صالون الصريح

رشيد البكاي يكتب/ مارس 2023 مارس 2025: قراءة في المنجز الثقافي لولاية بنزرت

Rechid Bakkay
كتب: رشيد البكاي *

بنهاية شهر مارس الماضي تكون قد مرّت سنتان على تعيين المندوب الثقافي الحالي لولاية بنزرت، سنتان كنت خلالها كفاعل في المشهد ومتابع له، أراوح نفسي بين متفائل ومتشائم … حتى غدوت في بعض الأحيان (متشائلا) يضيق صدري ولا ينطلق لساني…

ممنيا النفس بتغيير قد يحدث يوما ما في أساليب الاتصال وطرق العمل واستراتيجيات الفعل الثقافي حتى يقطع مع السائد اليومي المستهلك ويتطور الى برنامج أرحب وأوضح وأرقى يستند الى مشروع ثقافي متكامل يتولد عن الحوار الصريح والبناء، ويرتكن الى الخصائص والمميزات ويعتمد على الطاقات الحية البارزة والكامنة القادرة على الابتكار والتجديد والتحليق عاليا في سماء الإبداع.. متى توفرت المناخات الصافية والوسائل الداعمة المحفزة والمحاضن العصرية المتخصصة ذات الأهداف الواضحة والامكانيات اللازمة.

تحريك السواكن

لكن وبعد هذه الفترة من الزمن التي مرت دون المأمول، رأيت من واجبي أن أدلي برأي قد يسهم في تحريك السواكن وإثارة الحوار الذي أراه ضروريا اليوم حول حياتنا الثقافية الجهوية بولاية بنزرت ودور المؤسسة الرسمية فيها.. وهو دور استراتيجي، محوري، حيوي لا غنى عنه في النهوض بهذا القطاع الذي بقي يراوح مكانة منذ مدة ليست بالقصيرة حتى خُيّل لبعضهم أننا تطبعنا مع الوضع وقبلنا بالواقع ورضينا بالدون… واكتفينا بما حددته لنا مندوبيتنا الموقرة من أطباق جاهزة وأنشطة معلبة ليس لنا فيها قول ولا رأي..

المشروع.. المشروع

أنا أتساءل كما يتساءل المثقفون في جهتي.. هل لنا اليوم مشروع ثقافي محددة معالمه وأهدافه وامكانيات إنجازه.. أجيب فأقول … لا … ليس لنا مشروع بل لنا مجموعة أنشطة مختلفة يومية أو موسمية تسهر المندوبية الجهوية للثقافة على إنجازها دوريا عبر مؤسساتها المنتشرة مثل دور الثقافة والمكتبات وغيرها وهي موكولة الى الموظفين فحسب.. وهنا يطرح السؤال أين هم المثقفون والمبدعون أين هو المجتمع الثقافي من المشاركة في التفكير والتنظير ورسم التصورات والمناهج والإسهام في الإنجاز.

a

أذكر أنني شخصيا كرئيس لمنتدى (مقاصد) للثقافة والإعلام ببنزرت كنت دعوت السيد المندوب بعد شهرين من اقتعاده المنصب وتحديدا في جوان 2023 إلى حوار مع مثقفي الجهة سادته مشاعر التفاؤل والصراحة والقلوب والأيادي المفتوحة للعمل معا نحو مشهد ثقافي جهوي واضح المرامي والأهداف. ووعد خيرا .. ولكنه بعد ذلك انطوى على نفسه ولم يفعل.. بل لم يجدد فرص الحوار لا قطاعيا ولا شموليا وأكاد أجزم أنه وبعد عامين لم يستقبل في مكتبه من كتّاب وفناني ومبدعي الجهة الا قليلهم وهم يعدون بالمئات في الأدب والموسيقى والمسرح والفن التشكيلي والسينما والتراث الشعبي حتى أن اللقاءات التي دارت مع بعضهم تحت يافطة (حوارات ثقافية) التي دعت إليها الوزارة .. بقيت مُخرجاتها حبرا على ورق ولم تعانق طموحات الشباب الذي شارك فيها.. فأصبحت ربما من قبيل (فرغ قلبك)..

كان حلما فهوى..

وهنا يطرح السؤال عن الدور الموكول للمندوب الثقافي.. هل هو دور الموظف البيروقراطي الذي يُسيّر فريقا من المنظورين بالاستناد الى حزمة تراتيب ومناشير وأوامر.. أم هو منشط ومنسق ومنفذ لما تحدده وزارته من برامج أم هو أنموذج آخر ومثال متطور للمفكر والمبدع والرجل الاستراتيجي الذي يحمل هموم المثقف في الجهة مرجع النظر وهذا في الحقيقة ما نرنو إليه.. فالمندوب كما نراه هو ذاك الذي يترك المسائل اليومية والأنشطة العادية الى مساعديه في المندوبية وهم كُثر وبرتب عالية ما شاء الله والى مديري دور الثقافة والمكتبات وغيرها ويتفرغ للمسائل الكبرى.
ألم يعلم السيد المندوب أن مساحة من الأرض في قلب مدينة بنزرت أُسندت
منذ عشرين سنة الى وزارة الثقافة لتقيم عليها مركبا ثقافيا.. ومركزا إداريا.. ولكن شيئا من ذلك لم يتم لحد الآن.. فماذا فعل السيد المندوب؟
• ألم يرى أن إدارة المندوبية الجهوية ذاتها التي بنيت عشوائيا على جزء من كنيسة النصارى ببنزرت منذ حوالي خمسين سنة قد ضاقت بموظفيها وأضحت غير وظيفية بالمرة فهل فكر في البديل؟
• حلت في السنة الماضية مئوية المسرح ببنزرت (1924-2024) تاريخ جمعية النهضة التمثيلية ببنزرت التي تعتبر الآن أقدم جمعية مسرحية ناشطة في تونس لكن المندوبية أهدرت فرصة الاحتفال بهذا الحدث في حينه فضلا عن توظيفه لتقييم المنجز المسرحي التراكمي خلال قرن من الزمان ثم البناء عليه، أسأل لماذا؟
• أما علم السيد المندوب أن جهة بنزرت تفتقر إلى متحف للعادات والتقاليد وهي الثرية بتراثها المادي واللامادي وقد عبرنا له أكثر من مرة عن مطمحنا هذا كذلك الشأن بالنسبة لرواق الفنون التشكيلية فماذا تراه فعل؟
• هل تفطن السيد المندوب الى أن مدينة الجلاء ليس بها متحف لمعركة الجلاء يحفظ الذاكرة الوطنية ويعلّم الأجيال الصاعدة كيفية الاعتزاز بتاريخها و بنضالات آبائها وأجدادها..
• في بنزرت وغيرها من مدن الولاية لا يوجد مسلك ثقافي محدد رغم كثرة المعالم التاريخية والشواهد التراثية.. مدن عتيقة- أسوار – مساجد اسلامية – كنائس كاثوليكية وبروتستانتية ويهودية – زوايا – مواقع نوميدية بربرية – متحف موقعي بأوتيك – فضاء مائي فينيقي- مقابر عتيقة لديانات ووقائع مختلفة – مواقع لمعارك من الحرب العالمية الثانية – حديقة إشكل العالمية – متحف الجالية الروسية – متحف الأسماك النادرة
لكن الزائر الى الجهة لا يعرفها ولا يرتادها إلا قليلا لغياب المسلك العلمي المنظم فهل فكرت المندوبية يوما في ذلك؟
• البحث عن الخصوصية في العمل الثقافي غير كاف وكنا طرحنا فكرة جعل بنزرت مدينة للثقافة المتوسطية تبنى عليها عديد التصورات ذات البعد الإقليمي والدولي لكن لا تفاعل.
• في جهة أسماء أعلام.. مثل الشيخ خميس ترنان الذي كانت وزارة الثقافة تقيم تحت اسمه ملتقى عربيا لكنه قُبر ولم يعد… حتى رضينا من الغنيمة بالإياب، أضف إليه الشيخ ادريس الشريف وعلي الخماسي الذي أطلقوا اسمه على المكتبة الجهوية دون أن يُفّعلوه – محجوب بن ميلاد وحسن قاره بيبان والعربي النجار وحسيبة رشدي وعلي بوشوشة – وعمر بن الشيخ – ومحمد قلوز- ومحمد الهادي المرنيصي وصالح الدريدي – وفيصل رجيبة – وعلي عيسى والمنوبي بوصندل وغيرهم …
• هل توجد في المندوبية تراجم عن هؤلاء وعن أعمالهم.. هل فكروا في توظيف إرثهم للارتقاء بالمنجز الثقافي جهويا ووطنيا لا أعتقد ذلك؟
• للبلديات دور مفصلي في العملية الثقافية كذلك الشأن بالنسبة للجمعيات مثل جمعية صيانة المدينة فإلى أي مدى رسمت المندوبية علاقات شراكة مع بلديات الجهة وجمعياتها لاستثمار ما لديها من طاقات مادية وبشرية هائلة لإحداث النقلة النوعية في المؤسسات والبرامج، لست أدري.
• في مدينة بنزرت يوجد معلم تاريخي واستراتيجي ومعماري يشتمل على مسرح وفضاء رحب يتسع لحوالي ألف ومائتي مقعد ينتصب فوق ربوة عالية مطلة على المدينة اسمه قصر المؤتمرات.
• .. هل فكرت المندوبية بالتعاون مع الهياكل ذات العلاقة لإخراجه من عزلته وسلبيته وهو معلم ثقافي بامتياز، لماذا لم يتم ذلك أسأل وأريد أن أفهم؟
• في اعتقادي أن المندوب الناجح هو ذاك الذي لا يكتفي بالعمل الإداري اليومي او بالبروتوكل أو بحضور الجلسات الرسمية أو إرضاء بعض الثقفوت والعرابنية بل هو ذاك الذي يمتلك تصورا ويحمل مشروعا ويهتم بثقافة بناء الإنسان أكثر من ثقافة الترفيه ولا يهتم مقابل ذلك بصغائر الأمور ويرتقي فوق التكتلات والمصالح الضيّقة ـ وينأى بنفسه عن الصراعات والشبهات … فهو على ذمة كافة المثقفين يتعامل معهم سواسية بقدر عطاءاتهم وجدية أعمالهم ووضوح رؤياهم..
وعلى هذا الأساس وبذلك (البروفيل) نريد مندوبنا الثقافي في ولاية بنزرت
وحيى على العمل لما فيه الخير والصلاح

* إعلامي وناشط ثقافي ببنزرت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى