صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب/ الحكيم الطاهر بن عز الدين (1908-1992): علم وظُرف وروح فكِهة

issa bakouche
كتب: عيسى البكوش

الظرفاء هم أناس يكتسبون قدرا فائقا من البراعة والكياسة وهم إلى ذلك أصحاب روح فكِهة، ولقد أدركت البعض منهم، خذ مثلا في مجال السياسة المنعم الهادي المبروك (1921-2000) وفي مجالي الأدب والفنون المنعمين الجيلاني بالحاج يحي (1929-2010) وعبد العزيز القرجي (1928-2008)…ولكن كنت أقرب ما يكون لـ طبيب القرية التي نشأت بها وحملت أمانتها ردحا من الزمن…

البدايات

هو الدكتور الطاهر بن عز الدين المولود يوم 14 سبتمبر من سنة 1908 بمدينة تونس حيث زاول تعليمه الابتدائي والثانوي، ثم قصد فرنسا لمزاولة تعليمه العالي في كلية الطب بتولوز وعاد إلى الوطن سنة 1939 بعد تخرّجه كطبيب.
عمل في نواحي عديدة من البلاد ثم استقر بمدينة جمّال كطبيب للصحة العمومية حيث قام بعمل جليل في منطقة الساحل، يقول محمد علي بلحولة في كتابه المرجع “الطبيب التونسي”: (كان يجوب هاته المنطقة بين المداشر مطلعا على أوضاع السكان وحالتهم الأليمة جرّاء الأوبئة، فكان يعمل بجهد كبير للتخفيف من حدّتها).

قنوع ومتواضع

في مطلع الخمسينات فتح عيادة بضاحية أريانة فأحبّ ناسها الذين بادلوه حبّا بحبّ.
كان مثلما وصفه بلحولة وما أدركته شخصيّا: “قنوعا متواضعا يزور المرضى في بيوتهم وكان في أغلب الأحيان لا يأخذ مقابل الزيارة ويعمد أحيانا لتقديم بعض الأدوية أو يعطي ثمنها للمريض المحتاج لشرائها”.
إلى جانب ذلك فلقد كان محبّا للنكتة ويفضّل مجالسة الظرفاء، يروي أنه لما كُلف قبل الاستقلال بمرافقة الحجيج إلى البقاع المقدسة كطبيب للبعثة، وعند عودته عاتبه الباي لوجود عدد من الوفيات فردّ عليه :”إنّ أصحابها كانوا في دعائهم يتمنّون الموت في تلك الديار”.

جلسة في المقهى

كان يجلس في بعض الأوقات في المقهى المشهور باسم الشاذلي صحبة بعض أعيان القرية من أمثال شيخ المدينة المنعّم عبد الرحمان الخبثاني والصحافي الظريف إبراهيم المحواشي الذي كان ينقل من الغد بعض ما دار في هذه الحلقة على صفحات جريدة الصباح، إلى جانب ذلك فلقد كان الفقيد شغوفا بالأدب وكان مواظبا طوال حياته على مطالعة الكتب في شتى الأغراض ومن نكد الزمان أن أتلفت مكتبته إثر وفاته ففقدنا مكتبتين إذ يقول المثل الإفريقي :”إذا مات حكيم بيننا فكأنّ مكتبة احترقت”.
انتظم بقاعة من عيادته مجلس أدبي يواظب على حضوره ثلة من رجال الفكر وفي مقدمتهم أستاذ الأجيال بالجامعة التونسية المنعم الشاذلي بويحيى صاحب الأثر الخالد “الحياة الأدبية بإفريقيّة في عهد بني زيري” (الدار التونسية للنشر سنة 1972) والذي قال في شأنه محمود المسعودي غداة وفاته يوم 21 أكتوبر 1997 “رحم الله الأستاذ الكبير ورجل العمل الصالح الذي أحرز بواسطته كبير التقدير والعرفان من طرف رجال التربية والثقافة وجازاه خير الجزاء على ما أسداه للعربية وآدابها من عظيم الخدمات”.
كان أيضا مولعا بالشعر وبالفنون خاصة الموسيقى والنحت ولقد دعوته لمّا كنت مؤتمنا على مدينة أريانة سنة 1984 لحضور تدشين المجسّم الذي صاغه الفنان المنعم الهادي السالمي (1934-1995) والذي زيّنا به باحة قصر بن عياد الذي أصبح قصرا لبلدية أريانة سنة 1983 وقد كان معجبا بهذه المنحوتة لامرأة تحمل باقة ورد بيد وتتّجه باليد الأخرى بوردة لاستقبال زوّار القصر، ولكن هيهات فلقد اجتُثت من بعدي وتمّ نقلها إلى حيث لا تتناسب قياساتها مع موقعها الجديد في مفترق المنزه السابع “وللناس فيما يعشقون ……منازه”.

طبيب الفقراء

ختم بلحولة ترجمته لسي الطاهر بما هو يلخّص سمة الرجل: “كان ميّالا للضحك والسخرية ممّا ولّد فيه حبّ النقد الذي لا يرى فيه إلا إصلاحا وتقويما”.
لبّى حكيم أريانة نداء ربّه يوم 04 فيفري من سنة 1992 ودفن بمقبرة الجلاز وقد نقشت فوق الرخامة الموضوعة على قبره هاته الأبيات من نظم جليسه الذي لم يفارقه أبدا الصديق عبد العزيز قاسم:
“هنا في رحاب الله يستريـــح
طبيب المساكين والفقـــــــراء
وبالطاهر الشهم ضمّ الضريح
قرين المكارم والكرمـــــــــاء”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى