عيسى البكوش يكتب/ مئوية الطيب المهيري (1924-1965): الرجل القوي في النظام البورقيبي

كتب: عيسى البكوش
تمرّ اليوم السبت 27 جويلية 2024 مائة عام على ميلاد الزعيم الطيب المهيري أحد مؤسسي دولة الاستقلال تحت إمرة الرئيس الحبيب بورقيبة، إذ أنه ولد بالمرسى يوم 27 جويلية سنة 1924 وهو ينحدر من أصول جربية، زاول تعليمه بالمدرسة الصادقية ثم انتقل إلى فرنسا لدراسة الحقوق.
البدايات
انخرط منذ نعومة أظافره في الحزب الحر الدستوري الجديد غداة تأسيسه بأربع سنوات ثمّ تواصلت مسيرته النضالية بباريس حتى كان هو المحرّك الأصلي للجامعة الدستورية وهنالك تعرّف عن كثب على الزعيم الحبيب بورقيبة إذ كان يزوره في منفاه في جزيرة قراد صحبة الحبيب الابن والبشير بن يحمد وحامد القروي ولقد أورد هذا الأخير في كتابه “Une vie en politique” صورة تذكارية لإحدى تلك الزيارات (ص 79).
أما الهادي البكوش فإنه يذكر في كتابه “En toute franchise” – وهو الذي عرف جيّدا الطيب المهيري- أنّه كان يستمع إلى الخطب التي كان يلقيها أمام الإطارات الدستورية بنادي نهج قرمطو ثم أنه يذكر أنهما سجنا سويّا في محتشد تطاوين سنة 1952 ويردف: “هو رجل حزب “Un homme de parti” وهو من دعاة الصرامة والانضباط (ص203).
المعركة الحاسمة
ومن قبل ذلك وإثر عودته إلى أرض الوطن تولى الكتابة العامة لجامعة تونس والأحواز والتي من خلالها هيأ الأسباب للمعركة الحاسمة أي ثورة 18 جانفي 1952 وكانت تلك هي المحطة التي فرضت ارتقائه إلى دفة القيادة في الحزب حيث اضطلع من شهر أوت 1954 إلى شهر أفريل 1956 بإدارته ولمّا بلج فجر الاستقلال كان من الطبيعي أن يسند الرئيس الحبيب بورقيبة في أول حكومة له منصب وزير الداخلية.
فهل كان ذلك خيارا أم اضطرارا ؟.
هذا السؤال يطرحه المؤرخون ولا المناضلون، لماذا؟
لأنّ شخصيّة الطيب المهيري قد لا تلائم طبيعة الرئيس بورقيبة المائل إلى الاستبداد ومعاملة الأعضاء بشيء من الغلظة.
وفعلا فإنّ الزعيم الصامت الباهي الأدغم يذكر في ما يذكر بأنّ بورقيبة يتحاشى الحديث من فوق عند استقالة للطيب المهيري ويعدّ ذلك استثناءا بل كان الرئيس كثيرا ما يُذعن لمواقف الطيب المهيري.
وعلى كلّ فكان يجمعه يوميا إلى جانب الباهي الأدغم وأحمد التليلي وعبد الله فرحات لبحث المسائل التي تطرحها المقاومة الجزائرية وذلك بحسب ما جاء في كتاب سهير بلحسن وصوفي بسيس Un si long règne حيث تضيف المؤلفتان أنّ الطيب المهيري وأحمد التليلي كانا يسهّلان مرور الأسلحة لفائدة المقاومة الجزائرية دون إطلاع الرئيس بورقيبة.
أفشل اغتيالات
ثمّ وفي نفس الكتاب تذكران بأنّ الطيب المهيري قد أفشل عدّة محاولات لاغتيال الرئيس وهو الذي غيّر اتجاه قريبين لصالح بن يوسف قدما للقضاء على بورقيبة. (ص34)
ولكن بالمقابل وفي مثل هذه الحالات المتداولة في تاريخنا فكثيرا ما ينال مثل هذا الرجل المستأثر بـ “قلب الرحى” جزاء سنمار، فلقد أعاد بورقيبة سنة 1957 في محاولة لوضع حدّ للجناح الذي يقوده الفقيد أحد الرجال ذي الشخصية المتينة : أحمد بن صالح (ص45).
لقد أدركت الرّاحل سي الطيب وأنا في سنّ الطفولة وما زلت أذكر الخطاب الذي توجّه به إلينا معشر سكان قرية أريانة من شرفة مقر البلدية في ساحة Couvopolos عند تونسة الأمن، ومن بعد ذلك عند إعلاء الراية الوطنية فوق مقرّ الحرس الوطني بقصر قائد السبسي ” الجندرمة سابقا” ” الفوروم حاليا”.
تحدى فرنسا
إلى جانب تحمّله المسؤولية الجسيمة في مقرّ الوزارة بشارع الحبيب بورقيبة قرابة عقد من الزمن مع ما كان ذلك يتطلّب من إرساء لأسلاك الأمن والحرس والجهات، فإنّه لم يتوان عن تحمّل مسؤولية موطنه أي المرسى، فلقد ترأّس بلديتها بكلّ شغف وهوى وبلغ به الأمر إلى تحدّي دولة عظيمة. يقول المرحوم الباهي الأدغم في كتابه ” الزعامة الهادئة”: في شهر مارس من سنة 1960 أشعر الطيب المهيري الرئيس أنّ إقامة سفير فرنسا بالمرسى تمسح ربع المدينة وتفرض على الراجلين والسيارات أن يسلكوا طريقا طويلة ومنعرجة للوصول إلى قمّرت فأمره الرئيس قائلا: يجب أن نضع حدّا لهذا ونطالب الحكومة الفرنسية بالسماح بشقّ طريق جديدة عبر الحدائق الكبرى للسفارة، ولكنّ السفير أبى، فما كان من الطيب المهيري بصفته رئيس البلدية إلا أن قام مستعينا بالقوّة العامة بهدم حائط السفارة وأمر بإنشاء طريق بعرض أربعين مترا وبطول مائة وخمسين مترا، فتهاطلت علينا احتجاجات السفارة: ” ما وقع لا توجد له أمثلة في التاريخ الديبلوماسي” وبقيت هذه القضيّة معلقة ضمن المسائل التونسية الفرنسية حتى مقابلة الرئيس والجنرال ديڤول في Rambouillet في شهر فيفري سنة 1961″ (ص 403).
غيّور على السيادة الوطنية
تلك هي طينة الرجال المؤسّسين الغيورين على السيادة الوطنية والعاملين على الذود على البلاد وإسعاد العباد.
انتقل الزعيم الفذّ إلى رحمة الله يوم 29 جوان من سنة 1965 ولم يتخطّ عمره الواحد والأربعين عاما، ودفن في مقبرة الشهداء بالجلاز حذو الرجال البررة الذين عاهدوا الله على أن يموتوا ويحيا الوطن.
رحم الله الطيب المهيري أحد بناة تونس الحديثة التي تتباهي به حيث يحمل أحد الشوارع في جميع مدنها اسمه الذي لا ينمحي.