صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب/ سالم الشاذلي (1896-1954) أول طبيب نفساني ومؤسس جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين

ISSA BACCOUCH
كتب: عيسى البكوش

في بلدنا رجال ـ ونساء ـ عاهدوا الله والوطن على أن يهبوا حياتهم خدمة للمجموعة وتحرير شعبهم من ربقة المستعمر ومن آفتي الجهل والمرض…
ومن بين هؤلاء رجل نذر عمره لتحقيق تلك الأغراض وما بدّل تبديلا.

البدايات..

هو سالم الشاذلي المولود يوم 04 أوت 1896 بمدينة المنستير حيث تلقى تعليمه الابتدائي ثم التحق بالمدرسة الصادقية في تونس الحاضرة، وانتقل عند إحرازه على شهادة البكالوريا إلى باريس حيث درس الطب غير أنه لم يكن ليقنع بوضعية الطالب المجتهد بل هو الطالب الملتزم بقضايا موطنه الذي كان يرزح تحت وطأة الغاصبين الذين قدموا نحونا ذات عام 1881 بتعلة حمايتنا وإعدادنا للولوج إلى الحداثة.
ما كان هذا الخطاب لينطلي على من درس في رحاب الصادقية تراجم الأحرار وفلسفة الأنوار، فانبرى صاحبنا لمقارعة المحتل بنفَس التعاليم التي كان يبثها أساطين الفكر الحرّ في فرنسا وفي الغرب عامّة وكان بالخصوص يقطّع إربا إربا النظريات العنصرية لبعض الأطباء النفسانيين العائثين بشمال إفريقيا وبالخصوص في تونس والجزائر، التي تزعم تحت غطاء علمي أنّ المريض العربي يختلف عن المريض الفرنسي لأسباب جينية إذ أنّه محمول على العدوانية وأنه “عنيف بالفطرة” وكان يتزعّم هاته المدرسة التي سمّيت بمدرسة “الجزائر” نسبة إلى الكلية التي يدرّس فيها “الحكيم” Porot.

أكاذيب وافتراءات

لقد أصدر أخيرا الدكتور الصديق الجدّي كتابا ملفتا للأنظار و باعثا للاعتبار يأتي على نضال سلفه الدكتور سالم الشاذلي ضد هذه الافتراءات المبطنة بغطاء أكاديمي وهو كذلك يأخذنا في رحلة عبر الزمان لمواقف هذا العالم التونسي المقدام مستعرضا المحن التي أصابته جرّاء معارضته الشديدة لزيف الأطروحات التي تعطي للاستعمار تبريرات لوجوده في هذه الربوع.

ولعلّ مثل هذا الصنيع الفجّ هو الذي دفعه إلى إنشاء تنظيم يجمع طلبة شمال إفريقيا في فرنسا لفضح هكذا ألاعيب يقوم بها من هم محمولون على قول الحق ولو كان على أنفسهم، أي العلماء ورثة الأنبياء.
وتمّ ذلك بفضل تضافر جهود الروّاد من أمثال أحمد بن ميلاد والطاهر صفر وأحمد بلافريج ومحمد الفاسي والطاهر الزاوش وآخرين.

جمعية الطلبة المسلمين المغاربيين

فانبعثت جمعية الطلبة المسلمين المغاربيين AEMNA يوم 28 ديسمبر 1927 بباريس برئاسة سالم الشاذلي الذي نالته من أجل ذلك عديد المضايقات وحتى التهديد بالطرد من التراب الفرنسي خاصة وأنّ الاستعلامات كانت تراقب تنقلاته إلى سويسرا حيث يقيم الزعيم محمد باش حانبه.

موقف خالد

تخرّج عام 1929 ثم عاد إلى الوطن ليكون أوّل طبيب نفساني تونسي في تاريخ البلد وفتح عيادة بباب سويقة ولم يتمكن من الالتحاق بمستشفى الأمراض العقلية إلا من بعد عناء بالنظر إلى اعتراض المتنفذين من الأطباء الفرنسيين وتواطئ أصحاب القرار ولكنه نال مراده قبل أن يقصى من تلك المؤسّسة، ثم لمّا عاد ثانية رفت نهائيا إثر عدم امتثاله لأمر سلطة الحماية بالتراجع عن تقرير الاختبار الذي أجراه على الجندرمة الذين اغتصبوا النسوة خلال أحداث زرمدين في جوان 1946 وتحميلهم المسؤولية المباشرة في هذا الصنيع الشنيع.
وهذا الموقف يندرج في مسيرة الرجل النضالية وهو الذي دفع ثمن انخراطه في الحركة الوطنية إذ أنّه ألقي عليه القبض من جملة المشاركين في مؤتمر الحزب الدستوري الجديد مؤتمر ليلة القدر 24 أوت 1946.
وهو الذي كان متّقد النشاط في المجال الشبابي إذ أنه كان من رواد جمعية “الكشاف المسلم” سنة 1946 ومن بين رفاقه القائد المنجي بالي.

إشعاع الجمعية

أمّا بالعودة إلى أهم بصمات الشاذلي أي جمعية طلبة شمال إفريقيا فلقد تواصل إشعاعها على مرّ العقود ولقد شهد مقرها بـ115 شارع سان ميشال بباريس أحداث جليلة لعلّ أهمها المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لطلبة تونس من 09 إلى 14 جويلية 1953. ولقد كان ذلك المقر المعروف بمأوى الشهيد الحبيب ثامر مقصدنا اليومي نحن معشر الطلبة المغاربة خلال ستينات القرن الماضي.
ولقد ترأس البعض منا هاته المنظمة التي أصبح مقرّها اليوم مركزا ثقافيا للمغرب الأقصى ومن ضمنهم الرئيس فؤاد المبزع سنة 1959 ولقد خطب في رحابه جلّ الزعماء وفي مقدمتهم الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد.
ولقد سنحت لي الفرصة للمشاركة في عدد من المسامرات بين جدران هذا المطعم الجامعي ومن بينها ما بقيت عالقة بالذهن كتلك التي ألقاها البشير بن يحمد حول ” هل الديمقراطية ممكنة في بلدان العالم الثالث ؟” ومكسيم رودنسون Maxime Rodinson
حول الصهيونية و René Dumont حول “L’Afrique est mal partie” .

ودع الدنيا

رحم الله سالم الشاذلي الذي يسّر لنا هذا وما كنّا لندرك مثل هذه الأحداث الخالدة.
لبّى الفقيد نداء ربّه يوم 10 جوان 1954 ولا يسعنا إلا الرجاء بمناسبة سبعينية وفاته أن يحمل أحد المستشفيات اسمه مثلما هو الشأن بالنسبة لرفيق دربه محمود الماطري (1887-1972) ولمعاصريه الهادي الرايس (1909-1974) وصالح عزيز (1911-1953) والحبيب ثامر (1909-1949) وعبد الرحمان مامي (1904-1954) الذي وقع اغتياله شهرا واحدا بعد وفاة الشاذلي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى