صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: المسقطون من التاريخ وأهمية إعادة تأثيث الذاكرة الوطنية وكتابة السردية الجامعة

slama
كتب: نوفل سلامة

اليوم بات من الواضح أن الشعب التونسي يعاني من الكثير من المعوقات والأعطاب التي تحُول دون انطلاقته نحو الرقي والتقدم وبناء نهضة معاصرة وواقعا جديدا يضاهي ما تعيشه الكثير من الشعوب المتقدمة..

واليوم بات من المؤكد أن الشعب التونسي تشقُه الكثير من الخلافات وهو متنازع في الكثير من القضايا كبيرها وصغيرها، بل لعله من الشعوب القليلة التي لا يتفق أفراده على أي قضية من القضايا المصيرية حتى ذهب الرأي إلى أنه ليس هناك اليوم قضية واحدة تعرف اتفاقا وإجماعا وطنيا فكل القضايا تقريبا تعرف اختلافا وعدم اتفاق حولها…

اختلاف حادّ

ولعل المسألة التاريخية وموضوع التاريخ الوطني والسردية المعتمدة لتاريخ تونس المعاصر من أكثر القضايا التي تعرف اختلافا حادا حولها ومن القضايا التي تفرّق الشعب وتمزقه والحال أن تاريخ البلاد وتاريخ الشعب والوطن وجب أن يكون محل اجماع وتوافق، من منطلق أن الشعوب تبني قوتها ومناعتها ومصيرها من خلال تاريخها الموحد ومن خلال ذاكرتها الجماعية …

ومن خلال سردية متفق عليها تكون جامعة وتحقق الانسجام والوحدة المطلوبة لبناء دولة قوية وشعب متماسك تسمح بالانطلاق نحو معالجة القضايا المصيرية الكبرى من غذاء وتنمية وتعليم واقتصاد وعلم ومعرفة، وكل القضايا الحضارية الأخرى فمن دون شعب موحد حول سردية واحدة لتاريخه وثقافته وأحداثه المؤثرة لا يمكن تحقيق الإقلاع والريادة والتفوق في عالم لا مكان فيه إلا للقوي، والخوف أن غياب الاتفاق حول تاريخ جامع وعدم التوصل الى بناء سردية وذاكرة جامعة مانعة من الانقسام والتشظي أن تتواصل الهشاشة، ويدوم الانقسام ويصبح الحال قابلا لانقسامات أخرى لذلك كانت السردية التاريخية الجامعة والمتفق عليها هي إحدى عوامل التوازن في قوة المجتمعات و الدول.

خطورة تعدّد السرديات

وهنا تأتي إشارتنا إلى خطورة تعدد السرديات في تاريخ الشعوب وأهمية بلورة ذاكرة وطنية واحدة تجد فيها كل الفئات الاجتماعية نفسها ممثلة وكل الرموز حاضرة وكل الأحداث مسجلة وخطورة كتابة قصة الشعوب برؤية أحادية تقصي الكثير من الفاعلين ويتم تقديمها على أنها هي السردية الرسمية المعتمدة والسردية الوحيدة المقبولة..

سردية تاريخية معبّرة

ضرورة الانتباه في بناء سردية تاريخية تكون مُعبرة بقدر كبير عن كل التاريخ الذي حصل وكل أحداثه وكل الفاعلين فيه وكل الذين أثروا في محطاته حتى وإن لزم الأمر إعادة النظر وإعادة القراءة والكتابة لما هو معتمد من التاريخ الذي كتب في فترة زمنية برؤية المنتصر والمتفوق ورجل السياسة ومن يملك السلطة لأهمية تقاسم ما حدث وما مرّ بنا وما أنجزناه وما خسرناه في تحقيق تماسك الشعب وبناء لحمته التي نحتاجها في صناعة المصير المشترك وفي مواجهة ما ينتظرنا من قضايا وتحديات مصيرية…

تاريخ مضاد

ومن هنا يأتي حديثنا عن جانب من الشعب الذي تم تهميشه أو نسيانه أو اقصاؤه أو تغييبه عند كتابة تاريخنا المعاصر وذاكرتنا الوطنية وحديثنا عن الفئات المهشمة التي أسقطتها السردية الرسمية وتعمد من كتب التاريخ الوطني التغافل عنها وبقيت حاضرة في وجدان الأفراد وفي حكاياتهم الشفوية وسجلتها أغانيهم وقصصهم المتداولة وأشعارهم، وهي مادة تاريخية تشكل تاريخا آخر وتاريخا مضادا للتاريخ الرسمي أبطاله رموز وأسماء وشخصيات لا نجدها في التاريخ المعتمد غير أنها تعتبر جزءا من ذاكرتنا وتاريخنا، ومن بين هؤلاء المهمشين الذين سقطوا عمدا أو عن غير قصد من التاريخ الرسمي ‘الباندية’ أو شخصية الباندي المعبر عنه بالصعلوك أو الأفراد الذين يعيشون على هامش السلطة والمتمردون عنها، وهي جماعة ظهرت خلال فترة الاستعمار ومرحلة الاحتلال الفرنسي لتونس غير أن الذاكرة الوطنية قد همشتّهم أو في أحسن الأحوال قد قللت من حضورهم وذكرتهم بصفة عرضية من دون إبراز لدورهم في تحرير البلاد وجهودهم في مقاومة المستعمر…

صولات وجولات

حيث يذكر التاريخ الشفوي أن الكثير منهم قد ترك الصعلكة وتحول إلى مقاومة للمحتل وترك العربدة وحمل السلاح وانضم الى جماعة ‘الفلاقة’ وكانت لهم بطولات وصولات وجولات مع الفرنسيين على غرار ‘عبد الله الغول’ من قبيلة المرازيق الذي يعتبر أول باندي تحول إلى مقاوم إبان ثورة المرازيق التي اندلعت بين سنة 1943 وسنة 1944 وهو ابن المقاوم عمر الغول الذي أعدمته سلطة الاحتلال سنة 1924 والكثير من الباندية الذين ظهروا خلال تلك الفترة الاستعمارية وتأثروا بـ ‘الباندية’ المالطيين والإيطاليين ثم اعتزلوا الانحراف ووفروا مجهودهم في تحرير البلاد ومقاومة المستعمر وهي فئة مهمشة ظهرت في كامل تراب الجمهورية لنفس الأسباب التي صنعت منهم خارجين عن القانون، ولم توجد فقط في الحواضر وخاصة تونس العاصمة حيث يذكر التاريخ الشفوي الكثير من أسماء ‘الباندية’ في الجهات الداخلية عرفت بنهجها المتمرد على السلطة ثم تحوّلت إلى أبطال و’فلاقة’ في محاربة المستعمر تعرض إليهم أستاذ التاريخ المعاصر فتحي ليسير في كتابه ‘من الصعلكة الشريفة الى البطولة الوطنية’ و هيكل الحزقي في كتابه ‘أجواد وأوغاد قصة الباندي التونسي’ الصادر حديثا…

إشكال كبير

الإشكال الكبير الذي يعترضنا في ما نطلبه من ضرورة صياغة تاريخ جامع وذاكرة متفق عليها للشعب والصعوبة التي نجدها في مسار الاتفاق حول سردية وحيدة لتاريخنا ولا سرديات متنازعة في قدرتنا وجرأتنا على إعادة بناء الماضي من وجهة نظر الحاضر وإعادة التفكير فيما يقوله المؤرخون من أن التاريخ الذي يصنع الذاكرة الوطنية ليس مجرد تجميع للأحداث ولا يقتصر على عدم نسيان أي حدث مهما كان صغيرا، وإنّما التاريخ هو عملية تأويل جماعي للزمن وعملية توليف وتحليل لما حدث في حقبة ومرحلة من التاريخ للوصول الى بناء سردية معقولة ومقبولة وخلال هذه العملية التأويلية يتم التخلي عن أحداث والاهتمام بأخرى ويتم منح بعض اللحظات طابعا رمزيا في حين تقصى ويتم التخلي عن غيرها وفي هذه العملية التأويلية يتم الاهتمام بأحداث بعينها لكون الذي يكتب التاريخ يراها ذات أهمية ويترك أخرى لعدم أهميتها عنده ومن خلال ذلك يتم ترتيب وتوزيع الأدوار فيها بما يخدم هوية يراد لها أن تكون جامعة وهذا يعني أن المجتمع وفق هذه الرؤية في كتابة التاريخ يمكن أن يمتلك ذاكرة جمعية تتجاوز ذاكرة الفرد وتعيش أكثر منه وبالتالي فإن ما يراه الفرد مهما في تاريخه قد لا يكون كذلك من وجهة نظر المجموعة التي لا تهتم بقصة الأفراد بقدر ما يهمها قصة المجموعة ولكن أليست قصة الجماعة يصنعها الافراد؟

قضية المهمشين والمنسيين

كل الإشكال هنا أن قضية المهمشين والمنسيين والمتروكين الذين اقصاهم التاريخ الرسمي مرتبط بنظرة كاتب التاريخ للتاريخ ورؤيته لكيفية تشكله ونظرته للأحداث الأكثر تأثيرا في سرديته الجامعة وهي كلها خيارات وتقديرات ذاتية لذلك يعاب على الرئيس الحبيب بورقيبة مثلا حديثه عن ‘الباندية’ واعتبارهم في أحاديثه جماعة مجرمة ومن حثالة القوم وكان يزعجه وجود أبطال آخرين غيره في الأحياء الشعبية و يقلقه خاصة ما يسمعه من توفر حاضنة شعبية لهذه الفئة من الشعب التي تحظى بتقدير كبير عند الناس لذلك حاربها بعد الاستقلال وضيق عليها حياتها ونفس النظرة نجدها عنده بالنسبة للمقاومين الذين لم يكن مرتاحا لسلوكهم وتمردهم أحيانا حيث لم يخف ازدرائه واحتقاره لهم، على ما ذكره السياسي الحبيب لسود في شهادته المسجلة في المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية وهذا ربما ما يفسر المعاملة السيئة التي عومل بها الكثير منهم بعد الاستقلال حيث يذكر فتحي ليسير أن بورقيبة لم يكن مرتاحا لهذه الفئة من الشعب بعد أن توافقت رؤيتها مع رؤية صالح بن يوسف في موضوع الاستقلال ومساندتهم له في مسألة الخلاف حول المطالبة بالاستقلال الداخلي واعتبار رؤية بورقيبة للاستقلال رؤية ناقصة.

آن الأوان

ما أردنا قوله هو أنه حان الأوان لحسم مسألة الخلاف حول السردية الوطنية الجامعة وتأثيث ذاكرة تاريخية متفق عليها بقدر كبير من الإجماع الوطني وحان الوقت للحسم في كل أسئلة التاريخ المتعبة ومنها سؤال المهمّش والمقصي والمغيب والمنسي من قصة تاريخنا التونسي. وحان الوقت لنتفق حول المادة التاريخية التي يتعين أن تكون حاضرة في هذه السردية والحسم في سؤال هل من المطلوب في الكتابة التاريخية الجديدة أن يكون الجميع حاضرين وكل الأحداث موجودة ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى