعد خروج فرنسا ونهاية الاستعمار ومن هنا يمكن اعتبار الرواية من قبيل الكتابة الروائية التاريخية بما يجعل أحداثها حقيقية أما بطل الرواية فهو شخصية خيالية من نسج خيال الكاتب وهو شاب يدعى برق الليل زنجي إفريقي قادم من مالي تم جلبه إلى تونس ضمن العبيد الذين حلوا بالبلاد وقد جعله البشير خريف العنصر الرئيسي في الرواية في رمزية مهمة وغاية مقصودة بما يجعل التاريخ مرتهن بالخيال ومتقيد بالروايات وبالمتخيل.
راهنية الرواية في اختيار الحقبة الزمنية التي اختار أن يشتغل عليها البشير خريف وهي حقبة الاستعمار الإسباني لتونس ( 1535 م / 1574 م ) وحلول العثمانيين محل الأسبان بعد طردهم وهي حقبة تشبه ما حصل للبلاد بعد الاستعمار وما يحصل هذه الأيام للثورة التونسية من انتكاسة لتغيير الأوضاع وصعوبة التأسيس لمسار سياسي أفضل وكل التغييرات التي طرأت على المجتمع التونسي بعد انتشار الجيش الانكشاري في كامل ربوع البلاد وما جلب معه هذا الوافد الجديد من ثقافة وعادات وطباع الاتراك.
راهنية الرواية في اختيار بطلها وهو شاب وزنجي من عبيد افريقيا استطاع أن ينهي الصراع العسكري مع الإسبان بعد أن لوث بئر الماء التي كان يشرب منها الجيش الإسباني وبهذا التصرف مات الكثير من الجند واضطر ما تبقى منهم إلى الرحيل عن البلاد في رواية مخالفة للسردية التاريخية التي تقول بأن القائد بربوس هو من أطرد الإسبان و أجبرهم على الخروج من تونس بعد احتلال دام قرابة الثلاثين سنة وفي تغيير الحقيقة التاريخية لخدمة السرد الروائي استطاع بشير خريف أن يجعل من شخصية غير معروفة أن تكون هي الحل والمخرج للمأزق التاريخي والسياسي الذي وقعت فيه البلاد بما يوحي بأن مسار التاريخ وتحولاته قد تتحكم فيه أشياء غير معروفة قد لا نقرأ لها حساب.
راهنية الرواية في كتابتها في الأربعينات ونشرها في ستينات القرن الماضي سنوات قليلة بعد الاستقلال و في ربطها بتأسيس الدولة الوطنية وكل التحديات التي كانت مطروحة على بناة الجمهورية الجديدة من قبيل هاجس الهوية الوطنية الجامعة والهوية التونسية الجديدة والبحث عن المشترك والقيم الموحدة للشعب التونسي وهو للتو خارج من استعمار فرنسي غاشم واستعمار إسباني قديم كان سببا في قدوم العثمانيين واحتلال الفرنسيين.
راهنيتها فيما تطرحه من قيم الحرية التي يمثلها العبد برق الليل وهو يتعرّف على فتاة من علياء القوم ويقرر الارتباط بها رغم كل القيود والموانع .. وحرية تونس من الاستعمار الإسباني .. وحرية تونس بعد فك احتلالها من الاستعمار الفرنسي وهي متشبثة بعهد جديد وتبحث عن عالم جديد بعد أن اتخذت من التاريخ رداء ترتدي به.
راهنتيها فيما تصوره من انتكاسة حصلت للبلاد بعد أن استنجد الحفصيون بالأتراك بناء على روابط الأخوة الاسلامية والتضامن الإيماني لطرد المحتل الأجنبي وما حصل من منقلبات وخيبات بعد بقاء الجيش الانكشاري  العثماني في البلاد ومنعرجات مهدت لنهاية الحكم الحفصي وبداية تاريخ العهد العثماني الذي تواصل لعقود من الزمن حتى رحيله مع تأسيس الجمهورية.  

سنة مفصلية في تونس

ليلة السنوات العشر للأديب المرحوم محمد صالح الجابري صدرت سنة 1982 وهي سنوات مفصلية في تاريخ تونس وبداية مرحلة سياسية ستعرف تقلبات مؤثرة في الحكم انتهت بتنحية الرئيس الحبيب بورقيبة من الحكم إثر انقلاب السابع من نوفمبر 1987 الذي قاده الرئيس بن على ومرورا بأزمات اجتماعية حادة أخطرها أحداث الخبز 1983 وما رافقها من اهتزاز الثقة في دولة الاستقلال وفقدان الأمل في تحسن الأوضاع.
  تحصلت الرواية على جائزة منظمة الوحدة الافريقية ونظرا لقيمتها الفكرية والأدبية تم تحويلها إلى عمل سينمائي تولى إخراجه المخرج إبراهيم باباي الذي لاقى الكثير من العراقيل في إنتاج الشريط ولم يلق الدعم المطلوب من وزارة الثقافة التي خيرت دعم شريط عصفور السطح الذي أنتج في نفس السنة وهو شريط لا مقارنة بينه وبين ليلة السنوات العشر من حيث القضايا المطروحة، وقد أدى تخلي وزارة الثقافة على دعم الشريط ماديا دخول المخرج باباي في أزمة حادة وتعطل التصوير وقد ذكر حمادي دخيل أحد أبطال الشريط في شهادة للتاريخ اثناء النقاش أن الزعيم أحمد بن صالح اتصل بالمخرج وسلمه صكا بمبلغ مالي ما سمح بمواصلة التصوير وإنتاج الشريط ولولا هذا الدعم المالي من طرف المناضل أحمد بن صالح لما أمكن للشريط أن يرى النور، وتعتبر هذه الشهادة وثيقة مهمة على الدور الذي لعبه أحمد بن صالح في الوقوف إلى جانب الرواية بعد تحويلها إلى شريط سينمائي ومساندته للقضايا الجادة في زمن بدأت فيه الرداءة تظهر والابتذال يتسلل إلى ذوق الناس.
قيمة رواية ليلة السنوات العشر في كونها تطرح تقريبا نفس القضايا التي تطرح اليوم بعد الثورة وبعد تعثر مرحلة الانتقال الديمقراطي و راهنية الرواية في كونها تؤرخ لحقبة زمنية كانت فيها البلاد تبحث عن توازنها بعد مرحلة صعبة مرت بها البلاد بعد فشل تجربة التعاضد وما رافقها من ظهور مشاعر الغضب الشعبي من خيارات دولة الاستقلال وفشل خيار النهج الاشتراكي و المرور إلى الاقتصاد على النمط الشيوعي ثم القطع مع هذا المسار والدخول في تجربة جديدة والارتماء في أحضان البديل الليبرالي.

الصراع بين القديم والجديد

راهنية الرواية في كونها قد أرخت لمرحلة السبعينات وبداية الصراع بين القديم والجديد وحيرة التأسيس الجديد والخوف من الفشل وردة فعل الشارع والمتربصين وبقايا خدم الاستعمار وبداية التصادم بين الدولة واتحاد الشغل وما حصل من منعرج اجتماعي وسياسي بعد أحداث جانفي 1976 وما حصل من تراجع في مرحلة الرخاء الاقتصادي الذي عرفت به مرحلة سبعينات القرن الماضي وما بات يعرف بعشرية الهادي نويرة .. راهنية الرواية في تشابه أحلام أبطال الرواية ” نجيب مروان وليلى ” مع أحلام شباب ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي والالتقاء في نقطة الإحباط والخيبة إثر تعثر كل من حدث الاستقلال وحدث الثورة عن تحقيق الأهداف وتراجع منسوب الأمل والثقة في رجل السياسة وفي من يدير الشأن العام وخيبة أخرى في توقف مسار الدولة الوطنية بعد الاستقلال بالنسبة لأبطال رواية ليلة السنوات العشر وتعثر أحلام شباب الثورة بعد تعثر الانتقال الديمقراطي فالقاسم المشترك هو خيبة الأمل وتراجع منسوب الثقة في تحسين الأوضاع وكل الأسئلة المشروعة والمحرجة التي طرحها شباب الاستقلال ويطرحها اليوم شباب الثورة.

الكآبة الثورية

راهنية الرواية فيما ذكره الأستاذ حكيم بن حمودة في أنه لا يمكن التفكير في العشر سنوات الأولى من عمر الثورة التونسية من دون الرجوع إلى رواية ليلة السنوات العشر للكاتب والروائي التونسي الكبير محمد صالح الجابري وما تطرحه هذه الرواية من مسألة أصبحت تقليدية في مسار الثورة وهي الكآبة الثورية التي تعرضت لها الرواية بطريقة ممتعة من النواحي الفلسفية والتاريخية وحتى النفسية وهي حالة  تصاحب دوما الثورات خاصة عندما تحيد عن الأهداف التي قامت من أجلها..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى