نوفل سلامة يكتب: وقفة مع كتاب ‘انعكاس الظل’ للمؤرخ لطفي عيسى..

كتب: نوفل سلامة
لماذا كتابة عن الظل؟ أو هل من معنى وفائدة للاهتمام بفكرة الظل؟ ما هي مشروعية هذا النص الذي كتبه لطفي عيسى أستاذ التاريخ في الجامعة التونسية، واصدره في مؤلف عدد صفحاته 238 صفحة عن منشورات دار سوت ميديا 2024؟
لحظة صدق
هل هو جنس من الكتابة التي تؤرخ لذات المؤلف؟ إلى أي مدى يمكن اعتبار الكتاب نوعا من الكتابة التي تحكي سردية صاحبها المخفية وشخصيته الحقيقية؟ كانت هذه بعض الأسئلة التي طرحت في اللقاء الذي جمع لطفي عيسى بأصدقائه بمناسبة تقديم كتابه الأخير ‘انعكاس الظل’ يوم 11 ديسمبر المنقضي في فضاء مكتبة الكتاب بميتويالفيل في أمسية فكرية حوارية أجاب فيها عن كل هذه الأسئلة بقوله إن كتاب انعكاس الظل قد أراده لحظة صدق يمر بها المثقف من خلال ظله الذي يطل لفترة ثم يختفي في رمزية الصراع بين الواقع والمتخيل…
وبين ما يقوله وما يكتبه وما يفكر فيه وما يخفيه وما لا يعلن عنه أو ما يجبر على إخفائه أحيانا تحت وطأة المحظورات أو الضوابط الاجتماعية أو القيود الجماعية يقول: ‘كتبت الكتاب من وجهة نظر معرفية وليس من وجهة نظر علاقتي بالحياة، هو دعوة للانتباه إلى وجود محطات مختلفة يمر بها الفرد ولكنها تمر بسرعة كالظل غير أن أثرها يبقى باديا ومؤثرا’…
زمن التسعينات
هو كتاب يصلح للجيل الذي عاش في زمن التسعينات من القرن الماضي وكل الأفكار الواردة به هي من نتاج هذا الجيل رغم اختلاف اختصاصاتهم فهل تفطنوا مثلا إلى أن نهاية القرن العشرين قد حصلت منذ سنة 1989 عندما سقط جدار برلين؟
ذلك أن الزمن مهم جدا وما يحصل في حياتنا من أحداث الكثير منها كالظل في حضورها وفي التعبير عنها والتفاعل معها ، الظل نقلة مفصلية و لحظة تاريخية يمكن للمفكر أن يؤرخ بها لنفسه. هل أدركنا أن قيمة الفرد التي بدأت تأخذ مكانا أوسع في حياتنا من مكانة الجماعة؟ هل مازال من الممكن أن ندرس الظاهرة الروحية وموضوع التصوف بنفس الطريقة القديمة؟
هناك أفراد توقف تفكيرهم ونمط عيشهم في القرن العشرين فلم يواكبوا تطور الزمن والأفكار والتطورات التاريخية والاجتماعية.
إن انعكاس الظل يعني أن كل ما ينجزه الانسان ويهتم به الفرد يبقى مشروطا بمعرفتنا لأنفسنا وبمعرفة ذواتنا فالكتابة هي بمثابة العودة نحو الذات التي نجدها أمامنا ”
نقاش فلسفي
قيمة الكتاب في كونه قد فتح نقاشا فلسفيا مهما لفهم حقيقة النفس البشرية وحقيقة الإنسان من خلال تجاوز مفهوم الظل كظاهرة طبيعية تنتج عن انعكاس الضوء الذي ترسله أشعة الشمس على مختلف الأجسام الموجودة وهذا الانعكاس الذي يطلق عليه مصطلح الظل يطول ويقصر ولكنه لا يدوم كثيرا ليختفي بعد ظهور محدود ويعود كلما كان هناك ضوء.
هذا النقاش يستعين بالظل كرمز للمعرفة الحقيقية ليطرح السؤال المغيب هل أن حقيقة المرء في صورته التي يظهر عليها أم في صورته التي تظهر في ظله خاصة و أن الظل هو حالة كونية لا تدوم و هي غير ثابتة وتأتي وتختفي وهي غير مستقرة بذاتها وإنما تحتاج الى غيرها تحتاج إلى الضوء وانعكاسه…
حقيقة أم حقيقتان؟
فهل أن الحقيقة في الأصل هي حقيقتين واحدة ظاهرة ودائمة وأخرى مخفية وغير دائمة ويتفرغ عن هذا السؤال سؤال آخر حول حقيقة الإنسان هل حقيقته في الصورة التي يظهر فيها للعيان ويعرفها الناس في علاقة بجوانب الشخصية المخفية التي لا يعرفها أحد ولكنها تظهر من حين إلى آخر تحت وقع بعض المحفزات وبعض الانفعالات فيظهر هذا المخفي من الشخصية وفي الشخصية في حالات الغضب والفرح والخوف وفي الرغبات والنزوات المكبوتة داخل الفرد، ومن هنا تأتي أهمية فكرة الظل في فهم النفس البشرية فهمًا كاملًا.
ويتفرع عن هذا السؤال سؤال آخر يلامس موضوع الهوية ومفهوم الخصوصية والذاتية والثقافة التي لا تتجسد فيما نراه دوما وإنما فيما يبدو انعكاسا لسلوكنا وتصرفاتنا غير الثابتة.
كل ما هو مخفي
أبرز من اعتنى بظاهرة الظل في بعدها النفسي وتحدث عن الظل كظاهرة تلازم الانسان وحولها من ظاهرة كونية إلى رمز نفهم به حقيقة الإنسان بكل مكوناته هو عالم النفس السويسري ‘كارل يونغ ” ( 1875 / 1961 ) الذي اعتبر أن شخصية الفرد لا تتحدد بالجوانب الواعية الظاهرة التي تمثلها الأنا الواعية وإنما الشخصية تتحدد في كل ما هو مخفي ولا يفصح عنه الفرد وتمثل جانبا مهما من شخصيته، بل هو الجانب الأبرز و يتمثل في الذكريات والمكبوتات وكل الموروث من المعارف والتجارب الجماعية التي يتشارك فيها مع عموم البشر والتي تجتمع كلها في مفهوم اللاوعي الشخصي فهو يرى أن الذي يحرك الفرد ويتحكم في تصرفاته ومشاعره ويكون أفكاره هو اللاوعي الجماعي الذي لا يفصح عنه ولكن يظهر في فترات حاسمة وفي أوقات بعينها مثلما يظهر الظل.
يقول ” إن مهمة الوعي ليست فقط في معرفة العالم الخارجي، بل في تجسيد العالم الداخلي بصورة واعية”.
أنماط أربعة
يتحدث كارل يونغ عن أنماط الشخصية الأربعة فيذكر شخصية ‘القناع’ التي تجسد ما يريده المجتمع وما يتماشى مع ضوابطه فالقناع هو طريقة واعية يقدم بها الفرد نفسه للمجتمع في محاولة للقبول به بين المجموعة والاندماج فيها.
النمط الثاني من الشخصية هي صورة ” الظل ” التي تجسد شخصية الفرد الذي يكبت غرائزه الجنسية ومشاعره الدفينة ويجعل لها سياجا من الأخلاق والضوابط التي يحبس فيها نفسه ومن تصورات المجتمع وقيمه التي تحولت إلى قوة غير واعية تتحكم فيه، غير أن مفهوم الظل عند يونغ لا يتوقف عند الجوانب السلبية فقط وانما قد يكون الظل الصندوق المغلق لكل الأفكار المبتكرة والابداعات التي يخشى الفرد من إظهارها والإفصاح عنها أن يناله اعتراض من أخلاق وتقاليد المجتمع فـ الأفكار والإبداعات في شتى المجالات كثيرا ما يتردد الفرد في الإفصاح عنها خوفا من ردة فعل المجتمع والقوة اللاواعية فيه.
النمط الثالث من أنماط الشخصية هو صورة ” الأنيما والأنيموس” وهي حالة الفرد الذي يرى نفسه أنثى وهو في صورته الظاهرة رجل وحالة المرأة التي يشعر بأنها رجل والحال إنها امرأة، فيتم إخفاء هذه المكنونات خوفا من المجتمع ومراعاة لقيم وأخلاق الجماعة وهي حالة تتدخل فيها عدة عوامل أهمها الميولات الجنسية والجندرية وما يتربى عليه الفرد داخل الأسرة ومحيطه الاجتماعي الضيق ويعتبر يونغ أن إخفاء هذه الميولات تجعل الفرد غير متصالح مع نفسه ولا يعبر عن ذاته الحقيقية.
النمط الرابع من الشخصية كما حددها العالم يونغ هي” الذات ” وهي الحالة التي يتحد فيها الوعي واللاوعي والوضعية التي يحصل فيها التكامل بين الذات الواعية والذات غير الواعية والتي تجعل الفرد متصالحا مع نفسه وبعيدا عن حدوث مشكلات نفسية تتعب الفرد.
مفهوم الظل
هل من الضروري أن نتحدث عن مفهوم الظل في بعده النفسي بعد إخراجه من نطاقه كظاهرة طبيعية ومعطى كوني؟ ما قيمة هذه المصطلح في فهم الشخصية والوقوف على حقيقتها ؟ يجيب الفيلسوف الألماني يوهان غوته ( 1749 / 1832 ) بقوله : ” حيث يوجد الكثير من الضوء يكون الظل عميقاً .. فنحن البشر نعتقد أن الحد الفاصل بين الضوء والظلمة حد واضح وفاصل، لكن خلف الضوء والظلمة يقع الظل المليء بملاحمنا وقصصنا وخواطرنا وافكارنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا التي لا يعلمها غيرنا وتظل مخفية حتى متى قررنا الإفصاح عنها وهي في الحقيقة جانب مهم من ذواتنا ”