الصريح الثقافي

نعيمة مناعي..الشاعرة التونسية السامقة التي تنسج خيوط أشعارها..بحبر الروح  

“اشرأب عنقي

فتزاحمت الصفحات ترد السلام

تغرقني إلهاما

تسكب عطور البيان

تترعني خمرة الحرف الشجي

فيعزف على أوتاري

ويصحو عشق الضاد

في شراييني

ويعلو بي

فأعلو به

وأعتلي

لأخيط من سناه

وطنا لي..”

(أبيات منتقاة من قصيدة “منارة الرجاء” للشاعرة نعيمة مناعي )

“الشعرعندي تدوين لحياة البشر،للألم وللخذلان،وللفرح المقبور منذ أزمنة بعيدة،ورثاء لحب مغتال..”(نعيمة مناعي)

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الكتّاب الحقيقيين يشتغلون بشكل دائم،في رؤوسهم وفي نصوصهم، على آليات الكتابة التي يقيمون فيها كتأملات وتقطيعات خاصة للعالم.وهم بذلك الصنيع،يرقبون الحياة والوجود من نقطة دقيقة بمثابة فتحة بابهم المكتظ بالأسئلة والإشتغال الدؤوب.

الشاعرة التونسية نعيمة مناعي التي أنجبتها مدينة الكاف الشامخة واحدة من هؤلاء،تشتغل بحرقة في الكتابة الشعرية،لتأسيس نفس وخيار جمالي،له تسويده وتقطيعه ونظره الخاص ليس للحياة فحسب،بل للنص الشعري نفسه الذي يغدو مرتعشا في يدها وزئبقيا وشفيف المرايا إلى حد الكسر في الرّوح..

مشهد شعري متميز

هذه الشاعرة المتألقة تؤسس لمشهد شعري متميز،عبر استمرارية وصيرورة ذات قيمة انتمائية فذة،حيث تبيح لقلمها،لرؤاها ورؤياها،متعة التحليق في الآقاصي لتأثيث عوالم بعيدة،باحثة من خلالها عن ممرات دلالية وصورية ومديات بلاغية روحية لكونها الشعري اللامحدود،وخالقة عبر توظيفاتها متعة دلالية،ولذة تصويرية حركية،لتمارس فعلتها الكينونية الإبداعية،حالمة بولادة جديدة في رحم النص الشعري.

وأنا أضع يدي على بعض قصائدها المتوهجة أحسست،بعد تمحيص ونظر،أنّ الشاعرة-نعيمة-تكتب وفق استراتيجية في الكتابة الشعرية.

ولذا وجب-في تقديري-لفت النظر بدقة لكل الآليات والتقنيات المستعملة وفق وعي جمالي ونقدي ملازم.وإذا حصل،سيتم تقليب صفحات قصائدها-الخصبة-،مثلما نقلب المواجع الرائية،لأنّ الألم في الكتابة،له بكل تأكيد،ينابيعه الخلاقة التي تغني نهر الإبداع الإنساني بالإضافات العميقة والجميلة.

وهذا يعني أنّ نجاح المبدعة التونسية نعيمة مناعي في جل منجزاتها الشعرية متمثّلا في عدم سقوطها في الإرهاق اللغوي،فهي تملك لغتها وتعرف كيف تتلاعب بها ومعها،وتبدو رؤية الشاعرة واضحة،واعية تماما لطروحاتها كشاعرة بالدرجة الأولى،وكفنانة تعشق الرسم بالكلمات في الثانية،ففي قصائدها المنتقاة بحذق ومهارة تحاول الإنفلات من عقال ذاتها والإنفصال عنها لصالح المحيط،والعبور من الخاص بإتجاه العام والإنساني.

تجليات الكتابة الإبداعية

حين سألتها عن آفاق وتجليات الكتابة الإبداعية في-زمن فقدنا فيه الطريق إلى الحكمة-إكتفت بالقول : ”الكتابة الإبداعية لا تنطلق إلا من دوافع خاصة،أو هذا ما أفترضه دائما،لكني لا أسأل نفسي في كل مرة وأبحث فيها عن دوافع الكتابة لدي،فالكتابة-في تقديري-شكل تعبيري مثل الرسم والموسيقى والنحت وغير ذلك،وتحتاج إلى وعي كبير بالذات،وإلى قدرات أخرى بطبيعة الحال،ثم تكون هي نفسها أداة تعبيرية عن ذلك الوعي وسبيلا لتطويره.كما قد يكون أيُّ نتاج للكتابة بحثا عن ذات يُفترض أنها موجودة على نحو ما.والشعرعندي تدوين لحياة البشر،للألم وللخذلان،وللفرح المقبور منذ أزمنة بعيدة،ورثاء لحب مغتال..”

وبسؤال مغاير سألتها :”لقد تمرسنا في صناعة الأمل،و لولاه لقضينا حزنا و كمدا”،كان قد أخذنا لنفس السياق الكاتب الروسي”دوستويفسكي”منذ أكثر من مائة عام ليؤكد أنه”أن تعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة”،لماذا هذا الإجماع على قدرة الأمل في مجابهة واقع لطالما تساءلنا عن جنسيته ضمن حدود أحلامنا..؟

فأجابت محدثتي نعيمة مناعي :”يبدو أنّه علينا أن نخلقَ معادلاً موضوعياً لأزماتنا،الأمل يشكّل هذا المعادل الموضوعي.هذا من جانب،من جانب آخر فإنّ الأمل يحمل في طياته بذور الأمل التي ستنبت يوماً ما في حقول الألم،وشيئا فشيئاً ستتمدد تلك النباتات وهي تطرد أمامها الأشواك حتى تنظّف الأرض منها،وتحولها من أرض يباب إلى أرض مفعمة بعطر الأزهار.”

لو عدنا إلى زمن الكاتب الروسي الخالد دوستويفسكي :”أن تعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة”،سنرى أنّه أطلق مقولته تلك بينما كانت بلاده تعيش أصعب ظروفها،وبعد ذلك بسنوات شهدت روسيا “الثورة البلشفية”عام 1917،تلك الثورة التي غيّرت وجه روسيا والعالم لعدة عقود.”

سرّ الاستمتاع بالعمل

ثم ختمت حديثي معها بالسؤال التالي :”في عالم الكتابة،إذا ما تطرّقنا لرأي الروائية الأمريكية “بيرل باك” بأن “سرّ الاستمتاع بالعمل يتلخّص في كلمة واحدة،الإجادة”،أين نجد الشاعرة”نعيمة مناعي“بين الاستمتاع و الإجادة؟

وكانت إجابتها:”من الصعب عليّ أن أصدر أحكاماً على ما أكتب،وبالتالي تصبح الإجابة على هذا السؤال خالية من الحيادية.بالنسبة لي أنا لا أتعامل مع الكتابة الشعرية بالخصوص كشكل من أشكال الترف والتسلية،وإنما أتعامل معها بمنتهى الجدية،احتراما للكلمة،واحتراما للقارئ الكريم.

وفي المقابل لا بدّ وأن يرصدَ الشاعر ردود الأفعال على كتاباته علّ ذلك يساعده في ضبط اتجاه بوصلته.صحيح أنّ من حقِّ القارئ أن يحقّق قدراً من الاستمتاع أثناء قراءته،ولكنني لا أصرف جهداً في هذه المسألة،بل أصرف هذا الجهد في تطوير أدواتي الفنية،لتوصيل الرسالة التي أسعى إلى توصيلها للقارئ،مع التأكيد على ضرورة توفر الشروط الفنية بأعلى درجاتها الممكنة في النص الشعري.في هذا الصدد،أستذكر رأيا كتبته أنت في تعليقك على إحدى قصائدئ مفاده أن “نعيمة مناعي” شاعرة تمارس إكراهاتها على نصها الشعري “

وإذ أسجّل إعجابي الكبير-بالإبداعات الشعرية-للشاعرة التونسية السامقة نعيمة مناعي التي تطمح دوما عبر كتاباتها الإبداعية إلى التطوّر والتجاوز،فإنّي أؤكّد على أنّ النص الإبداعي لن يخترق الحدود إلا بقوته الذاتية،كما أنّ حضور القارئ،بل حلوله،في الماهية الإبداعية الملغزة،هو وضع طبيعي يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان،ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية الجديدة على العالم الحسي المشترك،والوقائع والعلاقات المتبادلة،وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلي غير المقتصر على فئة نخبوية من البشر دون سواها..

ولنا عودة إلى المشهد الشعري للشاعرة نعيمة مناعي عبر مقاربات مستفيضة.

نموذج من شعرها :

حرف بلا عنوان…!

يكفيني صباح وقهوة لأرتبك على مهل

وهدوء كامل

عشرون ألف إمرأة عشقت

ولازالت الجميلات على عتبة قلبك ،يتنازعن

فلن أقول فيك

أيها الوسيم النادر

ولا يا من تركب حصانا أسطوريا

وتشهر سيف خالد…!

لن أقول ذلك …كي لا تقع في حبك

إمرأة أخرى تتسرب إلى قلبي خلسة

فتسرقك وأتورط في إثم حبها …!

(نعيمة مناعي)

محمد المحسن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى