صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: دفاعا عن السنة النبوية…ودفاعا عن البخاري

slama
كتب: نوفل سلامة

أتابع منذ فترة الحملة المسعورة التي يتعرض إليها إمام المحدثين وأحد الرّواد الكبار في علم الحديث فنا وعلما ودراية ومنهجا، وما يتعرض له الإمام البخاري وكتابه المعروف الجامع الصحيح من قدح وتشهير واتهامات مغرضة طالت شخصه وكتابه…

وكل ما قام به من جهد علمي فذ في تنقية الحديث النبوي والمحافظة عليه بعيدا عن شتى الانحرافات التي طالت أقوال الرسول بالزيادة فيها وانتحال متنها والكذب في روايتها والتصدي لكل عمليات الوضع والاختلاق لأسباب تاريخية معروفة مرت بها الأمة الإسلامية منذ قيام الفتنة بين الصحابة وظهور الفرق والنحل والمذاهب التي احتاجت إلى الحديث لتأييد مذهبها والانتصار لموقفها.

حلقات التهجم

وقد عدت لتبين سبب هذه الهجمة على الإمام البخاري فوجدت أنها حلقة في مسار طويل من التهجم على الدين الإسلامي ورموزه المؤثرة وتاريخه بدأت بالكلام في القرآن الكريم والشك في الوحي الإلهي والشك في كون الرسول قد تلقاه عن ربه ونقله إلينا وهو مبحث يطول بسطه..
ولما لم تحقق هذه الهجمة على القرآن نتائجها المرجوة تم الانتقال إلى شخص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتمّ الشك في شخصه والتشكيك في وجود شخصية إسمها محمد قد ظهرت في التاريخ والتشكيك في أميّته وأنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة والشك في إسمه ولما فشلت كذلك هذه الخطة تحول الاتهام والنيل إلى السيرة النبوية وحياة الرسول والصحابة وبدأ القدح في السردية الدينية التي أسسّت لتاريخ الرسالة المحمدية و لحياته متهمين من كتبها باختلاق وقائع لم تقع ثم وقع الانتقال إلى التركيز على بعض الصحابة من الذين اشتهروا برواية الحديث كأبي ذر الغفاري وأبي هريرة…

إضعاف الإسلام

وتعرض هذا الأخير إلى تجريح كبير وتشكيك في كل ما حفظه ونقل عنه من حديث نبوي كل هذه المحاولات وغيرها والتي استغرقت سنوات عديدة كان هدفها إدخال الشك في الدين الإسلامي وإضعافه و التقليل من عظمته وقوته المرتبطة بصدقية القرآن وصدقية الرسول والثقة العالية في صحابته والخلفاء الراشدين وفي كل ما نقل إلينا من وحي إلهي وسنة وحديث نبوي ورد عن الرسول الكريم…

ولما لم يثمر كل هذا الجهد نتائج مرجوة وحافظ هذا الدين على صلابته وقوته انتقلت الخطة في السنوات الأخيرة إلى التعرض إلى أحد أهم الرجال الذين اعتنوا بالسنة النبوية وأحد المحدثين الذين اعتنوا بالمنهج الذي تم بفضله تنقية الحديث وتمحيص الرواية وغربلة أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عمل وجهد علمي يحول دون الشك في الحديث ويقطع الطريق أمام من يقف وراء الطعن في الرسول والطعن فيما ورد عنه من أحاديث واخبار…

سؤال؟

وقد كان السؤال يخامرني لماذا هذه الهجمة على شخص البخاري دون غيره من علماء الحديث والحال أن من دون وكتب وجمع واشتغل على هذه المادة كثر والبخاري واحد منهم لا غير؟
وقد كان الجواب المقنع هو أن البخاري قد أزعجهم وأقلقهم بما وضعه من منهج علمي صارم ومن شروط علمية دقيقة لقبول الحديث والحكم عليه عرف في بعلم الرجال وعلم السند وعلم الجرح والتعديل والتدقيق في سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث وهو مجال واسع وشاسع و دقيق لا يدركه إلا القلة ممن اتقنوا هذه الصناعة وبهذا المنهج أمكن معرفة أصناف الحديث وتمييز الصحيح من المكذوب والضعيف من الموضوع والمدلس والمنقطع وإلى غير ذلك من كل الأنواع التي حوتها كتب الحديث..

