وطنية

غول يزحف… من يوقف نزيف العنف في صفوف التلاميذ؟

كتب: محمد المحسن

تختلف أشكال العنف المدرسي كما تختلف الأطراف المتسببة فيه، فهناك عنف من طرف التلميذ ضد المربي أو الأستاذ… وهناك عنف من طرف المربي أو الأستاذ تجاه التلميذ و أيضا بين التلميذ والهيكل الإداري للمؤسسة التي يدرس فيها.

وتختلف أشكاله التي من أهمها العنف المادّي أو العنف اللفظي أو العنف الجنسي، ويعرّف العنف على أنّه (سلوك أو فعل يصدر عن طرف قد يكون فردا أو جماعة يحدث أضرارا جسدية أو معنوية ونفسية سواء كان ماديّا أو معنويّا و خلّف عواقب جسدية ونفسية شديدة على الشّخص المعنَّف الذي وقع عليه الفعل).

أرقام مفزعة

و رصد منتدى الحقوق الاقتصادية والإجتماعيّة 18.8 بالمائة من حالات العنف وقعت في الفضاء التربوي و الجامعي و الأسري في أحد تقاريره خلال السنوات الأخيرة.و حسب إحصائيات قدمها المرصد الوطني للعنف المدرسي لسنة 2019 فقد بلغ مجموع الإعتداءات 4568 إعتداء لفظي ومادّي.
في هذا السياق،اعتبر الدكتور الطيب الطويلي المختصّ في علم الاجتماع.أن الفضاء المدرسي أصبح خطيرا جدا،وعلى وزارة التربية أن تستيقظ من سباتها وتعترف بوجود هذه الظاهرة وتفاقمها على حدّ قوله .
وأضاف الطويلي “سياسة “الإنكار” وعدم الاعتراف التي تنتهجها وينتهجها مديرو المؤسسات التربوية الرافضين لذكر حالات الاعتداء والاقتحام الدوري لمؤسساتهم تدفع بنا نحو الأسوأ، في غياب تام لرقابة ما يجري داخل زوايا المدارس والمعاهد وأركانها، ولا بد من وقفة حازمة لإنقاذ أبنائنا الذين لم يعودوا يبحثون داخل مدرستهم عن تعليم متين مثل الذي كان في الماضي، وإنما أصبحوا ينشَدون فقط شيئا من الأمان”.

ظاهرة مرضية

هذه الظاهرة المرَضية (استشراء العنف المادي واللفظي في صفوف التلاميذ ) أرقت المضاجع وجعلت الكثيرين يطلقون صيحات الفزع جراءها وينادون بإيجاد الحلول الكفيلة بمعالجتها قبل فوات الأوان وحين لا ينفع الندم.،ذلك بعد أن وصل الأمر إلى تسجيل خسائر في الأرواح بسبب تهور أطفال قصر لم يلقوا الرعاية والتأطير اللازمين في الوسط العائلي والمدرسي على حد سواء.

شكاوى متواصلة

لقد أصبحت شكاوي ضحايا التلاميذ،سواء تعلق الأمر بتلاميذ آخرين أو بمنتمين إلى الإطار التربوي، لدى السلطات الأمنية أو لدى إدارات المدارس، أمرا مألوفا بسبب تنامي العنف بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وهو ما تؤكده الأرقام المفزعة الصادرة عن جهات رسمية. وهي أرقام إن دلت على شيء،فتدل على أن هناك خللا ما يعيشه المجتمع التونسي أنتج هذه الظاهرة الغريبة عن عادات وتقاليد هذا المجتمع المنفتح على محيطه وغير الميال إلى العنف وإقصاء الآخر. ومن بين الأطراف التي عبرت عن انزعاجها الشديد من تنامي هذه الظاهرة نقابات التعليم المنضوية تحت الاتحاد العام التونسي للشغل ومن ذلك الجامعة العامة للتعليم الثانوي التي نبهت منذ قرابة السنتين إلى خطورة هذه الظاهرة وانعكاساتها السلبية على المجتمع. كما انتقد الطرف النقابي وزارة التربية على عدم قيامها بما يجب القيام به للقضاء على هذه الظاهرة وهو ما يستوجب برأيها القيام بحركات احتجاجية تنديدا بالعنف وبصمت الوزارة وعجزها عن الدفاع على حرمة المؤسسات التربوية وكرامة العاملين بها.
وفي هذا الإطار يرى ابراهيم الريحاني الخبير التونسي في الطفولة والأسرة ومستشار قاضي الأطفال أن المتأمل في المؤسسات التربوية يلاحظ جليا انتشار نسبة العنف والجريمة في هذا الفضاء العام.ولكن هذا الارتفاع يدخل، برأيه،في سياق الأحداث والوقائع التي عاشتها بلادنا خلال العشرية الأخيرة وما رافقتها من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وخاصة منها الصحية في مواجهة كوفيد وما فرضه من حجر صحي وتغيير لنمط ونسق الحياة العادية.
ويضيف :”إن ذلك يجرنا بالضرورة للبحث في تداعيات هذا الوضع على نفسية الطفل والتي ترجمت في ارتفاع نسب العنف بشكل مفزع فأصبحنا اليوم لا نتحدث على العنف كمجرّد سلوك منعزل بل كظاهرة اجتماعيّة وثقافة. بتنا نتحدث عن ثقافة العنف التي نجدها في كل مكان، وأينما ولينا وجوهنا،عند الكبير والصغير،في المدينة والريف،وعند العامة وعند النخبة على حد سواء.

استبطان صور العنف

فالأطفال اليوم يستبطنون صور العنف داخل الأسرة أو في الألعاب الإلكترونية، ومن الاقران، والمجتمع، لنصل في الأخير إلى التطبيع مع العنف خاصة أمام غياب القدوة لأن النخبة هي نفسها تمارس العنف،ليصبح العنف هو اللغة الوحيدة للتعبير عما يختلج في أنفسهم من مشاعر وأفكار خاصة وانه لم يتم تدربيهم على كيفية التحكم في الانفعالات وضبط النفس.كما أن المؤسسات التربوية اختصرت نفسها في الوظيفة التعليمية وأهملت وظيفتها التربوية والترفيهية فلم تعد تلبي الحاجيات النفسية للتلاميذ.”
واعتبر تقرير «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة»لسنة 2019 أنّ العنف المدرسي ظاهرة اجتماعيّة حارقة في المجتمع التونسي، ما جعل تونس في المرتبة الثّالثة عالميّا بعد الولايات المتحدة الأمريكيّة وفرنسا من حيث حجم حوادث العنف المدرسي.وصنّف مصادر العنف المباشر بين اعتداءات من خارج الفضاء المدرسي في أكثر من نصف الحالات، واعتداءات بالعنف صادرة عن الشّباب المدرسي، من بينها ثلثي (2/3)حالات العنف صادرة عن تلامذة تتراوح أعمارهم بين 14 و17 سنة.وكشف المنتدى في نشرية (أفريل 2021) أنّ العنف في المؤسّسات التّربويّة يأتي في المرتبـة الثّالثـة بعد الشّـارع والمنزل بنسبــة 9.5 %، وأنّ 51 % من العنف في الوسط المدرسي يصدر من أشخاص ليست لهم علاقة بالمؤسّسة التّربوية (دخلاء)،ويمثّل العنف المتبادل من الإطار التّربوي والإداري نسبة 14 % من مجموع حالات العنف المسجّلة.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع :

هل نحن نعلّم أكثر مما نربّي؟

لقد حافظت وزارة التربية منذ إحداثها على مصطلح التربية إيمانا منها بالتوجه التربوي للتعليم : فنحن نعلّم لنربّي و نعلّم للحياة وللنهوض بالفرد و تطوير نمط عيشه و طريقة تعامله مع الأشياء.
فالتربية هي الرهان الاستراتيجي للعملية التعليمية،ولكن مع هذا يجب الإقرار بوجود فراغ وهوة بين دور التعليم وهدفه التربوي.ولا يجب في هذا الباب الانتقاص من دور المؤسسة التربوية التي مازالت إلى اليوم تقوم بدور فعال في تربية وتنشئة الأجيال،لكن هذه المؤسسة لا تستطيع لوحدها تحمل العبء كله،في ظل تطور العوامل المساهمة في التربية وخاصة ظاهرة استقالة الأولياء والتأثر بالمظاهر السلبية التي تقدمها وسائل الاتصال،وبروز أشكال جديدة من الانحراف السلوكي كالمخدرات والإرهاب و العنف..بل يجب أن تسند لمنظمات المجتمع المدني دور المدرسة كذلك.هذا إضافة إلى البحث عن طريقة أكثر نجاعة لتفعيل دور خلايا العمل الاجتماعي ومكاتب الإصغاء والحوار مع التلاميذ والأولياء و تعزيز مفهوم المرافقة المدرسية، وبين هذا وذاك،يجب الإقرار بحتمية تطوير الحياة المدرسية و النشاط الثقافي.
إن لغياب نوادي الاختصاص من مسرح وموسيقى ورياضة-في تقديري،دور في استشراء العنف،فلم يعد هناك متنفس للتلاميذ إلا ما يتم استقطابه سواء من الشارع أو من العالم الافتراضي.فانتشرت المخدرات في هذا الوسط (حوالي 9/100 من التلاميذ يتعاطون المخدرات) وغابت هيبة هذه المؤسسات لأنها لم تعد صديقة للتلاميذ.
كما يعود استشراء العنف في الوسط المدرسي أيضا (دوما في تقديري) إلى أسباب فردية ترتبط باختلال النمو العاطفي للطفل داخل الأسرة. فالأخيرة،وبحكم التحديات التي تواجهها اليوم،تفككت ولم تعد تقوم بدورها الأساسي واستقالت كليا عن دورها الحقيقي.
لهذا لابد من إعادة المدرسة وإصلاح المنظومة التربوية وفق مقاربة شاملة لأن هذا جوهر الإصلاح الحقيقي،ويجب في هذا الإطار أن تتحد وتتواجد مختلف هياكل الدولة المعنية بالتنشئة الاجتماعية والصحة والثقافة من أجل هذا التغيير حتى تصبح المدرسة صديقة للطفل تتنوع فيها الأنشطة من رياضة وثقافة وتعليم وغيرها.
ولابد أيضا من عدالة اجتماعية ورسائل طمأنة إيجابية للجميع وإعادة هيبة الدولة وعلوية سلطة القانون وفتح حوار حقيقي داخل الفضاءات المدرسية يكون بمشاركة الأطفال والتلاميذ وكافة المكونات،في كيفية التصدي لهذه الظاهرة.

ما الحل؟

وهنا أضيف : أن تربية الابناء اصبحت تتطلب مصاريف ونفقات ضخمة، لكن هذا لا يعني ان لا يتحمل الاباء مسؤولية التربية ومتابعة ابنائهم،فالحل هو أن تبقى المدرسة على اتصال دائم مع الاولياء الذين تبقى لديهم السلطة المعنوية على ابنائهم مهما تضاءلت ويمكن دعم حضور الاولياء في المدارس باحداث-كما أشرت-خلايا انصات لفائدتهم باشراف مرشدين اجتماعيين واخصائيين نفسانيين تعالج مشاكلهم وتلتمس لها الحلول حتى يمكنهم الالتفات الى مشاكل ابنائهم.هذا بالإضافة إلى تركيز العمل خاصة على اصلاح التلاميذ،وليس ردعهم والتشفي من المخطئىن ومحاولة تفهمهم وابراز الجوانب الايجابية والمضيئة فيهم.
نقول هذا،ونؤكد عليه،قبل أن يتغلّب الفتق على الرتق..

*محاولة في تعريف العنف المدرسي :

سلوك أو فعل يصدر عن طرف قد يكون فردا أو جماعة يحدث أضرارا جسدية أو معنوية ونفسية ويكون باللسان أو بالجسد أو بواسطة أداة. والعنف دليل عدم اتزان، سواء نتج عن الإثارة أو الاستفزاز أو التسرع أو ضعف قوة الحجة… وهو رد فعل غير سوي له عواقب جسدية ونفسية شديدة على المعنَّفِ…
وسواء نظرنا إليه كنمط من أنماط السلوك أو كظاهرة اجتماعية،فهو فعل وآفة تستحق التحليل والعلاج .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى