الصريح الثقافي

عمر دغرير يكتب: ‘الظاهر والخفي في أخطاء عادل الجريدي’: جرأة فائقة بأسلوب مكثف ومخاتل

كتب: عمر دغرير *

بعد قراءة بانورامية لقصص (أخطاء جليلة) تذكرت مقولة للكاتب الأمريكي سكوت أدامز: ‘الإبداع هو السماح لنفسك بارتكاب الأخطاء’..ومن خلالها استوقفني السؤال التالي : هل يمكن أن نعتبر الأخطاء جزءا من العملية الإبداعية أو بشكل آخر, متى يكون الخطأ جوهر الإبداع؟

حلول فريدة

والثابت أن في عملية ارتكاب الأخطاء قد نكتشف أفكارا وحلولا فريدة، ومن هذه الأخطاء قد نهيئ بيئة تزدهر فيها الإبتكارات وتتيح لنا تجاوز الحدود .وفي كتابة القصة القصيرة جدا ,وهي في حد ذاتها ليست بالأمر الهين , هي مغامرة صعبة قد تسمح للمبدع بارتكاب بعض الأخطاء، وقد تكون أخطاء جليلة تشبه التي قصدها عادل الجريدي في كتابه.

إبداع فني

ولكن قبل الغوص والبحث عن هذه الأخطاء لا بد أن أشير إلى ما قاله الناقد المغربي محمد يوب عن هذا النوع من القص الذي بدأ في الإنتشار بصورة مكثفة في الساحة الإبداعية العربية عامة والتونسية بالخصوص: 
‘إن المتتبع للقصة القصيرة جدا يلاحظ بأنها إبداع فني يسير بالموازاة مع الواقع ومع البنية الخارجية بشكل عام، لكن لا يعني هذا أنها تنقل الواقع نقلا حرفيا وإنما تهدف إلى البحث عن حلول لهموم هذا الواقع، فهي بذلك تنتقل من تفسير العالم إلى علاج قضايا وهموم هذا العالم، فالواقع هو همها ومشكلتها، لكنها لا تكتفي بنقل الواقع بسذاجة وإنما تنقله بموازاة مع التخييل وجمال اللغة وحسن انتقاء المشاهد الصادمة والمدهشة التي تعطي المنجز القصصي القصير جدا عمقه الفكري وبعده الدلالي والفني…”
وهذا تقريبا ما توصلت إليه بعد قراءاتي المتعددة من زوايا مختلفة لهذه المجموعة القصصية الصادرة عن دار الأدب الوجيز في 112 صفحة وفي طبعة أنيقة، وهي تضمّ مائة قصة قصيرة جدا كما جاء واضحا في الغلاف.
وقد أهداها صاحبها إلى مصابيح المدينة التي قد يكون تعود على الاستنارة بها في الظلمات، والظاهر أنها كانت تعوض رفاقه في الأزمات حتى أنه كتب : “إلى مصابيح المدينة رفاقي الملاعين »…والحقيقة الموجعة، ما الذي جعل الكاتب يستأنس بمصابيح المدينة ويجعل منها رفاقه الذين يواسونه في الأوقات الصعبة.

أخطاء جليلة

وقد نفهم من خلال نعت رفاقه بالملاعين أن هذه المصابيح لا تشتغل في أغلب الأحيان يضطر للبقاء مدة طويلة في الظلمات.
وهو لعمري خطأ جليل من بين كل هذه الأخطاء الجليلة التي لم أعثر عليها بين عناوين جميع القصص الظاهرة في الكتاب . هذا الكتاب صدّره صاحبه بتقديم للناقد المغربي الدكتور خالد مساوي تحت عنوان ” أنفاس الرؤيا وعلامات التكثيف في المجموعة القصصية ( أخطاء جليلة) . وقد كتب في صفحة 5 :
” تضعنا هذه المجموعة في مواجهة حقيقتنا في أقصى حدود التعري بفضل قدرة النصوص على اقتحام المناطق الخفية في الذات فرديا وجماعيا وبفضل الجرأة والتقنيات التي يمتلكها فعل السرد ذاته في التقاط الجوانب المعتمة في الوجود البشري . ” .

ثلاثة محاور أساسية

والناقد حاول الغوص في ثلاثة محاور أساسية تركزت عليها قصص المجموعة بداية من النفس النضالي ,مرورا بالنفس الرومنسي , وصولا إلى النفس التخييلي . وكل هذه الأنفاس تُورّطُ الكاتب في البوح بعلاقته المتينة بالواقع وتدفعه لارتكاب أخطائه الجليلة معتمدا على أحدث التقنيات في السرد للوصول إلى أقصى حدود التعري والكشف عن المستور واقتحام الزوايا والأركان التي قد نمرّ عليها ولا نراها بالعين المجردة . وختم الناقد قوله في صفحة 8 :
” لقد أفادت هذه التقنيات السارد في كسر الجدار الرابع الذي يفصل النص عن المتلقين و يورطهم في الأحداث , وقد يحملهم مسؤوليتها أو يجعلهم معنيين مباشرة بالنتائج المترتبة عنها ..”
وهذا بالفعل ما لاحظناه في أغلب القصص المنشورة في هذا الكتاب .والكاتب بجرأة فائقة وبأسلوب مكثف ومخاتل وبتقنيات جد مبتكرة استعرض أمام أعيننا أخطاءه الجليلة التي هي في ذات الوقت أخطاؤنا التي قد نرتكبها في كل حين ولا نقر بها .
والملاحظ أن في كل قصة توجد رسالة يريد الكاتب إيصالها إلى المتلقي عبر اللغة وعبر الكلمات .ولأن القصة القصيرة جدا ليست لغة معزولة، وليست كلمات متفرقة هنا وهناك . فهي بالفعل تتفاعل داخل سياقها الاجتماعي المشحون برغبات وأهداف الكاتب والقارئ في آن .وعلى هذا الأساس وجب التعامل مع كل قصة برؤية شمولية تجمع داخل النص القصصي بخارجه وتكشف عن المضمر والخفي في هذا القص الذي قد يحفظ اليومي من التفتت والغياب وقد يضاعف في متعة القراءة.

الموت حضر بقوة

والبداية أرادها صاحبها مع (موت مقصود) قصة امرأة بعد يأس فظيع انتحرت .وأظنها مقصودة من الكاتب الذي اختارها من بين مائة قصة ليستهل بها هذه المجموعة .وتكون قصة البداية من تلك النهاية التي يرمز لها الموت .فهل يجوزفي سرد الحكايات أن نبدأ بنص فظيع عن الموت ؟ وكم هي عديدة قصص الموت في هذه المجموعة.. بحيث فكرة الموت تعددت أشكالها في أغلب النصوص. حتى أننا نعثر على الموت في صفحة 17 في قصة (غارة) وهي قصة موجعة مستوحاة من الوضع في غزة. ونشتم رائحة الموت في القصة التي وردت مباشرة بعدها تحت عنوان (أزهار الحرب).
ويظهر الموت في وضع مغاير في صفحة 31 في قصة (معرض صور) في شكل طفل صغير لفظه البحر .وفي قصة (تحت الأنقاض) بأن شبح الموت نتيجة زلزال مدمر . وفي صفحة 38 وتحديدا في قصة (قصف) استعرض الكاتب جثة ميت يتمنى أن تدفن أطرافه المبعثرة في قبر واحد.

والموت حضر بقوة في قصة (اللقاء الأخير) التي انتهت بقفلة حزينة جاء فيها : ” وبصمت جنائزي لبست معطفه الأسود وخرجت في اتجاه المطار , لم يكن بوسعها مغادرة البلاد قبل أن تحيي أربعينية حبيبها …”.
كما نعثر على شكل آخر من أشكال الموت في صفحة 97 في قصة (موت سريري ) في حضور لحظة يأس قاتمة تكون الرغبة في الإنتحار . ويحضر الموت كذلك في صفحة 106 وفي شكل آخر في قصة (سكتة قلبية) بحيث يحدث ما لم يكن في الحسبان يموت الزوج السليم فجأة في حضور زوجته العليلة التي كانت تتوقع نهايته في أية لحظة . ولعلكم لاحظتم حضور الموت بأشكاله المختلفة وبكثافة في أغلب نصوص هذه الأخطاء الجليلة التي ترتكب هنا وهناك وفي كل لحظة من لحظات يوم طويل.

ولأن القصة القصيرة جدا هي صياغة اليومي أدبا.فهذه المجموعة إضافة إلى موضوع الموت لا تخلو من مواضيع أخرى قريبة جدا منا بحيث نجد البيت والمائدة والمشفى وقرية النساء والماخور والرسامة والصياد والأم العزباء والأرملة والمسعفة والممثل والممثلة والموظف والحذاء والزهايمر والكورونا والطلاق والخطوبة وعيد الميلاد والولادة وشهرزاد والزعيم ومعرض الصور ويوميات طالب. وكل هذه المواضيع جسدها الكاتب في قصص قصيرة جدا ,نطقت باختزال كبير,وبكثافة أكبر بهذا الذي نعيش به كيومي ,وقد نخشى أن يتفتت ويتبعثر ويغيب و يصمت إلى الأبد .وهنا يأتي دورالمبدع لينقذ الموقف ويمنع هذا اليومي من الاندثار.

بين الحقيقة والخيال

وبحرفية المتمكن من أدواته الفنية الخاصة بالقصيرة جدا قدم لنا الكاتب هذه المجموعة من الحكايات الموزعة بين الحقيقة والخيال، وجعل القارئ يشاركه فيما يسجل ويتمثل ويضمر من أحداث. ويرتكب معه أخطاءه الجليلة وقد توهم هذه العملية أغلب القراء بحقيقة هذه القصص وبواقعيتها وتجعلهم ينظرون إلى هذا الواقع المتخيل كأنه حقيقة ثابتة وملموسة.
والكاتب في هذه القصص بان قريبا جدا من القارئ حتى أن هذا الأخير وجد نفسه طرفا مشاركا في تأثيث فضاء القصة بالرغم من تكثيفها وضيق حجمها. وتعدد معاني الألفاظ المشكلة لها، وقد خصه بقصة ختم بها مجموعته واختار لها من العناوين (رجع صدى) وهو يأمل من خلالها في التعرف على أراء وانطباعات القراء حول قصصه فقد يبتهج كثيرا بتفاعلهم ويأخذ ملاحظاتهم مأخذ الجد ولن يتوانى في كشف المستور في كل أخطائه التي لم يرتكبها بعد, أقصد قصصه القادمة والمشحونة بكل 
المضمرات التي تظهر على الصفحات ابتداء من العتبات الموازية لمتن النصوص وهي على التوالي عتبة العنوان وعتبة الغلاف وعتبة الحواشي الجانبية التي تلفت انتباه المتلقي بصفة خاصة . وكل هذه المضمرات توفرت بامتياز في (أخطاء جليلة).

اختلاف بين المضمون والشكل

بقي أن أشير في ختام هذا السفر عبر كل النصوص القصصية الواردة في هذه المجموعة بأنها اختلفت في المضمون والشكل، مضمون اهتم باليومي في حياة الإنسان . وشكل توزع بين الطول والقصر ولم يتجاوز أحد ركائز القصيرة جدا. وقد وردت أقصر قصة في صفحة 17 تحت عنوان (غارة) جاء فيها :
“..الطفل الذي كان يحتمي بحضن أمه كلما أرعبه دوي الرعد أضاع طريق الدفء، هذه الليلة، لقد كان القصف عنيفا وسيارة الإسعاف باردة …”.كما وردت أطول قصة في صفحة 81 تحت عنوان ( اللقاء الأخير) وقد شملت صفحة كاملة، وفيها اختزل الكاتب نهاية علاقة بين حبيبين امتزج فيها الفرح بالحزن في بعض كلمات.
وانكشف الخفي والمبطن خلف القص والحكايات ووصلت الرسالة إلى القارئ كما الشأن في كل قصص المجموعة.


* شاعر / سوسة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى