هادي دانيال يكتب: واشنطن عرّابة سياسات القمع الداخلي وإضرام الحروب

كتب: هادي دانيال
الولايات المتحدة الأمريكية قوة عسكرية واقتصادية هائلة تأسست بإبادة السكان الأصليين (الهنود الحمر) وبسطت هيمنتها عبْر العالم بشنّ حروب إبادية ضدّ شعوبه كلّما اقتضت مصالحها ذلك من الفيتنام وأفغانستان إلى العراق وغيره، وبالتالي تجد صورتها الفتية في المرآة الإسرائيلية منذ تأسس الكيان الصهيوني بقتل وتهجير السكان الأصليين في فلسطين المحتلة، وكما شنت الولايات المتحدة حروبها خارج القانون والشرعية الدوليين أمّنت دائما الغطاء السياسي لضرب تل أبيب عرض الحائط بجميع القرارات الدولية المتعلقة بالحقوق الفلسطينية المشروعة وبإدانة الاحتلال الإسرائيلي الممعن في انتهاك الحقوق الوطنية والإنسانية الفلسطينية والسورية واللبنانية.
الأرض المحروقة
وفي هذا السياق تدعم واشنطن حرب الأرض المحروقة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 08/10/2023مرتكباً كل يوم مجازر إبادة وجرائم ضد الإنسانية جاوز العدد الحقيقي لضحاياها المئة ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وتعدّ تدمير آلاف المنازل فوق رؤوس ساكنيها العزّل وحرق الخيام بما فيها من لحم حيّ مجرّد “دفاع عن النفس”، وتواصل الدعم العسكري والمالي والسياسي والإعلامي لهذه النفس الصهيونية الأمّارة بارتكاب المزيد من الجرائم ضد الإنسانية، وبالتالي “لا تتفق” واشنطن مع “استنتاج منظمة العفو الدولية بأنّ إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين في غزّة”.
وقاحة معهودة
وبوقاحتها المعهودة واستهتارها بالعقل البشري ورهانها على “ضعف ذاكرة” ما يُسمى “المجتمع الدولي” لا تتورع واشنطن عن الكذب والتلفيق وأساليب ووسائل التضليل لتمرير سياساتها الخارجية الشريرة بالقوتين العسكرية والاقتصادية (الحروب المباشرة أو بالوكالة والعقوبات الاقتصادية لتجويع شعوب الدول المُستَهدَفة). فهي التي أنشأت تنظيم “القاعدة” من مقاتلين تكفيريين وأسمتهم عبر الإعلام الغربي “مقاتلين من أجل الحرية” عندما استخدمتهم لإسقاط نظام “كابول” الموالي لعاصمة الاتحاد السوفياتي السابق “موسكو”، ثمّ تباهى “البيت الأبيض” بأنه قتلَ “أسامة بن لادن” زعيم “القاعدة” التي عدّها تنظيما إرهابيا بعد أن ورّطَتها المخابرات الأمريكية في أحداث 11سبتمبر2001، وهي ذاتها التي تحت شعار “تصدير الديمقراطية” كانت وراء “الثورات الملونة” في أوربا الشرقية (وبعضها كان دمويا كما في يوغسلافيا السابقة)، كما كانت وراء الحرب على العراق واحتلاله، ووراء “الربيع العربي” و”ثورات الفوضى الخلاقة” التي كان معظمها داميا كما في ليبيا وسوريا واليمن، وهي التي أنشأت تنظيم “داعش” كما اعترفت الديمقراطية “هيلاري كلينتون” ليكون ذريعة للتدخل في سورية، وفي الوقت نفسه وضعت تنظيم ما يسمى “هيئة تحرير الشام” على قائمتي التنظيمات الإرهابية في “واشنطن” و”نيويورك”، ومع ذلك يشيد زميلها الديمقراطي “أنتوني بلنكن” بوقوف “جبهة تحرير الشام” نفسها إياها “في وجه سوريا وروسيا”!.
تشتري الذمم
هذه الولايات المتحدة الأمريكية التي تشتري ذمَم النُّخَب وتضلل العامة في منطقتنا خاصة، وتسوّق نفسها حامية حمى الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، هي ليس فقط لم تُصغِ لشوارع المدن الأمريكية وجامعاتها (بما في ذلك عشرات الآلاف من الأمريكيين اليهود) بل على العكس من ذلك سارع “الكونغرس” بديمقراطييه وجمهورييه إلى إصدار قوانين قاسية وصارمة لكمّ أفواه طلبة الجامعات الأمريكية.
رسالة صادمة
وعندما نشر 99طبيباً أمريكياً رسالة مشتركة مفتوحة إلى الرئيس “جو بايدن” ونائبته “كامالا هاريس”، وهؤلاء الأطباء “بعضهم من قدامى المحاربين، وجنود الاحتياط، ومجموعة متعددة الأديان والأعراق”، وأعلنوا مسبقا أنهم لا يؤيدون ما قامت به حركة “حماس” يوم 7أكتوبر2023، لكنهم عملوا عدة أشهر تطوعاً بمستشفيات في قطاع غزة أكدوا أنهم “لم يلحظوا أي نشاط فلسطيني مسلح في تلك المستشفيات” خلال الحرب الإسرائيلية الدائرة منذ عام ونيف، وطالبوا بوقف الدعم فوراً لتل أبيب. لماذا؟.
لأنه كما جاء في رسالتهم من المرجح أن يكون عدد الضحايا “أكثر من 5.4 بالمئة من سكان غزة” ولذا “يجب على حكومتنا أن تتخذ إجراءات فورية لمنع وقوع كارثة أسوأ مما حدث لشعب غزة وإسرائيل”.
وشدّدوا على “ضرورة تحقيق وقف إطلاق النار من خلال قطع الدعم العسكري لإسرائيل، وفرض حظر دولي للسلاح على إسرائيل وجميع الفصائل الفلسطينية المسلحة”.
وأكدوا “لقد رأينا أمهات يعانين من سوء التغذية في غزة يقدمن أغذية مصنوعة من ماء ملوث لأطفالهن الذين يعانون من نقص الوزن، لا يمكننا أن ننسى أبداً أنّ العالم تخلى عن هؤلاء النساء والأطفال الأبرياء”.
وشدّدوا على أنه من “الصادم” أن تقوم إسرائيل أيضاً بإصدار أوامر إخلاء متكررة ومستمرة لسكان غزة الذين يعانون من سوء التغذية إلى مناطق لا توجد فيها حتى مياه جارية أو حمامات.
تقتل بشكل جماعي
وفي ذات الرسالة قال جرّاح الصدمات والرعاية الحرجة الطبيب “فيروز سيدهوا” : “لم أر قط مثل هذه الإصابات الرهيبة بهذا الحجم الكبير في ظل موارد قليلة جداً، قنابلنا تقتل الآلاف من النساء والأطفال”.
وتابعوا في الرسالة: “نتمنى منكم أن تسمعوا الصيحات والصرخات التي لن يسمح لنا ضميرنا بنسيانها. لا يمكننا أن نفهم سبب استمراركم في تسليح دولة (إسرائيل) التي تتعمد قتل هؤلاء الأطفال بشكل جماعي”.
واختتم الأطباء الأميركيون رسالتهم بالقول :”كل يوم نواصل فيه توريد الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل يظل يوماً تتمزق فيه النساء بسبب قنابلنا، ويقتل الأطفال برصاصنا. الرئيس بايدن ونائبة الرئيس هاريس، نطلب منكم: أوقفوا هذا الجنون فوراً”.
وعلى الرغم من أنّ الأطباء المتطوعين أكّدوا رغبتهم في مشاركة الرئيس بايدن ونائبته هاريس “الأدلة المُصَوّرَة على سوء التغذية الذي يهدد الحياة وخاصة حياة الأطفال في غزة” إلّا أنّ الرئيس ونائبته الديمقراطيَّين لم يأبها حتى لقول جراح العظام مارك بيرلماتر، وهو أحد الأطباء المتطوعين الذين وقعوا على الرسالة: “غزة كانت المكان الذي حملت فيه بيدي دماغ طفل لأول مرة في حياتي”.
حروب بالوكالة
وهذا الإهمال لرسالة الأطباء وقمْع الطلبة الأمريكيين ليسا دليلين معزولين عن أنّ سياسات الإدارة الأمريكية، الداخلية والخارجية، في قبضة الحزب الجمهوري أو في قبضة الحزب الديمقراطي، هي أبعد ما يكون عن أخْذ الديمقراطية وحقوق الإنسان مأخذ الجدّ. فالجرائم ضد الإنسانية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة وتغضّ واشنطن عنها الطرف سبق لجيش الاحتلال الأمريكي في العراق أن قام ببعضها، وعندما اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية “سياسة واستراتيجية استخدام الوكلاء للدخول في حرب هدفها الإطاحة بالحكومة الشرعية في سورية سهّلت حركة الإرهابيين الإسلاميين إليها من 100دولة سنة 2011 ” حسب تصريحات أدلى بها السيناتور “ريتشارد بلاك” الجنرال السابق في الجيش الأمريكي، في مقابلة مع معهد شيلر الدولي.
وحين وصل هؤلاء الإرهابيون إلى سوريا أعلمهم مُشغّلوهم الأمريكيون (حسب تصريحات ريتشارد بلاك) أنه “يحقّ لهم قانوناً قَتْل الأزواج وبعد ذلك يمكنهم امتلاك زوجاتهم وأطفالهم، وقد فعلوا ذلك بأعداد كبيرة، ولذا كانت هناك حملة اغتصاب”. فأيّ تجسيد ناصع هنا لفهْم الولايات المتحدة لحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية التي تصدرها بشتى الأسلحة وأقذرها وبينها سلاح تجويع الشعوب.
تجويع السوريين
بهذا الصدد يقول الجنرال “ريتشارد بلاك” : “سورية كان لديها في الواقع فائض قمح كبير وكان الناس يتغذون جيّداً قبل الحرب. أردنا أن يُؤخَذ القمح بعيداً لإحداث مجاعة”، هذا هو أيضاً أحد أهداف ما يُسمى “قانون قيصر” الأمريكي ضد سورية: تجويع الناس. إماتتهم جوعاً. وهذا هو أحد الأسلحة التي يستخدمها الآن جيش الاحتلال الإسرائيلي لإبادة أهلنا في غزة.
والسلاح الآخر غير الجوع والقذائف هو قتل الناس برداً بالحؤول دون وصول وسائل التدفئة إليهم كما يحصل في غزة الآن. يقول “ريتشارد بلاك” في تصريحاته لمعهد شيلر بشأن إقدام الجيش الأمريكي على سرقة النفط السوري: “الفكرة من خلال سرقة النفط والغاز أننا سنكون قادرين على تعطيل نظام وسائل النقل وفي نفس الوقت يمكننا خلال فصل الشتاء تجميد السكان المدنيين برداً حتى الموت”.
لقد اعترف الغرب ببعض جرائمه ضد الإنسانية عبر تاريخنا المعاصر وما خفي أعظم ومنه أحداث 11سبتمبر/أيلول2011في نيويورك ، وحادث تفجير مرفأ بيروت يوم4أوت/أب2020، اللذان تم إغلاق التحقيق بشأنهما لأن المخابرات الأمريكية أول المتورطين فيهما. لقد غمغم “ريتشارد بلاك” بأنّ ” أحد آخر الأشياء التي فعلناها والأدلة كانت غامضة حولها هو حدث انفجار غامض في مرفأ لبنان، كان انفجارا ضخما لحمولة سفينة سماد نترات الألمنيوم”… وسكت “ريتشارد” عن الكلام المباح!، كما خَفَتَ تدريجيا نُباحُ جِراءِ السفارة الأمريكية في بيروت لاتهام “حزب الله” كلما أملت عليهم نوطة المايسترو ذلك.
إضرام الحروب الأهلية
ما لا يريد الكثيرون تصديقه، خاصة النُّخَب المُسْتَلَبة عقولها وضمائرها بالبترودولار، أنّ الدولة العميقة الصهيونية التي يحكم بأمرها ويحتكم إليها الساسة (جمهوريين وديمقراطيين) والجنرالات والإعلاميون، هي التي تمتلك المليارات ومصانع الأسلحة ووسائل الإعلام الأمريكية والغربية بعامة، واستراتيجية هذه الصهيونية هي إخضاع العالم بأسره، شعوباً ودولا، والهيمنة عليه والتحكم بمصائره واستعباده في خدمة مصالح هذه الدولة الصهيونية العميقة التي في ذات الوقت الذي تدمر فيه البنى و الأواصر والقيم الوطنية عند الشعوب والدول المستهدفة وتوفر أسباب تقسيمها أو انقسامها وإفقارها وتجهيلها، توظف لهذه الغاية خرافات الأديان والقوميات جميعها لتطلّ هذه الصهيونية علينا بوجوه دينية وعرقية مختلفة. وكما تُوَظَّف هذه الخرافات لإضرام الحروب الأهلية أو بين الدول في المنطقة لتغيير خارطتها الجغراسياسية بالدم والنار والدمار ستُوَظّف أيضاً لفرض اتفاقيات استسلام لصالح “إسرائيل” والمصالح الأمريكية كما هو حال “الاتفاقيات الابراهيمية” التي شاءت الدولة الصهيونية العميقة أن يكون “دونالد ترامب” عرابها المُعْلَن. وتمهيدا لذلك وبموازاة ما تشهده المنطقة من حروب تشنها عواصم دول الإرهاب في المنطقة والعالم وجماعاته التكفيرية، تدقّ طبول الاستعداد لضمَ قطاع غزة والضفة الغربية والجولان السوري المحتل إلى الكيان الصهيوني الذي تباكى “ترامب” على صغر مساحته الجغرافية، وبالتالي يريدها أن تتسع وتتمدد.
تهجير متواصل
ولذا وجب إسرائيليا وأمريكيا قتل المزيد من الفلسطينيين وتهجيرهم، وبالتالي خلط الأوراق في المنطقة بالمزيد من الحروب لجعل هدف تهجير الفلسطينيين إلى خارج فلسطين ممكنا. وفي هذا السياق يتمّ دفع ذوي الرؤوس الحامية والحسابات الضيقة والحمقاء على غرار أردوغان المتطيّر من انفتاح أوربا على الدولة السورية لإيجاد أرضية تسمح بإعادة المهاجرين السوريين من الدول الأوربية الأمر الذي قد يدعم الدولة السورية اقتصاديا وسياسيا مما يحوّل المهاجرين السوريين في تركيا من ورقة ضغط رابحة بيد أردوغان إلى ورقة معطلة يريد التخلص منها، فانفتحت شهيته العثمانية الدموية مجددا واختار الانخراط في السيناريو الأمريكي الإسرائيلي البريطاني الفرنسي وأطلق البعبع الإرهابي التكفيري من قمقم “إدلب” لإرباك الدولة السورية وحلفائها، فانتقل “أردوغان” من رفع الشعارات المساندة للفلسطينيين في غزة إلى “تجسيدها” واقعياً بالسعي إلى تجفيف منابع “المقاومة” التي تساندهم من لبنان كي يخضع الجميع للإرادة الصهيونية وكيانها الغاصب في فلسطين المحتلة.
تشويش متواصل
لمواجهة ذلك كله يجب تماسك الدول الوطنية في المنطقة والعالم، وتآزرها أمنيا واقتصاديا وسياسيا وإعلاميا، وتوجيه الأسلحة الدفاعية إلى المصالح الاستراتيجية الأمريكية مباشرة، وعدم السماح للأضاليل الأمريكية بالتشويش على البوصلة الوطنية والإنسانية. وسيخطئ كثيرا مَن يحسب أنه في منأى عن الخطر إن انحنى لهذه الرياح الصهيونية الهوجاء التي تهبّ مباشرة من واشنطن، وسيندم بعد فوات الأوان مَن يتوهّم أنها تستهدف بلداً بعينه ثمّ قد تنحسر.
فالجمهوريون الذين طالب ممثلوهم في مجلس الشيوخ الأمريكي باستخدام أسلحة نووية ضد روسيا لن يتورعوا عن محاولة تنفيذ الحلم الإسرائيلي بتدمير المشروع النووي الإيراني والوصول إلى الخزان النووي الباكستاني إن استطاعوا، والقرار بشأن السلام والحرب في أوكرانيا مثلا، كما قال ريتشارد بلاك “يُتخذ في واشنطن، وطالما أننا نريد الحرب سنخوضها باستخدام الأوكرانيين كوكلاء وسنقاتل الروس حتى موت آخر أوكراني”، والأمر نفسه في منطقتنا، فإضافة إلى الإرهابيين التكفيريين الأتراك والتركستانيين والأوزباكستانيين والمغاربة والطاجيك سيقاتل الأمريكيون بآخر كردي سوري أيضا، وهو يلوّح لهم بقرص عسل الانفصال المسموم. وحتى قطعان الإرهابيين التكفيريين سيأكل بعضهم بعضا خاصة وأنّ نفايات “داعش” جرى تدويرها، وهي الآن تكمن في الصحراء السورية وتتململ، ناهيك عن أوكارها في العراق، آملين أن لا تقتدي شعوب المنطقة بغير المصالح العليا للدولة الوطنية بعيدا عن ولاءات العشائر والطوائف وأوهامها الحمقاء.