أسباب الهجوم

وحتى نفهم الموضوع ونفهم لماذا وقع الهجوم على الإمام البخاري دون غيره لنعد إلى القصة من أولها ونقول إن الطعن في البخاري هو في الجوهر طعن في الحديث النبوي، وهو في النهاية إنكار لما يصدر عن الرسول من أقوال وأفعال وتقريرات وردت عنه في تفاعله مع واقعه ومع أحداث عصره وإنكار لمهمة الرسول البيانية و التفسيرية والتوضيحية…
فضرب البخاري هو ضرب للرسول ومهمته في بيان كل شيء وهنا علينا أن نتفق على أن مهمة الرسول الأكرم تتجاوز و لا تنحصر كما يريد أعداؤه وناكرو سنته وكل الذين يقودون الحملة على السنة النبوية في تلقى الوحي وتبليغه للناس فقط من دون أن يكون له مهمة التفاعل الحي في الواقع الذي يتحرك فيه مع صحابته ومع محيطه الداخلي والخارجي بكل تعقيداته وحركيته لقوله تعالى ” وأنزلنا إليك الذكر لتبين لهم ما نزل إليهم ” النحل / 44 بما يعني أن مهمة الرسول الأساسية إلى جانب مهمة تبليغ الوحي تفسيره وبيان معانيه وتوضيح ما غمض منه ثم تنزيل هذا الوحي على أرض الواقع بتفسيره فإذا اتفقنا حول هذه المهمة نكون هنا أمام حقيقة وهي أن الرسول صدرت عنه أقوال وأفعال وتقريرات في شكل أخبار وأحاديث ومرويات سمعها صحابته في مجالسهم معه، وفي كل ما عايشوه أو كانوا شاهدين عليه وهذا كله يسمى سنة نبوية.
إذا اتفقنا حول هذه المسألة نكون أمام كم كبير من المرويات تنسب إلى الرسول في مجالات شتى ومواضيع مختلفة وقضايا عديدة في حيز زمني قصير لم يتجاوز ثلاث وعشرين سنة لكن السؤال المطروح كيف وصل كل هذا الكم الكبير من الأحاديث وكيف تم التأكد أن كل ما قاله ونقل عن الرسول يعود الى صاحب الرسالة؟

مراحل متعددة

في الحقيقة لقد مرت عملية تدوين السنة وكتابتها بمراحل عديدة بدأت بداية محتشمة في عهد الرسول صلى الله عليه بمحاولات فردية ومبادرات خاصة من بعض الصحابة من دون إعلان رسمي أو موقف رسمي من الرسول، لسبب بسيط وهو أن السياق كان يعطي الأولوية القصوى لحفظ القرآن وتدوينه وهو لا يزال ينزل متفرقا وكانت المهمة الأولى هي تدوين الوحي وتثبيت ما ينزل من آيات القرآن لذلك عيّن الرسول بعض الصحابة وأعطاهم مهمة كتابة الوحي و تدوين القرآن دون غيره سموا بكتبة الوحي وهنا يتنزل حديث الرسول المشهور المتعلق بالنهي عن كتابة أي شيء آخر غير القرآن ومنع أي تدوين لـ السنّة مخافة أن يختلط الحديث بالقرآن ومخافة أن يشكل على الناسخ ما قد يكتب فلا يفرق بين آية نزلت وحديث سمعه من الرسول حيث أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن الرسول قال ” لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه »…

رغم النهي والمنع..

ولكن رغم هذا النهي وهذا المنع عن كتابة أي حديث صدر عن النبي أو أي فعل أو تقرير له فقد بقي الصحابة يكتبون الحديث بطريقة منفردة و يدونون ما يسمعونه في صحائف خاصة بهم من دون أن يكون هذا التدوين للسنة سياسة رسمية أو دعوة عامة ولا كانت بأمره فقد ثبت أن بعض الصحابة كانت لهم في زمن الرسول دفاتر وصحائف خاصة بهم دونوا فيها ما سمعوه عن الرسول كصحيفة عبد الله عمرو بن العاص التي كان يسميها بـ الصادقة وصحيفة علي بن ابي طالب التي جمع فيها أحكام الدية وفكاك الأسر وفي هذه الفترة كتب الرسول لأمرائه وعماله كتبا حدد لهم فيها الأنصبة ومقادير الزكاة والجزية والديات إلى غير ذلك من القضايا المتعددة التي تفيد و تؤكد وقوع كتابة السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

تدوين القرآن

بقى الأمر على هذا الحال من منع تدوين السنة والنهي عن كتابتها طوال زمن حكم أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبقيت عملية الحفظ منفردة وبمجهودات شخصية فردية من قبل بعض الصحابة إلى أن تولى الحكم والسلطة الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز الذي أذن بالشروع في عملية تدوين السنة وجمعها لأسباب موضوعية وذاتية أهمها أن عملية جمع القرآن وتدوينه وحفظه وتكراره قد اكتملت و انتهت ولم تعد هناك خشية ولا خوف من اختلاط الوحي بالحديث أو الشعر أو أقوال الصحابة ووضح أمر الوحي وتركز النص القرآني نهائيا وبالتالي فإن المنع من كتابة السنة قد زال فضلا عن توسع رقعة الدولة الإسلامية وتفرق الصحابة وفيهم من توفى وفيهم من استقر خارج المدينة وخارج مكة مع ظهور الفرق والنحل والمذاهب وبروز ظاهرة الكذب في الحديث واختلاق الرواية وانتحال المتون انتصارا للمذهب والفرقة فكان لزاما على السلطة السياسية أن تتدخل لحفظ السنة بعد أن تم حفظ القرآن فكان القرار الذي اتخذه الخليفة الخامس بالبدء في عملية التدوين في سنة تسع وتسعين للهجرة ومن هنا بدأت عملية التدوين الرسمية للحديث لحفظها من الضياع والتحريف فكتب إلى الإمام شهاب الدين الزهري عالم أهل الحجاز والشام وطلب منه أن يجمع له كل ما يروى من حديث في المدينة فاستجاب للأمر وانجز المهمة وأرسل له صحيفة جمع له فيها كل ما يرويه أهل المدينة من حديث الرسول فكانت هذه هي المحاولة الرسمية الأولى لتدوين السنة غير أن عمل الزهري كان دون منهجية واقتصر على عملية الاستقصاء والتجميع والتدوين لكل ما سمعه من حديث الصحابة من غير تبويب ولا ترتيب وانما جاء عمله جمع فقط مما جعله يختلط بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وهو أمر طبيعي في كل عمل في بدايته.

ظهور المسانيد

ومن هذه الانطلاقة الرسمية عرفت عملية تدوين السنة مراحل طويلة وشاقة بذل فيها جهد كبير بظهور المسانيد في الحديث وتبويب الحديث على أبواب الفقه ومسائله وظهور الصناعة في علم الحديث وكثر المشتغلون بجمع الحديث وتدوينه إلى أن وصلنا إلى المرحلة الأخيرة في هذا المسار الطويل من الاعتناء بالسنة جمعا وتمحيصا وتدقيقا ودراية إلى المائة الثالث بعد الهجرة وهي المرحلة التي اكتمل فيها الجمع والتدوين وكانت الحاجة ملحة إلى البدء في وضع منهج علمي لدراسة وتمحيص كل هذا الكم من الأحاديث التي تعد بالألاف من ذلك أن الإمام أحمد بن حنبل له في مسنده هو فقط أربعون ألف حديث في هذه المرحلة ظهر الامام البخاري ( 194 هـ / 256 هـ ) الذي على عكس ما يتهم به لم يجمع الحديث ولم يدونه وإنما كل ما فعله وقام به هو أنه وضع منهجا صارما وطريقة علمية لقبول الرواية ودقق في صحة ذلك الكم الكبير من الأحاديث النبوية وهو منهج عرف بمنهج الجرح و التعديل وعلم السند بما يعني أن البخاري يعود له الفضل في حفظ السنة الصحيحة وغربلة الأخبار والروايات المنسوبة للرسول و بفضل شروطه التي وضعها ومنهجه الصارم في قبول الحديث أمكن له تخريج 6000 حديث وهو جهد استغرق 16 سنة من التدقيق والدراسة والبحث فكان كتابه الجامع الصحيح المعروف بصحيح البخاري وشروطه التي أصبحت تعرف بشروط البخاري.
وبهذا وبعد عملية الجمع والتدوين التي بدأت محتشمة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومجهودات وإرادة فردية من بعض الصحابة وبمنع من صاحب الرسالة ودعوة للتقليل منها في زمن الخليفتين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبعد التدوين الرسمي الذي بدأ في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز وكل المراحل التي قطعت حتى اكتمل التدوين والجمع والانتقال من الجمع الشامل غير المنظم إلى الترتيب والتبويب وانتهاء بمرحلة المنهج العلمي.

مراجعة الحديث

بعد كل هذه المراحل التي قطعت في تدوين الأحاديث النبوية وحفظها من الضياع لم يبق إلا عمل آخر وهو مراجعة الحديث متنا ونصا بعد أن محّص سندا و ” عنعنة ” وهنا يوجه إلى كتاب البخاري تهمة قبوله لأحاديث هي في نظر البعض من ناكري السنة و المتهجمين على الحديث فيها مخالفة للنص القرآني ومتعارضة مع ما وصلت إليه المعرفة وقرره العقل وهذا مبحث آخر يحتاج مقالا آخر فقط ما أردنا اثباته في هذه الأسطر هو أن البخاري لم يكتب الحديث ولا جمعه ولا دونه وإنما كل ما فعله أنه وضع منهجا علميا صارما حفظ به السنة من الانتحال والاختلاق والضياع أقلق واتعب به كل من أنكر السنة وهذا هو سبب هجومهم عليه وهو في الحقيقة هجوم غير معلن على الحديث النبوي بأكمله وإنكار لدور الرسول وأنه له مهمة التفسير والبيان والتوضيح إلى جانب تبليغ الوحي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى