صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ انهيار منظومة القيّم، غياب القدوات وفقدان المرجعيات وراء تفشي العنف

slama
كتب: نوفل سلامة

المجتمع التونسي في هذا السياق المجتمعي الذي يعيشه وهذا العالم المحكوم بالمتغيّرات الكثيرة والتحوّلات العميقة، هو من المجتمعات المتوترة و المأزومة والقلقة والتي فقدت هدوءها بسبب ما يشقها ويأسرها من أمراض اجتماعية تحولت مع الوقت إلى ظواهر خطيرة تهدد البناء المجتمعي بكامله…

ظاهرة الجريمة

ومن هذه الأمراض المتعبة للجميع تفشي ظاهرة الجريمة وتوسع دائرة الاعتداءات الخطيرة، وتمدد السلوك العنيف والقتل الذي ينمّ على شخصية متشنجة وبيئة اجتماعية غير متوازنة، بعد أن زحفت الجريمة حتى وصلت إلى المؤسسات التربوية والأماكن التي خلنا أنها محصّنة منها وبعيدة على مؤثراتها وغير معنية بها…

في إحصائية حديثة أعدها مؤخرا المرصد الوطني للتربية كشفت أرقامها أن العنف في الوسط المدرسي في طريقه إلى التمكّن وهو يعرف في السنوات الأخيرة توسعا مخيفا لينتقل من مجرد أفعال معزولة وحالة فردية إلى ظاهرة وواقع وحقيقة ووضعية ثابتة ومستمرة تحتاج إلى معالجة عاجلة والتجنّد لوقف هذا الخطر الداهم حيث كشفت الدراسة أن العنف في المدارس قد زاد بين سنة 2023 وسنة 2024 بنسبة 19 بالمائة وأن المدارس الإعدادية تستوعب وتحتضن حوالي 85 بالمائة من مظاهر العنف وأن حوالي 40 بالمائة من السلوك العنيف الذي يؤدي إلى ارتكاب جرائم خطرة يأتيه تلامذة السنة السابعة أساسي ويرتكبه مراهقون سنهم لم يتجاوز 15 سنة بعد..

سلوك عنيف

اليوم اتضح أن السلوك العنيف المؤدي إلى ارتكاب جرائم قتل وحصول اعتداءات خطيرة لم يعد تردعه أو توقفه كثرة التشريعات وسن المزيد من القوانين، وأن الظاهرة قد خرجت وتجاوزت المقاربة القانونية والمعالجة الأمنية القضائية إلى ضرورة البحث عن حلول أخرى تركز على معرفة الأسباب المباشرة المؤدية الى تفاقم العنف في المجتمع حتى وصل إلى المدارس والفضاءات التربوية..
ومن هذه الأسباب إغراق المجتمع بالمخدرات وترويج وبيع الكحول واستهلاك المواد المخدرة، حيث كشفت كل الدراسات التي أجريت على ظاهرة انتشار العنف في المجتمع وكل الاحصائيات والأرقام المتعلقة بالحالة المدرسية تفيد إفادة قاطعة أن المخدرات والكحول هما من الأسباب المباشرة لتنامي ظاهرة القتل والعنف الخطير، وأن هناك سلوك منحرف وخلل فادح في المنظومة التربوية التي لم تقدر أن تجنب الفضاء المدرسي من أن يتحول إلى فضاء حاضن للمخدرات ووسط يعشّش فيه السلوك المنحرف ودائرة خارجة عن السيطرة ومتحررة من كل انضباط مجتمعي أو قانوني.

ثقافة التفاهة و الرداءة

المخدرات والكحول والعنف اللفظي وما تبثه بعض وسائل الإعلام من سموم ومن تلوث سمعي وبصري، وما خضع له الجيل الحالي من الشباب والأطفال من هرسلة إعلامية وتوجيه وصناعة من خلال نشر ثقافة التفاهة و الرداءة وتدني مستوى المواضيع والقضايا التي تبثها القنوات التلفزية والإذاعات التي لا يعنيها إلا الإثارة ونوعية الحوارات التي تركز عليها واللغة المستعملة ونوعية الضيوف التي يتم استدعاؤهم في هذه البرامج، ويتم تقديمهم على أنهم من ‘المؤثرين’ ومن ‘صنّاع المحتوى’ ومن المبدعين في شتى المجالات مما خلق حالة من التطبيع مع الجريمة والتعايش مع الانحراف والتساهل مع تناول المخدرات والقبول بالسلوك العنيف وتقديمه على أنه تعبيرة من التعبيرات الصحية في المجتمع الذي يعرف تحولا وحركية وحيوية في سياق عالمي يعرف هو الآخر تحولات في سلوك أفراده.

