محمد الناصر يروي: هكذا عشت ثورة جانفي 14 جانفي 2011 / سيرة رجل ساقه القدر إلى قصر قرطاج (2 / 4)

إعداد: نوفل سلامة
يؤكد محمد الناصر أن السمة البارزة التي صبغت فترة ما بعد الثورة وتسببت في حصول إحراج كبير للحكومة كانت في تزايد المطالب الاجتماعية، بالرغم من أن حكومة الثورة قد أنجزت العديد من القرارات لفائدة الفئات الاجتماعية منها التشغيل والترسيم والابتعاد عن الآليات الهشة للتشغيل…
وبقدوم الباجي قايد السبسي للسلطة بدأت الدولة تسترجع هيبتها وقد جاء بـ برنامج استعجالي حكومي فيه استجابة كبيرة وواسعة لأهداف الثورة يشتمل على ثلاثة محاور:
انتداب 20 ألف في الوظيفة
أولا – تشغيل الشباب وتحقيق التوازن بين الجهات وهي القضية التي كانت غائبة قبل الثورة وهذا تطلب إجراء تحوير في قانون المالية لإيجاد التمويلات اللازمة للقيام بانتداب قرابة عشرين ألف شاب من العاطلين عن العمل (20 ألفا) في الوظيفة العمومية..
ثانيا – برنامج تكوين ورسكلة للشباب العاطل
ثالثا – دعم مالي للمؤسسات الصغرى والمتوسطة
لكن هذا البرنامج الاجتماعي الذي كان التعويل عليه كبيرا لتلبية استحقاقات الثورة قد عرف الفشل لعدة عوامل منها تخلف وعد الأوروبيين من تمكين الثورة التونسية المبلغ المالي المقدر بـ 25 مليار دولار المرصود من طرف ” قمة دوفيل ” للانتقال الديمقراطي لمساعدة تونس ويرجع محمد الناصر بقاء هذا الوعد حبرا على ورق إلى نتائج انتخابات سنة 2011 والنظام السياسي الذي تم اختياره.
أرقام مفزعة
يقول محمد الناصر بعد تسلّمي مهامي على رأس وزارة الشؤون الاجتماعية حضرت اجتماعا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بطلب من رئيسها عياض بن عاشور لإلقاء كلمة حول الوضع الاجتماعي، وكانت النتيجة أن لا أحد كان مهتما بما قدمته من حلول لمشاكل البلاد وأوضحت فيها الحقائق التي وجدت فيها الدولة نفسها بعد الثورة..
ومن هذه الحقائق أن الدولة التونسية لم تقم بدورها التعديلي في بسط عدالة التوزيع لثمرة الإنتاج، ولم يكن توزيع ثروة الإنتاج عادلا بين الجهات ولا بين الأجيال ولا بين الفئات وقدمت أرقاما مفزعة عن حالة الفقر وحقائق أخرى عن وضع الفئات المعوزة، مما أفقد الدولة صفة الدولة الراعية…
وقدمت رقما عن الفقر الذي وصلت نسبته في سنة 2011 حدود 20 % من جملة عشرة ملايين عدد سكان البلاد أي أن ربع السكان وواحد من بين كل أربعة أفراد هو وفي وضع الفقر وربما يصل هذا الرقم إلى أكثر من ذلك، وقدمت رقما آخر لا يقل أهمية يتعلق بالعائلات التونسية التي هي تحت رعاية اتحاد التضامن الاجتماعي و المتمتعين بـ بطاقة علاج مجاني وعددها 100 ألف عائلة…
لا اهتمام بمستقبل البلاد
لقد كانت صدمتي كبيرة حينما لم يناقش أعضاء الهيئة هذه الأرقام ولم يوجه إليّ أي سؤال بخصوص هذه المعطيات حول الوضع الاجتماعي في ذلك التاريخ، والحال أن الموضوع يكتسي بعدا استراتيجيا بالنسبة للثورة ولمن قام بها ولم أجد اهتماما بمستقبل البلاد خاصة فيما يتعلق بالبحث عن الحلول لاكراهات الثورة التي قامت على انحلال العقد الاجتماعي ولم أجد حوارا ولا تفكيرا بخصوص بناء عقد اجتماعي جديد لبناء تونس جديدة.
يعتبر أن مشكلة الثورة في تلك المرحلة هي الطبقة المثقفة وكل الذين يقودون السلطة المضادة عبر المنظمات يقول: لقد اكتشفت أن من تسلم قيادة الثورة والإشراف على مسارها لم يكن من أولويات اهتمامهم التفكير في البحث عن حلول للوضع الاقتصادي وأرقامه معطياته الصادمة عن الفقر والبطالة والتهميش وحالة العائلات المعوزة، فالثورة تأتي دوما إجابة عن عدم قدرة الدولة على إقامة العدل في توزيع ثمار الإنتاج.
بحث عن التموقع فقط
ينهي حديثه عن ذلك اللقاء مع أعضاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بالقول : لقد تأكدت بعد هذا اللقاء أن الجماعة تبحث عن السياسة وعن التموقع، وفهمت بأن السلطة قد تحولت إلى غنيمة في عيون الجميع أو بتعبير المفكر المرحوم محمد عابد الجابري ‘جوع السلطة’، وأن الهيئة قد انصرفت عن تحقيق أهداف الثورة في مجال الاقتصاد والشؤون الاجتماعية وآثر الجميع التركيز على المواقع السياسية وهي تتحمل مسؤولية فشل الثورة حينما لم يبذل أفرادها الجهد لوضع خطة لمقاومة أرقام الفقر المهولة واعتبر أن الثورة قد أضاعها أبناؤها حينما اتجهوا صوب إلغاء دستور 1959 وذهبوا بدون رؤية ولا أهداف إلى المجلس الوطني التأسيسي وأصبح الهم الوطني هو الانتخابات ومن يستأثر بالسلطة…
دون متابعة ولا تفعيل
ينتقل محمد الناصر إلى استعراض ما قام به في الملف الاجتماعي ومعالجة المسألة الاجتماعية الغائبة من اهتمامات السياسيين بأن زاد في عدد المنتفعين بالمنح الاجتماعية من 135 ألف إلى 185 ألف منتفع وفتح باب القروض للعاطلين عن العمل، ولكل من يملك مهارات يدوية في إطار مؤسسة التضامن الاجتماعي التي كان يشرف عليها بصفته آمر بالصرف لإحداث مشروع وفكر في إصلاح منظومة الضمان الاجتماعي في اتجاه جعل التغطية تشمل كافة المواطنين وتشمل المرض والعجز والشيخوخة وأعد في الغرض مشروعا تضمنته دراسة مفصلة بقي من بعده دون متابعة ولا تفعيل.
الغاية واحدة للإسلاميين
خصص حيزا من حديث مذكراته عن حكومة حمادي الجبالي بعد فوز حركة النهضة في انتخابات 2011 معتبرا أن الإسلاميين كانت غايتهم الوصول إلى السلطة وليس تطوير وإصلاح البلاد، وأن مضامين الثورة قد أضر بها الجميع سلطة ومعارضة وفاعلين سياسيين وحولوا أهدافها وتخلوا عن استحقاقاتها.. وبقدوم حمادي الجبالي على رأس الحكومة طلب منه هذا الأخير الانضمام إلى فريق حكومته الاستشاري غير أنه رفض العرض لقناعة حصلت لديه من أن حكومة الترويكا لم تكن جادة في الإصلاح وإنما كانت غايتها الاستئثار بالسلطة ويعتبر أن الوضع الاجتماعي قد زاد سوءا عما تركه لما كان في الحكومة بفعل التركيز على تحويل وجهة اهتمام المجموعة الوطنية من البناء والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي إلى تغيير نمط المجتمع من خلال التظاهرات والاستقبالات لشيوخ الإسلام السياسي…
يحمل محمد الناصر هيئة بن عاشور بكل مكوناتها وشخوصها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع بعد انتخابات 2011 ويتهمها بكونها فاقدة للنظرة المستقبلية وأن ما يهم الأحزاب المكونة لها هو الآني والزمن القصير، واعتبر أن ما بدأت فيه الهيئة من تهميش للجانب الإجتماعي وتغييب لمطالب وشعارات الثورة أكملته حكومة الترويكا فلا نظرة مستقبلية ولا استراتيجية إصلاحية..
الاغتيالات دقت ناقوس الخطر
وفي المقابل شهد المجتمع عملية إغراق ببرنامج لتغيير ملامح المجتمع من وراء خطاب ديني يدعو إلى اسلام وتدين مناقض لما عرفته البلاد طوال قرون من الزمن ومن نتائج هذا التحول في مسار الثورة حصول الاغتيالات في سنة 2013 المحطة التي كان لها الأثر الكبير في التفطن إلى ما يحصل للثورة من انعطافة وتحويل وجهتها.
حبر على ورق…
نخلص من هذا التحليل الذي قدمه محمد الناصر بخصوص نقده لأداء هيئة عياض بن عاشور وكذلك أداء الأشهر الأولى من حكومة حمادي الجبالي أنه كان حسب رأيه بغاية الاصلاح خاصة وأنه ترك دراسة مهمة حول الشؤون الاجتماعية في تونس بعد الثورة واقترح على حمادي الجبالي تنظيم منتدى للحوار الوطني وخطة عمل ونشاط لهذا المنتدى يتولى الإشراف على عملية إصلاح البلاد.. ولكن هذا المشروع بقى حبرا على ورق لوجود مؤشرات حسب محمد الناصر على أن حمادي الجبالي لم تكن يداه حرة لتقدم على ما هي مقتنعة به في تلك الفترة وكانت خيوط إدارة السلطة ليست بيده… فتاهت البرامج الاقتصادية والاجتماعية ولم تجد الديمقراطية الحقيقية ضالتها…
وللمقال صلة…
اقرأ أيضا الجزء الأول/ محمد الناصر يروي: هكذا عشت ثورة جانفي 14 جانفي 2011