نوفل سلامة يكتب/ أفكار جديدة تقود العالم: التنوير الظلامي، الرجعية الجديدة ونهاية الديمقراطية..

كتب: نوفل سلامة
اليوم الإنسانية تعيش على وقع تحول كبير في الفكر والثقافة والقناعات.. واليوم العالم يعرف منعرجا كبيرا في أفكاره ورؤاه وتوجهاته التي يحتكم إليها..واليوم النظام العالمي يعرف تغييرات جذرية في قيمه ومبادئه ونظمه وأفكاره وتراجعا كبيرا عما أنجزته حداثته وعصر أنواره.
صعود الشعبوية
واليوم مع صعود التيارات الشعبوية إلى سدّة الحكم وتقدم أحزاب اليمين المتطرف في نوايا سبر الآراء والتصويت وعودة الأيديولوجية القومية المنغلقة والهويات الوطنية، من المهم أن نفهم إلى أين يسير عالمنا؟ ومن يحكم هذا العصر المتقلب؟ وما هي الأفكار المؤثرة فيه؟
ومن هي الشخصيات والأسماء والرموز الفكرية التي تقود وتؤثر في الشعوب وخياراتها وتوجه الحكومات والرؤساء الجدد؟
مفكرون جدّد
اليوم لم يعد من الممكن أن نفكر ونفهم واقعنا بنفس المنظومة الفكرية التي أنتجت الحداثة الغربية، وأسسّت لعصر الأنوار كما تشكلت بداية من القرن السابع عشر ميلادي، وكل الفلسفة الفكرية والسياسية التي أنتجت الفكر الديمقراطي ومؤسساته وهياكله التي نفتخر بها على أنها أرقى وأفضل ما وصل إليه العقل البشري في وقتنا الحاضر.
اليوم من الغباء أن يبقى فلاسفة عصر الأنوار و مفكرو الحداثة هم النخبة الفكرية التي نستعين بها لفهم وتحليل واقعنا ونستلهم من أفكارها، و منجزها رؤانا، ومعارفنا ووعينا.
اليوم هناك مفكرون جدد ورموز فكرية أخرى غير معروفة على نطاق واسع أفكارها هي من يحكم العالم ويوجه السياسات ويقود الإنسانية في راهنها نحو عالم جديد مختلف تماما عن عالم الحداثة الغربية كما صاغها فلاسفة عصر الأنوار وكل الثورات السياسية والفكرية التي حصلت…
كيرتيس يارفين من أكبر الرموز
أهم شخصية أفكارها مؤثرة في المشهد المعرفي الجديد في العالم هي الأمريكي ‘كيرتيس يارفين’ المعروف في الأوساط الإعلامية بـ الإيديولوجي الرجعي، وهو أحد أبرز المفكرين الأكثر تأثيرا في أفكار تيار اليمين المتطرف في العالم وفي أمريكا بالخصوص وهو الداعم الكبير لنهج الرئيس دونالد ترامب في نظرته للعالم ورؤيته لكيفية إدارة الحكم وقيادة الشعب؟
هذا الرجل الذي بدأ حياته في مجال الأعمال في ميدان التكنولوجيا والتقنيات الرقمية الحديثة التي صنعت عالم شبكات التواصل الاجتماعي ومختلف المواقع الأخرى حتى الذكاء الاصطناعي ترجع أصوله من جهة أبيه وجدّه إلى عائلة يهودية شيوعية، ومن جهة أمه إلى عائلة متدينة مسيحية قد حوّل نشاطه من عالم صناعة التكنولوجيا إلى عالم صناعة الأفكار وعالم التنظير الأيديولوجي، وطوّر أفكاره ورؤاه في حوارات كان يجريها في موقعه على شبكة التواصل الاجتماعي، وهي أفكار تحوّلت مع الوقت إلى نظرية تتبناها كل التيارات الشعبوية وجميع أحزاب اليمين المتطرف في العالم أُطلق عليها اسم ‘التنوير الظلامي’ التي تُبشّر بنهاية الديمقراطية في العالم والرجعية الجديدة التي تؤمن بالقوة والتسلط لقيادة الدولة…
حكومات تكنولوجية!
الفكرة الأساسية لهذه الأيديولوجية الجديدة التي نجدها عند كل الشعبويات اليوم ويقود بها ترامب بلاده ويريد نشرها في العالم، تعتبر أنه يجب أن تكون إدارة الدولة وتسيير الحكومات مثل إدارة شركة خاصة، وعلى شاكلتها يكون على رأسها أحد قياصرة التكنولوجيا وأن الديمقراطية والفكر الديمقراطي وآلياته هي أدوات قديمة اتضح أن مردودها ضعيف، وهي مسألة قد جرّبتها الإنسانية وعفا عنها الزمن وأصبحت بالية وخاصة مبدأ حق الفرد في التصويت..
وهذا يعني حسب يارفين وكل المعسكر الذي ينتمي إليه أن النظام الديمقراطي كما تشكل وطبق في الفضاء الغربي وكل ما انتجه من آليات حكم ومنظمات ومؤسسات وهياكل وأفكار ومعارف ورؤى قد جُربت ففشلت…
واليوم انتهى دورها بعد أن فقدت صلاحياتها وجدواها وهي تجربة فاشلة و مهدورة أثبتت عدم جدواها وفاعليتها والإنسانية في راهنها تحتاج إلى فكر وفلسفة ونهج جديد يعيد إليها نجاعتها وقدرتها على إسعاد الإنسان المعاصر.
فالعالم اليوم لم يعد في حاجة إلى مزيد من الديمقراطية بقدر حاجته إلى قيادة قوية على شاكلة القيادة التي تدير شركة خاصة، وهذا يحيلنا إلى الحديث على الفكرة الثانية التي تقوم عليها أفكار ‘يارفين’ وهي الرجعية الجديدة وهو مفهوم يحيل على عقيدة غير ديمقراطية ورؤية معادية للتقدمية كما روج لها فلاسفة الأنوار والحداثة..
وهو عرض جديد يقترح على الإنسانية للتخلص من الديمقراطية من أجل إدارة الدولة كشركة يتربع على رأسها رئيس لتحقيق أكثر نجاعة وفاعلية وجدوى بعد أن اتضح بأن النظام الديمقراطي غير مجد ولا فاعل ويقترح بديلا عن ذلك الذهاب نحو النظام الملكي أو التسلطي وهي ليست نظرة محافظة عنده وإنما استراتيجية وخيارا يعتبر أن النظام التسلطي هو النموذج الأكثر فاعلية ونجاعة وفائدة للشعوب…
التخلص من الديمقراطية
ويضيف ” يارفين ” أن المرور من الديمقراطية إلى نظام حكم أكثر فاعلية ومردودية وأكثر فائدة للناس يتم حتما عبر مرحلة تعرف فيها البشرية عودة التسلطية والديكتاتورية ولكن العودة إلى صيغة النظام الملكي أو القيصري ليست غاية في حد ذاتها ولا هي المبتغى، وإنما هي جسر عبور ضروري للتخلص من الديمقراطية وهي طريقة ووسيلة ضرورية للوصول الى حكومة فاعلة.
ما يطرحه يارفين ورفاقه هو إعادة النظر في كل النسق الفكري الذي أنتج الفكر الديمقراطي ومراجعة كل الأفكار التي تحوّلت إلى قناعات خادعة حكم بها الليبراليون الديمقراطيون الشعوب وأوهموهم بأنهم أحرار وخدعوهم بالديمقراطية الشكلية التي تصور إرادة الفرد وحريته في عملية الاقتراع والانتخاب والحال أن ‘الحبة الحمراء’ التي تحدث عنها الفيلم الشهير ” ماتريكس ” قد أظهر أنه بعد شرب البطل هذه الحبة قد اكتشف حقيقة ذاته وحقيقة واقعه ومجتمعه وأنه كان مخدوعا ومحبوسا وسط علبة من الأفكار المزيفة.
من الأفكار الأخرى لــ يارفين أن العالم الحالي الموصوف بالديمقراطي وعالم الحقوق والحريات هو عالم تحت سيطرة وحكم ما يسميه بـ’الكاتدرالية’ وهي تجمّع من أساتذة الجامعة ورجال الإعلام والصحافيين الذين اجتمعوا والتقوا من أجل صناعة رأي عام والتأثير والتحكم فيه وهي طبقة متحالفة مع رجال السياسة وتعمل على نشر القيم التقدمية المزعومة وهي في الحقيقة ليست كذلك.
إعادة ضبط المجتمعات
يعتقد أن المجتمعات في حاجة إلى إعادة ضبط شاملة وهي لا تحتاج إلى مزيد من الجرعات الديمقراطية ولا إدخال إصلاحات هنا وهناك، وإنما الذي يحتاجه العالم هو التخلص من كل رواسب الديمقراطية ومنتجاتها والقطع مع فكر عصر الأنوار كما تشكل في القرن السابع عشر ومنجز الحداثة الغربية وفلسفاتها وتحويل الدولة إلى شركة مساهمة ذات سيادة على رأسها رئيس تنفيذي قوي ويمتلك سلطة مطلقة وفي خدمة المجموعة من أجل تحقيق النجاعة والفعالية والسرعة..
هذا البديل؟
ويعتقد أن أفكاره هذه هي البديل الذي يتبناه اليمين المتطرف في العالم والتيارات الشعبوية القادمة بقوة، وهذا ما أظهرته نتائج سبر آراء أُجري في فرنسا لمعرفة نوايا الثقة في السياسيين حيث عبر 48 % من المستجوبين أنه لا مانع من التقليل من الحريات والتخفيف من الجرعات الديمقراطية من أجل تحقيق أكثر نجاعة وأكثر فاعلية في الحكم.
ما أردنا قوله هو أنه من خلال الاطلاع على أدبيات وما يكتبه ” كيرتيس يافرين ” و ” نيك لانك” الفيلسوف البريطاني ونائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس والملياردير مارك أندرسون والإعلامي ” تاكر كارلسون ” الملياردير إيلون ماسك وغيرهم من الشخصيات التي تملك الثروة وتتحكم في صناعة التكنولوجيا الرقمية وتمتلك أكبر المؤسسات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، نقف على حقيقة أن عالمنا الحالي لم يعد يُدار ولم يعد يفهم ولا تفسر أحداثه ووقائعه وفق المعرفة القديمة التي أنتجها فلاسفة عصر الأنوار ولا يحلل انطلاقا من أفكار جون جاك روسو ولا جون لوك ومونتسكيو ولا هيغل ولا ماركس ولا سبينوزا و هيدغير ولا ساتر ولا دوركايم وغيرهم ولا حتى من كل المفكرين المعاصرين…
عالم جديد
وإنما العالم اليوم تتحكم فيه معرفة جديدة لا علاقة لها بكل الصراعات الأيديولوجية القديمة والفلسفات التي حكمت العالم لمرحلة طويلة صنعها رجال أعمال تحوّلوا إلى صنّاع أفكار قلبت حال الكرة الأرضية رأسا على عقب وأنهت حقبة طويلة من الجدل الفكري والمعرفي والفلسفي.. وطالما لم نطلع على ما يكتبه هؤلاء ونستوعبه جيدا فإننا لن نفهم واقعنا وما يدور حولنا ولن نفهم ماذا يحصل وإلى أين نحن سائرون.