عيسى البكوش يكتب/ حسن حسني عبد الوهاب (1884-1968): المؤرّخ والمحقق ووزير القلم

كتب: عيسى البكوش
اسمه يرنّ في النطق كما في السمع، وهو ثلاثي التركيب وهو نادر في مغربنا على عكس المشرق، طبعا لدينا أبو القاسم محمد كرّو وأحمد توفيق المدني وأحمد طالب الإبراهيمي وأحمد حاذق العرف..
ولكن مترجمنا اشتهر بهذا الاسم المركّب دون لقبه فهو حسن حسني بن صالح بن عبد الوهاب الصمادحي المولود يوم 21 جوان 1884 برأس الدرب وبالتحديد في دار عبد الوهاب عدد 27 من النهج الذي يحمل ذلك الاسم، ولقد عدّه المعماري Jacques Revault (1902-1986) من جواهر مدينة تونس في كتابه المرجعي Palais et demeures de Tunis ولقد ابتناها جدّه الأعلى عبد الوهاب الشارني المولود عام 1778 والذي كان أمير لواء في عهد حسين باي الذي حكم البلاد بين سنتي 1824 و1835.
حفظ القرآن
حفظ حسن حسني القرآن في كتّاب نهج سيدي الموحد، ثمّ زاول تعليمه الابتدائي بين مدينتي المهدية حيث كان والده صالح عاملا عليها، وتونس في المدرسة الفرنسية بنهج السويد والتحق من بعد ذلك بالصادقية فالمدرسة العليا للعلوم السياسية بباريس عام 1902 غير أنه سرعان ما عاد إلى تونس بسبب وفاة والده سنة 1904.
مهام إدارية
تقلّب حسن حسني في عدّة مهام إدارية مثل إدارة الغابات والأرشيف الوطني، ولكن شغفه بالبحث والتحقيق والمعرفة دفعه إلى مواكبة جلّ اللقاءات الفكرية والمؤتمرات العلمية انطلاقا من مؤتمر المستشرقين في عاصمة الجزائر الذي حضره عام 1905، إلى جانب ذلك فلقد انتمى إلى صفوة المدرّسين بالخلدونية وذلك عام 1908، ثمّ سلك نفس المسلك الذي سار عليه والده إذ سمّي عاملا على جبنيانة عام 1925 ثم على المهدية عام 1928 وأخيرا على الوطن القبلي عام 1935.
في منصب وزير القلم
عاد على إثر هذا المسار إلى الحاضرة ليتحمّل وزر جمعية الأوقاف عام 1941 ولكن سرعان ما تخطفه الأشعّة الجارفة للسياسة فيُدعى عام 1943 من طرف الأمين باي إلى الارتقاء إلى منصب وزير القلم وهو الذي يعتني بمراسلات الملك وبتخاطبه مع الخارج، وبهاته الصفة يحضر إلى جانب الوزير الأكبر في المجالس الوزارية ويشغل هذه الخطة المهمّة في تاريخه وهي التي مكّنته من موقع للإطلاع والاعتبار إلى حين تقاعده عام 1947.
ولكن هل مثل هذه القامة تركن إلى التقاعد بعد الكمّ الهائل من الذخائر التي أمكن له التحصّل عليها على مرّ الأزمنة والأمكنة، إذ أنه كان كثير التجوال عبر أرجاء أرض الله الواسعة ومن محطات رحلته عبر القرن الماضي الطائر الذكر القاهرة حيث ترأّس سنة 1932 الوفد التونسي المشارك في المؤتمر الأوّل للموسيقى العربية المنعقد ما بين 18 مارس و03 أفريل 1932 بمبادرة من البارون ديرلنجي صاحب النجمة الزهراء في سيدي بوسعيد ولقد كانت لهذا الرجل الموسوعي اهتمامات بكلّ الفنون.
كتب صالح المهدي في المجلة الصادقية عدد أفريل 2003 :” لقد نقل العلامة حسن حسني عبد الوهاب عن كتاب لأحمد التيفاشي حول ” متعة الأسماع في علم السماع” كلّما يتعلق بالموسيقى بإفريقية في العهد الحفصي فيقول : “إنّ طريقة أهل إفريقية في الغناء مولّدة بين طريقتي أهل المغرب والمشرق فهي أفضل من طريقة أهل الأندلس وأكثر نغما من طريقة أهل المشرق”.
اهتّم بالعلوم
كما أنّه كان مهتما بكلّ العلوم وبأعتاها أي العلم الذي أنشأه منذ 7 قرون مواطننا عبد الرحمان بن خلدون صاحب العبر: التاريخ. ولقد ترك لنا حسن حسني عبد الوهاب بدوره موجزا شافيا لتاريخ بلدنا :”خلاصة تاريخ تونس” سنة 1918.
كما ترك لنا آثار أخرى يقتدي بأنوارها جمهور الباحثين والدارسين، هي آثار من حجر ومعدن وقماش وأخرى من ورق.
إذ أنه عندما ولي كأوّل مدير تونسي بعد الاستقلال على راس المعهد القومي للآثار والفنون بادر بإنشاء ما لا يقلّ عن خمسة متاحف أربعة منها للآثار الإسلامية بسوسة والمنستير والقيروان وتونس وواحد بقرطاج للآثار الرومانية.
ولقد كان لحسن حسني عبد الوهاب كمّ من التابعين وأذكر من بينهم من لا يتبادر على البال، ولقد كنت كتبت في الصريح عن الوجه الآخر للزعيم الباهي الأدغم، نعم فإنّ سي الباهي يقول في الكتاب الذي أصدره ابنه عبد الرحمان سنة 2019 عن “نيرفانا” الزعامة الهادئة:”لقد تعرّفت عن كثب على الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب الذي قدمني إلى أستاذ الآثار Georges Marçais وقد ذهبت إلى الجزائر وتابعت دروسه عن الآثار” ص 96.
أمّا عن المعدن فالقصد منها المسكوكات أو النقود التي كان يمتلكها والتي توشّح الآن رفوف متحف البنك المركزي، ولقد سجلها في قائم حياته في كتاب ذي 70 صفحة أهداه إلى صديقه المنعّم الهادي نويرة مؤسّس البنك.
وأمّا الأقمشة فلقد أودعها يوم 25 جويلية 1961 في المتحف الإسلامي.
الآثار المحفوظة
إنّ الآثار المحفوظة في الورق تعدّ هي الأخرى من أجلّ إنجازات الرجل الذي قضّى العقود في التحقيق والبحث والدرس فجاءت مجلدات تحوي سرديّة هذا الوطن الذي أحبّه وعمل من أجل تأصيله.
وعلاوة على ما ذكرناه آنفا من مؤلفات العلامة فلقد ترك لنا زهاء الأربعين كتابا من بينها ثمانية حقّقها في التراث العربي الإسلامي وأحد عشر بحثا بالفرنسية وهو التونسي الأوّل الذي انتدب عضوا في المجمع الفرنسي للنقوش والفنون الجميلة وهو صاحب أوّل رواية تونسية بلغة موليار “La dernière soirée à Grenade “.
كما أنه كان يمتلك مكتبة عدّها المنعّم محمد قريمان في مجلة “معالم ومواقع” عدد أوت 2004 من أهمّ المكتبات الخاصّة إذ أنها تحتوي على 107 عنوان من المخطوطات العربية التي تواجدت في أوروبا، ويضيف قريمان: ” لقد اشترى الدكتور الصادق المقدّم رئيس مجلس الأمّة -مجلس النوّاب حاليا- جلّ هذه الكتب عام 1970 وبفضلها أسّست نواة مكتبة المجلس”.
أمّا عن التحقيقات فمن ضمنها: “آداب المعلّمين” لمحمّد بن سحنون، و”رسائل الاعتقاد” لابن شرف القيرواني و”التبصّر بالتجارة” للجاحظ، و”أعمال الأعلام” لابن الخطيب و”ملتقى السبيل” لأبي العلاء المعرّي ، ولقد صدرت أغلبها بدمشق بين سنتي 1913 و1937.
وبفضل هذا العطاء الغزير أمكن لصاحبنا الانتماء لجلّ المجامع العلمية في المشرق ولذلك اعتبره بنو وطننا شيخ المجمّعين عندنا.
تاج الدرر
من بين هذه الدرر كثيرا ما ينتقي المتتبعون لمسيرة الرجل أربعة تعدّ تاجا لمدوّنته ابتداء من: ” بساط العقيق في حضارة القيروان وشاعرها ابن رشيق” الذي أهداه مؤلفه عام 1912 بخطّ يده إلى “المكتبة الخلدونية الخالدة”، هذا الكتاب الذي أعادت نشره بيت الحكمة عام 2009 بتقديم رئيس المجمّع المنعّم عبد الوهاب بوحديبة ” أردنا من إعادة هذا الإصدار إثبات أهميّة المؤلف الذي يؤرّخ بالحجج والبراهين لفترة ذهبيّة عاشتها القيروان وشاعرها ابن رشيق”.
ويقول أحد تلاميذه الأستاذ الشاذلي بويحي:” وضع شيخنا المحقق ولم يتجاوز عمره الثلاثين كتيبا يعدّ -على إيجازه- مرجعا أساسيّا وتصويرا كافيا لتلك الحضارة”، مع الإشارة إلى أنّ الطبعات السابقة وقع تقديمها من طرف الأستاذين البشير البكوش ومحمد العروسي المطوي اللذين تحمّلا أيضا وزر إصدار “كتاب العمر” نشر منه جزءان من طرف الدار العربية للكتاب سنة 2001 وجزءان من طرف دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 2005 لصاحبها المنعّم الحبيب اللمسي.
يقول حسن حسني عبد الوهاب في تقديم” بساط العقيق ..” متوجّها إلى القارئ بعد توجيه التحيّة لصاحب جريدة الزهرة عبد الرحمان الصنادلي الذي تفضّل بنشر عجالتي على صفحات جريدته: ” فعفوا أيّها القارئ إذا ما عثرت على هفوة فإنها صادرة من متزلّف إلى العلم جرّأه على التحرير فرط شغفه بذكر الأسلاف وإعجابه بما شيّدوه من المجد الشامخ والفخر الراسخ”.
وعلى ذكر “الزهرة” فيجدر بنا التذكير بأنّ حسن حسني عبد الوهاب حرّر كمّا هائلا من الفصول في عديد الجرائد والمجلات التونسية ولقد انضمّ سنة 1938 إلى أسرة مجلة “المباحث” لصاحبها محمد البشروش إلى جانب الشيخين محمد الفاضل ابن عاشور ومحمّد الشاذلي النيفر، والأساتذة محمود المسعدي والمحجوب بن ميلاد وعلي البلهوان وأحمد عبد السلام، وكذلك لأسرة “المجلة الزيتونية” التي أسّسها سنة 1936 الشيخ محمد الشاذلي بالقاضي.
كتاب “شهيرات التونسيات”
ومن آثاره كتاب “شهيرات التونسيات” الذي أعيد طبعه مؤخّرا من طرف مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام للمرأة، كما صدرت منه نسخة سمعيّة.
أمّا عن الأثر الآخر “ورقات” الصادر عام 1965 عن دار المنار فيقول صاحبه: “هذه ورقات اقتبستها من كتاب أفنيت فيه عمري واستنفذت صبري، ولقد استقصيت ما يربو عن خمسمائة مصدر بين مطبوع ومخطوط أرجو أن تلقى من الناشئة الجديدة إقبالا يزيدها ارتباطا بماضيهم الخالد… إلا أنّ الانتفاع بتقليب النظر في الماضي لا بدّ أن يؤيّد بالسعي الجاد في الحاضر”.
يقول الأستاذ جلّول ريدان صاحب كتاب ” حسن حسني عبد الوهاب” الصادر عن دار نيرفانا سنة 2010: ” إنّ هذا المؤلف هو أوّل من أسّس لهذا النوع من الكتابات التاريخية جمع فيه بين أسلوب الكتابة التاريخية وأسلوب الكتابة الأدبيّة”.
كما أنّ الأستاذ ريدان يذكّر بما ورد في ” ورقات” عن الحضارة العربية بإفريقية بين صفحات 277 و316 والمتعلقة بمطالبة عبد الوهاب الحلفاء من إسناد جزيرة بنطلارية إلى تونس كفيء حرب” وهو أمر لم يتجرّأ عليه من رجال الدولة سوى عبد الوهاب اعتمادا على حقوق قديمة العهد مثبتة الحجّة قويّة البرهان وذلك لأنّ أبناء تونس ملكوها دهرا طويلا”.
هذه الجزيرة التي تبعد عن ساحل قليبية حوالي 70 كم وكانت تسمى بنت الرياح. ولقد ذكر الصديق المنعّم الحبيب الجنحاني في حوار أجرته معه مجلّة “العربي”: لم أر من المظاهر المادية للحداثة وأنا في التاسعة من عمري إلا الأسطول البريطاني والأسطول الألماني على شواطئ قريتي قليبية، وكنت شاهدا على المعارك الجوية بين طائرات المحور وطائرات الحلفاء”.
رفض جائزة بورقيبة
تلك هي جرأة العالم المؤرّخ، ولقد تجلّت مرّة أخرى وأخيرة عندما رفض استلام الجائزة التقديرية التي منحها إيّاه الرئيس الحبيب بورقيبة وهي أوّل جائزة تمنح عام 1968 لأحد الأعلام.
يقول محمّد أبو القاسم كرّو في فصل خصّه لسي عبد الوهاب في كتابه “أبحاث ومقالات” الصادر عن دار المغرب العربي عام 2002: ” لقد رفضها بسبب شيخه محمد الطاهر بن عاشور المفروض أن ينالها قبله، فصدر مرسوم خاص يمنح بمقتضاه الشيخ جائزة أخرى، عندئذ تحوّلت لجنة يترأّسها الدكتور الصادق المقدّم إلى منزل عبد الوهاب حيث تمّ توسيمه وهو جالس بالوشاح الثقافي وبعد أيّام انتقل إلى رحمة الله، فكأنّه كان ينتظرها”.
توفي شيخنا الجليل يوم 9 نوفمبر 1968 ودفن بمقبرة الجلاز حيث كتب على شاهده:
“قف هذا ضريح علامة الجيل إمام المؤرخين الثقاة”.
رحم الله هذا العلم الذي يحقّ القول فيه ما قاله ابن بسّام في حق ابن رشيق: ” كان ربوة لا يبلغها الماء وغاية لا ينالها الشك والإرجاء”.