إعادة ضبط المجتمع

كل ذلك وارد وصحيح ويحتاج إلى تدخل الدولة وأجهزتها لإعادة ضبط المجتمع وإعادة الحياة المدرسية إلى وضعها الطبيعي ويحتاج وقفة حازمة للقضاء على أباطرة المخدرات والشبكات التي تنشط في تجارة المواد المخدرة ترويجا وبيعا واستهلاكا وخاصة العصابات التي تتولى إدخال هذه المواد إلى بلادنا، ويحتاج تنقية المشهد السمعي والبصري من كل الفيروسات والخيارات المضللة التي ساهمت في خلق حالة من الفوضى في المجتمع وحالة من الانحلال والضياع والشرود المؤدي إلى تدميره..
ولكن الأمر الذي يغفل الحديث عنه ويتم تجاهله هو أن أصل المشكل وسبب ظهور الظاهرة وانتشارها في انهيار منظومة القيم والأخلاق في المجتمع وتحلل أفراده من كل التزام بالمعايير والنماذج التي تحدد نوعية السلوك السوي وغياب القدرات الجيدة والرموز التي توجه ويتم احترامها وتقديرها وفقدان المرجعيات في حياة شباب اليوم…

فالأسرة لم تعد هي من يؤثر في سلوك الأبناء والآباء لم يعد لهم حضور في حياتهم وانحصر دورهم في السهر على توفير الحاجيات المادية لا غير أما التوجيه والنصح والتربية فقد خرجت عن سيطرة العائلة.

المدرسة فقدت دورها

والمدرسة هي الأخرى فقدت دورها ومهمتها التي وجدت من أجلها وتخلت عن مهمة التربية واكتفت بالتعليم وضمان إتمام السنة الدراسية واتمام المقرر الدراسي مما خلق حالة من القطيعة بين المربي والتلميذ الذي بات ينظر إلى المعلم والمدرس مجرد درس وورقة امتحان وعدد يحتاجه والدولة هي الأخرى لم تعد علاقتها جيدة بمواطنيها، وانعكس ذلك على علاقتها بالشباب المدرسي المراهق الذي أصبح ينظر إلى الدولة جهاز قمع وضبط وعنف ويكفي لإلقاء نظرة على حالة ملاعبنا وما يحدث في المدرجات أو ما يعرف بـ ‘جمهور الفيراج’ بمناسبة إجراء مقابلة رياضية لنقف على حجم الغضب وكمية العنف…

أزمة متشعّبة

كل هذا يكشف عن وجود أزمة في المجتمع التونسي مركبة ومتداخلة ومتشعبة عناصرها مختلفة وأسبابها كثيرة ولكن الواضح أن أزمة المجتمع التونسي هي أزمة في قيمه التي فقدها وأزمة في منظومة أخلاقه التي تم إضعافها وأزمة في قدواته التي تم تشويهها وإبعادها من التأثير وأزمة في مرجعياته ونماذج إرشاده التي تم إبدالها بأخرى، هي من تسبب في كل هذا الخراب والدمار الذي يعرفه المجتمع ويتألم له الجميع..
من أجل ذلك كان المدخل الوحيد للإصلاح والمقاربة الصحيحة في المعالجة هي التي تركز على استعادة المجتمع والدولة لمنظومة القيم والأخلاق واستعادة القدوات والرموز حتى تلعب دورها الحقيقي واسترجاع المرجعيات الأصيلة لتؤطر الناشئة ومن هذه المرجعيات المربي والمدرس الذي يتعيّن أن نعيد له دوره المركزي الذي تقوم عليه العملية التربوية برمتها، وهو دور التربية مع التعليم فتعليم من دون تربية وتوجيه هو تعليم خاوي فارغ جسد من دون روح…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى