صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب/ صالح القرمادي (1933-1982): صاحب العبارة التي طبقت الآفاق ‘اللّحمة الحيّة’

issa bakouche
كتب: عيسى البكوش

كثيرا ما إنْ ذكرت عبارة شائعة إلا وذُكر قائلها.. خذ مثلا ‘المادّة الشخمة’ التي كانت ترد على لسان الرئيس بورقيبة، و’تحريك السواكن’ للفيلسوف محجوب بن ميلاد، وكذلك الشأن بالنسبة لعبارة ‘اللّحمة الحيّة’ لصاحبها أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية المغفور له صالح القرمادي الذي ولد بربط الحلفاوين بمدينة تونس في الثاني عشر من شهر أفريل من سنة 1933.

ولعلّ موطن الولادة هو محدّد للغة أو للغات التي كان يعبّر من خلالها الفقيد على ما يلحظه ويشعر به.

لوّى ‘عنكوش’ البلاغة

يقول عنه زميله المنعّم توفيق بكار أستاذ الأجيال في الجامعة في تقديم لكتاب “اللّحمة الحيّة”: ” لقد لوّى القرمادي ‘عنكوش’ البلاغة بيدين خشنتين فهو يحدّثك بلغة يعرب ولغة الحلفاوين ويقطّع “المالوف” بـ’العروبي’ وإنّ عباراته العاميّة لتتسلّق في الكلام الفصيح”.
زاول القرمادي دراسته الابتدائية بمدارس ثلاث: الحلفاوين وباب الجزيرة ومدرسة القيتوني بنهج القنطرة.
جاء في الموسوعة التونسية: ‘إلى جانب دراسته فقد أودع حسب التقاليد التربوية في ذلك العهد عند أحد نجّارة الحي بنهج سيدي محرز’.

في المدرسة الصادقية

التحق سنة 1946 بالمدرسة الصادقية إلى حين تحصيله سنة 1953 على شهادة الباكالوريا ثمّ سافر بعد ذلك إلى بوردو في فرنسا حتى تحصّل في جامعتها على عدّة شهائد في العربية والإنقليزية، وانتقل بعدها إلى باريس حيث أعدّ بنجاح سنة 1958 مناظرة التبريز للغة العربية، ثمّ قفل عائدا إلى أرض الوطن وانضمّ إلى هيكل الأساتذة المحاضرين بكلية الآداب وإلى مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية.

شاعر أيضا

يقول عنه زميله الآخر المنعّم منجي الشملي في كتابه “في الثقافة التونسية” نشر دار الغرب الإسلامي 1985: ‘كانت تنقاد له اللغة العربيّة طوعا لا كرها، وكذلك كان يصنع مع اللغة الفرنسية، وكان يتقن اللغة الأنقليزية وقد درسها بالجامعة وكان يستمتع باللاتينية واليونانية وقد درسهما في الصادقيّة وكان يستعمل لغات أخرى تعلمها قطفا أو زاولها تخاطبا، أفلا يكون بعد هذا من ألمع علماء اللسانيات”.
كان إلى جانب ذلك يقرض الشعر ولكن أي شعر !.
يقول توفيق بكار وهو أعلم الناس بالشعر والشعراء: ” إنّ شعر القرمادي لا يحلّق بك بل يأبى إلا أن يقطع عليك سبيل التحليق فيشدّك إلى الأرض بسلاسل من حديد أو يهبط به إلى ما تحته”.
وهذه شذرات من نظمه في مقطوعة مهداة إلى بول إيلوار شاعر الحرية:
إن كان في القفص بلبل نواح
فجميع بلابل الدنيا في خطر
وإن كان في الغابة شحرور صدّاح
فهو شحرور الحريّة
وإن كان في البلدة خبز فوّاح
فالشعب آكله
وهذه أخرى تدلّ بكل واقعية عن معدن الرجل:
” إذا متّ مرّة بينكم
لا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين
فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض
ولا تذروا على قبري حبوب التين
لتأكلها طيور السماء
فالأحياء أولى بها
ولا تزوروني في كلّ سنة مرّة
فليس لديّ ما به أستقبلكم
ولا تقسموا برحمتي وأنتم صادقون
ولا حتى وأنتم كاذبون
فصدقكم وكذبكم عندي سواء
ورحمتي لا دخل لكم فيها “.

مجلة ‘التجديد’

لم يكتف القرمادي بالتدريس والبحث وقرض الشعر بل كان من فصيلة المثقف العضوي التي بادرت سنة 1961 بإصدار مجلة “التجديد” وهي متركبة بالأساس من أربعة: منجي الشملي وعبد القادر المهيري والشاذلي الفيتوري وصالح القرمادي، ثمّ انضمّ إليهم توفيق بكار والبشير التركي وعبد المجيد ذويب ومحمد العواني.
يقول منجي الشملي في هذا الصدد: ” كان القرمادي في مجلة “التجديد” حريصا على التعريف بالأدب التونسي ورجالاته ولا أدلّ على ذلك من المحاضرة القيّمة التي ألقاها على منبر دار الجمعيات الثقافية في نوفمبر 1961 وبادرت “التجديد” بنشرها.

رحل القرمادي

توفي صاحب “اللّحمة الحيّة” يوم الثلاثاء 16 مارس 1982 ولقد كتب منجي الشملي متأثرا في العدد 21 من حوليات الجامعة التونسية: “بموته فقدنا أخا وفيّا أليفا وأستاذا قديرا، حصيف الفكر، لامعا، وعالما جليل القدر، سؤولا، سريع الفطنة مشرق الفهم”.
ويضيف: “كان صالح صاحب جدّ في القول والعمل وصاحب صدق في الكتابة وإخلاص في التفكير”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى