الصريح الثقافي

آخر ما صدر عن دار الشنفرى: ‘ريح الشمال’ قصص للدكتور عمر العويني

صَدَرت حديثا مجموعة قصصيّة للكاتب التونسي “عمر العويني” بعنوان “ريح الشمال”، بغلاف للفنان السوري “رامي شعبو”، وهذا الكتاب باكورة النتاج الأدبي للدكتور العويني أستاذ اللغة والآداب الأسبانية بجامعة منوبة. وهو بالنسبة إلى دار الشنفرى للنشر اكتشاف سيكون له حضوره القوي في المشهد السردي التونسي.

يضم الكتاب الذي يقع 312 صفحة قياس 15/21سم، خمس قصص طويلة (يمكن أيضا عدّها روايات قصيرة) هي : “أبو الريح في مهب الريح”، “العَوْدُ إلى اليمَن”، “قلعة الفساد”، “الباحثون عن الشمس”، و”ريح الشمال”، التي حمل الكتاب عنوانها. وهذه القصص الخمس تشف عن موهبة غير عادية في بناء الشخصية وتسلسل الأحداث والوصف الموجز الفعال في حبكة محكمة وسرد يبدو تلقائيا من غير تقعّر لغوي أو تقني، ناهيك عن أهمية القضايا الاجتماعية والفكرية التي تعالجها كلّ قصة من هذه القصص الخمس.
هذا الكتاب متوفر حاليا في مكتبات العاصمة التونسية (مكتبة المعرفة – ساحة برشلونة، مكتبة الكتاب – شارع الحبيب بورقيبة، ومكتبة العيون الصافية – خلف وزارة المرأة) بثمن: 34 دينار تونسي للنسخة الواحدة.
نقتطف للقارئ هنا فقرات من قصة “العَوْد إلى اليَمَن”:
“والدي هو أصغر أخوته الثمانية، وأبوه عباس الصباح النجراني كان تاجرا يقضي أغلب أيام السنة متنقلا في أنحاء الجزيرة العربية، وبصفة خاصة بين السعودية واليمن. لمّا طلق جدي عبّاس جدتي، لم يتجاوز أبي سن الرابعة. حملت جدتي أربعة من أبنائها وعادت بهم إلى البحرين، أمّا البقية فحملهم جدي معه إلى السعودية، وكان والدي من ضمنهم. هناك تزوج عباس النجراني من امرأة هندية وأوصاها خيرا بالأبناء فاعتنت، بهم وأغدقت عليهم حبا عظيما كأنهم من رحمها. لكن موت جدي مقتولا على الحدود مع فلسطين قلب أمر العائلة رأسا على عقب، إذ فرت الهندية إلى حيث لا يعلم أحد، وكان قدر الأبناء أن يتشردوا في أنحاء الأرض.
نظرا لصغر سن والدي وعدم قدرته على مجابهة الحياة وحيدا، حملوه إلى اليمن من جديد باحثين عن مّن يكفله من أقاربه. عثروا على عمه بشار الصباح النجراني الذي تسلمه ومعه رسالة مغلقة، قيل إنها من أبيه قبل أن يُقتل. كثيرا ما كان أبي يردد بأن المعروف الذي عمله معه عمه يتمثل في شيء واحد: هو أنه أدخله في تلك السنة نفسها إلى المدرسة حيث تعلم القراءة والكتابة. باستثناء هذا العمل الفاضل، فإنّ عمّه تخلّى عنه تماما بعد مضيّ سنة على تسلّمِه من الرجال الأربعة.
أيقظه عمه باكرا ذات صباح وأمره بحمل لوازمه المدرسية في غلاف قديم، وخرجا حتى قبل تناول فطور الصباح. حملتهم الحافلة المزدحمة بالركاب إلى مكان بعيد جدا عن حيّهم. وعند النزول، أخذ عمه يسير بسرعة معرّجا يمنة ويسرة حتى بلغا بناية فخمة تحيط بها أسوار شاهقة من كل جانب، وشاهد بعض الرجال المسلحين يعتلون قممها. هناك تركه جالسا تحت السور ينتظر عودته التي لم تحصل أبدا. مرت ساعة وتلتها ثانية، فثالثة، وصفرت معدة الصبي، وعوت أحشاؤه جوعا، ونفد صبره في انتظار عودة عمّه، الشخص الوحيد الذي بقي له في الحياة. لا يدري كيف حمل نفسه بمشقة، وسار باحثا عنه في ذات الاتجاه الذي رآه قد قصده في الصباح. بعد وقت قليل من المشي مرعوبا ومنهكا، أحسّ بالدوار والإعياء، وخارت قواه فسقط على الأرض. هذا كل ما تذكره قبل أن يجد نفسه في غرفة ممتلئة بالبنادق وسط جمع من الأشخاص المرتدين لباس الحرس والجند.
عشية زفافه، كان والدي يذرف الدمع غزيرا بصمت، متذكرا تلك الليلة النكراء التي خرج فيها من صنعاء سنه 1962 وقد كان عمره خمسا وعشرين سنة. كان في تلك الأيام يتهيأ للزواج من بنت أحد شيوخ القبائل في ريف صنعاء. وكان مولعا بالملك ولعا شديدا، وكان الملك بدوره يحبه ويحترمه، لا لكونه حارسا ماهرا في القصر فحسب، بل لعشرته إياه سنينا طويلة منذ صباه. أي منذ فجر ذلك اليوم الذي اصطحبه عمّه حتى سور القصر أين تخلّص منه وتركه ينتظر، فأخذه حرس القصر الذي عثر عليه يصارع الجوع والظمأ والحرارة الشديدة وهو ابن العاشرة من عمره.
ليلة الحادث، كان أبي في غرفته يغطّ في نومه، حين دوت حوله أصوات الرشاشات والقنابل من كل جانب، فهبّ مذعورا لا يعرف ما الذي حدث. جرى نحو غرفة الحراس، فاستقبلته دماء حمراء داكنة تسيل على الأرض. أخذ يتسلق الجدران، ويقفز فوق البنيان حتى أدرك الحقول المجاورة للقصر، ومن هناك بدأت رحلته الطويلة والشاقة.
قضى بقية تلك الليلة زاحفا على بطنه بعناء شديد، جارا ساقه خلفه التي ظن أنها انكسرت خلال محاولته الهرب من القصر. لمّا سمع صوت المؤذن يدوي في سماء صنعاء، عرف أنه الفجر، وأن عليه أن يدرك البحر قبل أن يدركه النهار، فيكون مآله التنكيل والتعذيب قبل أن ينال رصاصتين في الدماغ.
أشرف على البحر الأحمر قبل انبلاج الصبح بقليل مُنهَكا، يتنفس بصعوبة بالغة، كأنه يلفظ آخر أنفاسه وهو يحاول اجتياز آخر حاجز: حاجز حرس الحدود البحرية. وتمكن من ذلك بعد أن جانب الممرات الرسمية وقطع عدة كيلومترات مشيا حيث عثر على سفينة سودانية تصطاد في عرض السواحل خِفية، فهرّبتْه معها إلى ما وراء البحر. قضى في السودان حوالي شهرين يعيش متخفيا ومتجنبا الظهور في الأماكن العامة، مستعيرا اسم عبود السوداني. لا يريد المكوث طويلا هناك نظرا لقربه من اليمن، ولإمكانية تسليمه إلى السلطة الجديدة التي أطاحت بالملك وبالنظام الملكي. من السودان ارتحل إلى ليبيا معرضا حياته لخطر السجن وحتى القتل، ومن هناك دخل إلى الجنوب التونسي سنة 1963.
في تونس عمل أبي بالساعد في الحقول والبوادي والجبال بلا كلل ولا ملل، مصمما على بدء حياة جديدة هناك. استقر في بنزرت المدينة الشمالية الجميلة، حيث كان يعيش غريبا لا نسب له ولا حسب، رأس ماله اندفاعه البدني وطيبة أخلاقه، الشيء الذي أتاح له العمل كجنان قار في الحديقة العمومية لتلك المدينة.
في أحد أيام الصيف الخانق، وجد فتاةً تستغيث بالمارة لإعانتها على حمل أمها إلى المستشفى إثر تعرضها إلى نوبة قلبية. كان المارة قليلين في تلك الساعة من الهجير، وحتى الذي وُجِدَ في الطريق، كان يسرع إلى الشاطئ ليحتمي من قسوة الحر. شاءت الأقدار أن يمر أبي من هناك عائدا من العمل، فيجد امرأة بدينة ملقاة على قارعة الطريق، وبجانبها ابنتها تزعق وتنتحب حينا، وتلوح إلى المارة بيديها أحيانا أخرى. عندما حمل العجوز على ظهره، بدت كأنها في الرمق الأخير، وسار بها مهرولا بضعة كيلومترات، بينما كانت الفتاة تتبعه من خلف حتى بلغ المستشفى. لم يبرح المكان حتى عُولِجَت المرأة، واستعادت وعيها وبعضاً من صحّتها، فشكرته وطلبت منه أن يدلّها على منزله لكي تردّ له الجميل بأفضل ما تملك. وهكذا كانت بداية ارتباط اليمني بالتونسية.
يوم زفافه تذكر اليَمَن، وفكّر في أنهج وأزقّة صنعاء حيث كان يلهو وهو لايزال طفلا مع أبناء عمه، دون أن يعلم ما كانت تخبئه له الأيام من قطْعٍ للقارّات، وفراق للأحبة والأصدقاء، ومواجهة للكروب والأحزان.
كانت أمي تنتمي إلى عائلة عريقة في بنزرت، إذ كانت تقول إنّ جدّها الرابع بنزرتيّ المنشأ، أما الخامس، فهو قرطبي أندلسي، اسمه عصام بن إبراهيم الرشيكو. غير أنّها لم تَجْنِ مِن عَراقتها شيئا مثل غيرها بعد أن مات والدها واضطرت أمها إلى كسب قُوْتِهم في سوق السمك. حتى المنزل الذي نسكنه الآن في منوبة هو نفسه الذي تزوّج فيه أبي بعد أن باع منزل جدتي في الشمال، وهو بناية صغيرة وقديمة من عهد الحماية الفرنسية، يتكون من قاعة جلوس وغرفتين ومطبخ وممر صغير يؤدي إلى الشارع. عند خروج الاستعمار الفرنسي من تونس باع المستوطنون الإيطاليون كل منازلهم وضيعاتهم بأرخص الأثمان، لكن جدتي الأرملة كانت غير قادرة حتى على شراء حمار، ولذلك لم تنل شيئا من الأملاك التي تركها الفرنسيون والإيطاليون.
كان أبي كلما ضاق به الحال هنا في تونس وقست عليه الظروف، يتوق إلى اليمن. وكان كل خبر يسمعه عن تلك البلاد يؤجج فيه نار العودة. غير أن ذلك الشوق الطافح بدأ بعد زواجه يفتر يوما بعد يوم، ويحل محله رضى المهاجر الذي استسلم لرغبة الظروف. كان الجميع ينادونه “اليمني”، تَسمِية تدخل على نفْسه الابتهاج، حتى أمّي نادرا ما كانت تناديه باسمه سواء في وقت الجدّ أو الهزل، وكثيرا ما كانت تطلب منه مازحة: “خذنا إلى صنعاء أيّها اليمني”. مع مرور الأيام والسنين امّحى أو كاد من نفسه ذلك التوق إلى اليَمَن حتى بدا كأنه لم يعد يمتّ بِصِلة إلى تلك الأرض.
كان والدي رجلا أسمر اللون ونحيفا، ولكنه مفتول العضلات. عيناه صغيرتان، وأنفه مقوَّس، وحاجباه مقرونتان. منظره يوحي بشدة اليمنيين، لكنه في الحقيقة رجل على غاية من الطيبة، أحبابه أكثر من أعدائه، وحُسْن خُلُقه وصدقُه لا يوصَفان، مما جعل ملك اليَمَن يقرّبه منه كحارس للقصر بدل جنّان بسيط.
أنا بكر والِدَيّ، وفي الحقيقة ابنهم الوحيد، لأن أختي الصغيرة توفيت في العام الثاني من عمرها، ولذلك السبب كانا يعاملانني كرجل وأنا فتى صغير. حدثتني أمي عن كل تفاصيل حياتها، وروى لي أبي كل ما قاساه في صباه وشبابه وكهولته. في الحقيقة، أنا لم أكن أشفِق على أمّي قدَر إشفاقي على أبي، رغم قسوة ظروفها كيتيمة، لأنّ والدي كان، في نهاية الأمر، مهاجرا، وغريبا، ويتيما، ومشردا. عندما كان يحدثنا عن أطوار حياته الغريبة، لم يكن يشتكي ولم يكن يتذمّر… بل كان يتحدث ببطء، في نبرة ثابتة وقوية، وعينين تنظران إلى الأفق البعيد، كأنه يرغب في أن يسجل التاريخُ حديثه. فقط بسبب هذا الأمر نما فيَّ حُبٌّ عارم لاكتشاف التاريخ وسبْر أغواره. ولذلك لم أكن أستمتع بمادة في المدرسة كاستمتاعي بمادة التاريخ.
في اليوم الموالي بدأت أبحث عن الرسام الهادي التريكي، وكان ذلك بالبحث عن رقم هاتفه من خلال تصفحي بلهفة شديدة لدليل الهاتف. سجلت خمسين رقم هاتف يحمل هذا الاسم، ثم بدأت بالرقم الأول، فأجابني صوت شاب حسبته ابن الهادي التريكي. سألته׃
_ هل هذا منزل السيد الهادي التريكي؟.
_ نعم. من الذي يطلبه؟.
_ أقصد الهادي التريكي الرسام.
انزعج الصوت وسمعته يتحدث مع شخص آخر وهو يقول ساخرا: «لا رسام ولا دهان» ثم علّق. طلبت الرقم الموالي، فقيل لي بأنه خباز. وظللت أمر من الخباز إلى النجار، إلي العطار، إلى الجزار… حتى عثرت على الرسام فسألته متلهفا׃
_ الرسام الهادي التريكي؟.
_ نعم أنا الهادي التريكي الرسام”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى