محمد الحمّار يكتب: عقيدتان فاسدتان تحرمان تونس من التقدم


كتب: محمد الحمّار
هل يعرف التونسي حقوقه؟ هذا سؤال يخامرني ويحيّرني كلما كنت بصدد قيادة السيارة في المدينة… في هذه المقالة لن أتحدث عن الجانب التقني في عدم احترام مستعمل الطريق التونسي لا فقط لإشارات المرور بل حتى لقواعد السياقة….
بالتالي سأفترض أولا أنّ المشهد المروري ما هو إلا مشهدا مُصغرا لمشهد الحياة العمومية في تونس. كما سأفترض ثانيا أنّ تجاهل التونسي لقانون المرور ولقواعد السياقة ليس إلا دليلا على جهله بحقوقه وربما جهله بأنّ له حقوق بالمرة، لا مرورية ولا سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية ولا إنسانية، وأنّ جهل التونسي بحقوقه هو ما يجعله يفتكّ حقوق غيره بدعوى أنها حقوقه.
جهل وافتكاك
من ثمة، سوف أحاول تبيين أنّ هذا الجهل/الافتكاك يعود إلى مسَلمتَين اثنتين زَرَعَتهما السياسة التونسية في النخاع الشوكي للتونسي، إحداهما من صنيع السياسة الأزلية ألا وهي خرافة أنّ “تونس صغيرة” وأخراهما من صنيع السياسة المستحدثة ألا وهي أنّ ” تونس قامت بثورة في عام 2011″.
أحمد الله على أنّ المشهد المروري ينتهي بانتهاء الرحلة اليومية على متن السيارة، لكنّ المشهد الخرافي يتواصل، أثناء النوم وفي الصباح وفي كل يوم وفي يوم الأحد. يبلغ الوهم أشُدّه وتتضاعف حيرتي عدة مرات كلما أسمع شخصية سياسية أو إعلامية تتفوه بعبارة “تونس صغيرة”.
ما يقلقني لم يكن أبدا أني أحلم بمساحة لبلدي تُضاهي مساحة الأخت الجزائر أو الأخت ليبيا (قد يكون سبب اعتبار تونس صغيرة أنها خُلقت بين عملاقين). أقلق بل أتخوف من الأسباب التي تدفع القائل بأنّ تونس صغيرة وتباعا من الآثار السلبية الناجمة عن هذه العقيدة الفاسدة، وهي آثار تُلاحَظ في مجالات الإرادة و العمل والإنتاج و التقدم.
الأسباب والآثار
قبل الخوض في الأسباب والآثار، فقط أشير إلى أن ما يناهز 100 دولة تصغر تونس مساحة. بل أشير إلى أنّ مِن بين هذه الدول الأصغر مَن كان قويا بشكل سمح له باستعمار نصف العالم (انقلترا) ومَن تسبب في وجود كيان سياسي ثم دولة كبيرة جدا اسمها البرازيل يتكلم شعبُها لغته (البرتغال) ومَن طبَع بثقافته جزءا معتبرا من إفريقيا (هولندا).بالتالي لا تقاس البلدان بحجمها الجغرافي إلا في ما يهمّ علوما مثل الجغرافيا والتاريخ والديمغرافيا والإحصائيات. إنما تقاس البلدان بما تصنع وما تهيئ من ظروف العيش الكريم لسكانها. في هذا المضمار من الضروري جدا أن يتربى شعبٌ ما على معرفة حقوقه وعلى ممارستها حتى تحصل الموازنة بين تِلكم الحقوق من جهة وواجبات الشعب من جهة أخرى وحتى يتّقد، هكذا، فتيل الإرادة والحركة والعمل والإنتاج باقتناع وبحُبٍّ وبِتفانٍ من أجل المصلحة الخاصة والعامة. بكلام آخر، في تصغير البلاد تحقيرٌ لابن وابنة البلد وبالتالي وَأدٌ لِحقّهما في الوجود، ناهيك أن يتمَثّلا أسباب العمل والرقيّ.
افتكاك حقوق الغير…
في السياق نفسه، حين جهَل التونسي أوَّلَ حقوقه ألا وهو أنه وُلد في بلدٍ لا صغير ولا كبير لكن في بلد عظيم بإنجازاته وتاريخه وإشعاعه، سوف يحثه ذلك على البذل والعطاء من أجل نفسه وأهله وبلده. وإذا لم تتوفر لديه هذه العقيدة فسوف يعمل ما في وسعه لِكَيلا ينهار، طِبقا لما تُمليه عليه غريزة البقاء، حتى وإن وصَل به الأمر إلى افتكاك حقوق غيره. وهذا ما يحصل في تونس الآن من خلال ما يصفه لنا الإعلام (جزافا) بالغريب: احتكار و تهريب السلع، تعنيف جماهير الكرة لطواقم التحكيم، اعتداء التلاميذ على المدرسين، تفاقم العنف ضد المرأة، التنمر على الصغار، التحرش على الفتيات، الاغتصاب الجنسي، الانتحار (من طرف مَن رفضَ افتكاك حق غيره)، وما إلى ذلك.في ضوء مخرجات هذه المقاربة السببية، لا تَخالني أقبل أن أنصت دقيقة واحدة لشخصية سياسية تزعم إيجاد حل لأزمة البلاد باعتمادها على عقيدة “تونس صغيرة” ولا خيرَ في إعلام يمارس الشعوذة بنفس العقيدة.للأسف لم تقف أمور الأزمة الوجودية والعقدية في تونس عند هذا الحد لمّا نرى معظم الجماهير التونسية فقط تستنشق رائحة “الثورة” أو تتمسح على حَجَرها أو تضمّها في حِجرها في حين أنّ الحق بيّنٌ والباطل بيّنٌ: صحيح أنّ من قام بالهتاف بـ”ديقاج” في وجه نظام 7 نوفمبر هُم تونسيون روحا ولحما ودما.
صحيح أنّ الظلم في الحقبة النوفمبرية قد بلغ مستويات ميؤوس من إصلاحها. لكن صحيح أيضا أنّ نخبةً تونسية ما، بفِعل استدراجٍ طويل النفَس من طرف جهاتٍ معروفة، كانت قد تدَخلت، شفويا وكتابيا (الرسالة إلى باراك أوباما في 22 ماي من سنة 2009) لكي تساعد الولايات المتحدة تونس على إرساء نظام ديمقراطي.
عقيدة ‘الثورجيّة’
في الأخير، إلى جانب تصغير السياسة لوجدان المواطن التونسي بدعوى صِغر المساحة حتى أصيب بالإحساس المستدام بالعجز، ماذا فعلنا بالعقيدة الثانية الثورجية؟ باستثناء تحرير الكلام والثرثرة وتفريغ جعبة التونسي من الكلام البذيء والألفاظ النابية، في الطريق العام وفي البرلمان وعلى بلاتوهات التلفزة وفي الأفلام وفي المسرحيات، وباستثناء تحرير العجلات الأربع كي لا تراعي لا علامة ضوئية ولا لافتة حديدية ولا حتى عمودا كهربائيا أو منارة ضوئية أو رصيفا، ماذا حَرّرنا؟ ماذا حَصّلنا في نهاية المطاف بعد 11 سنة من تاريخ المساعدة الأمريكية على الدُّربة على الديمقراطية؟ ربما لا شيء سوى الإحساس بضرورة الثورة على أنفسنا حتى لا يقع حَشو أدمغتِنا بأضداد الحقيقة فنعرفَ حقوقنا ونضعها في الموازين. فهل دقّت ساعة الثورة على أنفسنا؟