صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ المخدرات: المجتمع التونسي على وقع حريق هائل…

slama
كتب: نوفل سلامة

ظاهرة تنمو بسرعة هائلة وسلوك يتطور بهدوء وينمو في صمت الجميع، وفي غياب مؤسسات التنشئة الاجتماعية وضعف وسائل الضبط الاجتماعي وظاهرة تجد من يناصرها ويدافع عنها من منطلق تطور الشعوب وتقدم الدول والتطبيع مع ممارسات المجتمعات الأخرى ونقل تجارب أفرادها إلينا التي تعتبر تعاطي نوعية معينة من المخدرات مسألة عادية لا يعاقب عليها القانون…

بل أن بعض الغرب قد سمح لأفراده بتناول كمية محددة من المخدرات تحت مسمى ‘الاستهلاك الشخصي’، وخصص لها أماكن للبيع والترويج والاستهلاك من دون تسليط عقاب أو تدخل من السلط الأمنية.

جذور الظاهرة الخبيثة

تعودنا عند الحديث عن المخدرات وتحليل هذه الظاهرة أن نُقدم الأسباب التي أدت إلى انتشارها ونتعرض إلى الجذور التي انبتت هذه النبتة الخبيثة في وطننا وبيئتنا ونعيد اليوم ذكرها من باب تنشيط الذاكرة لمزيد التدبر والتفكّر حيث تقف الدراسات والأبحاث التي أجريت حول موضوع المخدرات في تونس على جملة من الأسباب نذكر من أهمها:
ضعف الروابط العائلية وغياب الحوار داخل الأسرة حول الكثير من المواضيع التي باتت تمثل تهديدا حقيقيا للجميع وفي هذا السياق يأتي الحديث عن دور الأسرة وقضية الغياب الواضح للأم والأب في حياة الأبناء وتخليهم عن لعب دور الرقابة عليهم…
فالحياة العصرية والخيارات الأسرية جعلت الابوين في الغالب يغادران البيت صباحا ولا يعودان إليه إلا مساء تحت دافع العمل وتحقيق الكسب لتوفير حاجيات العائلة المادية، والنتيجة أن يكبر الأبناء من دون توجيه أسري ومن دون حضور للوالدين في أهم فترة عمرية من حياتهم وفي ظل غياب أهم مرجع في الحياة وهما الأب والأم وهذا الغياب استعاض عنه الأبناء بقدوات أخرى ومرجعيات جديدة وجدوها في أماكن أخرى…
وتم تعويض هذا الغياب الأبوي بتبني أباء آخرين يجدونهم في وسائل التواصل الاجتماعي وفيما تقدمه التقنيات الحديثة من معلومات ومعطيات تحتاج إلى نقاش وتدقيق وتعديل وزاد من حدة غياب القدوات في حياة الأطفال ما يقدمه الإعلام من قدوات أخرى جاؤوا بها و جلبوها من مواقع الرداءة والتفاهة من ‘التيك توك’ والانستغرام وفتحوا لهم المنابر و الحصص التلفزية وقدموهم للجمهور على أنهم النخبة المثقفة و القدوة والمرجع!

الترويج للتفاهة

فما كان أن روج هذا الإعلام من خلال هؤلاء التافهين إلى التساهل مع تناول المخدرات وطالبوا بالاعتراف والتعايش معها والتعامل مع تعاطيها كواقع موجود علينا أن نقبل به ولا ندينه، وطالبوا باحتضان المدمنين والاعتراف بهم بدل إدانة الظاهرة وتقديم خطاب يحاصرها ويقلل من عدد من يتناولها وبفضل هذه الجماعة من صانعي الرداءة والتفاهة زاد تعاطي المخدرات وتوسع استهلاك هذه المواد السامة التي دمرت كل من اقترب منها وأنهت حياة الكثير من المستهلكين، وأتعبت الكثير من الشعوب التي تساهلت معها وأدت إلى مآس كثيرة شوارع عواصم العالم الحر الذي نتبعه ونقتدي به تحكي عنها وتروي قصص هؤلاء الضحايا لآليات ومنظومات وقوانين تتساهل وتتسامح مع تعاطي المخدرات…

القلق والخوف

من الأسباب الأخرى التقليدية الإحساس بالقلق والخوف والاكتئاب والحيرة مما يخلق لدى الفرد نوعا من الفراغ العاطفي والفكري يعتقد أن اللجوء إلى تعاطي المخدرات قد يدفع عنه كل هذه المشاعر ويعيده إلى حالته الطبيعية، فتناول المخدرات هو نوع من الحلول الفردية وهروب من واقع يراه مريضا و بائسا لا يقبل به إلى وضعيات أخرى أكثر سوءا قد تجعل منه مدمنا عليها وعندها يتحول هذا الهروب الوهمي إلى نمط عيش اختاره في لحظة زمن غير واعية ومدمرة للحياة…
وهنا يتدخّل علم الاجتماع ومقاربته النفسية لظاهرة المخدرات حيث يُرجع المختصون في علم الاجتماع تفشي الظاهرة وكل ظاهرة منحرفة في المجتمع إلى ذات الفرد الذي لم يقدر أن يجعل رغباته وميولاته ونزعاته الفطرية الغريزية تتكيّف وتتلاءم مع انتظارات المجتمع وقيّمه ومثله ومعاييره أي إذا لم يوفر الواقع والبيئة التي يعيش فيها الفرد فرصا شرعية وحلول لحاجاته وقبولا قيميا وأخلاقيا عندها يميل الفرد إلى جهات أخرى وطرق مختلفة لتلبية هذه الحاجيات…

مشاكل المنظومة التربوية

من الأسباب الأخرى رداءة المنظومة التربوية وفشل المدرسة و التعليم الذي لم يعد يضطلع بدوره الذي تأسس عليه وبه عرف كونه من مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي عليها واجب التربية ومحمول عليها في المقام الأول مهمة تربية الناشئة على القيم والمبادئ والمثل والمعايير مع تعليمهم التعليم الجيد و المثمر…
فما حصل مع الخيارات التربية المطبقة أن خضعت المدرسة التونسية منذ سنوات طويلة بدأت من قبل الثورة لسياسات مدمرة جعلتها تتخلى كما الأسرة والعديد من مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى عن دور التربية واكتفت بالتعليم فقط و فكت ارتباطها مع مهمة التوجيه فخرجت منها أجيال فاقدة للقيم التي يحتاجها المجتمع والأخلاق والمبادئ التي يحتاجها الفرد وفاقدة للقدوات والمعايير والمرجعيات التي ترشده وتحصنه من كل المخاطر ومن كل الوافد الغريب القادم من عوالم أخرى ومجتمعات لا تشبهنا هي بمثابة الثقافة الاجتماعية التي تمكنه من الحكم على الأشياء والتمييز بين الخطأ والصواب بين الممكن والممنوع بين الشيء السليم والشيء المنحرف.

من أسباب الظاهرة الأخرى الانفتاح الواسع على عوالم أخرى وثقافات مختلفة عنا ولا تشبهنا ولها مساراتها وقيمها الخاصة بها نتج عنه انسلاخ كبير عن كل ما هو محلي تونسي وتحقير و تنكر للثقافة الأم التي تميزنا ونعتز بها والتي شكلت على مدار تاريخ طويل هويتنا المشتركة التي نُعرف بها وتُميّزنا عن غيرنا هذا الفراغ الحاصل وهذا الاقتداء الأعمى بالآخر ساعد على انتشاره بقوة الجهاز الإعلامي و غذاه محتوى بعض القنوات الخاصة التي تخصصت في ترويج محتوى وصف بالإبداع المتحرر من كل قيد و لا يخضع لمعايير التوازن الأخلاقي في عملية غسل للأدمغة واستلاب مهول للعقل ونقل ما يحصل في عوالم الغرب إلينا وتقديمها على أنها هي طريق التقدم وتصوير الواقع التونسي واقعا فاسدا برمته تحكمه الجريمة بكل أنواعها وتنتشر في كل أحيائه وفضاءاته العامة والخاصة المخدرات والانتحار والعنف والاعتداء على الأشخاص والعلاقات المشبوهة بحيث تحول المجتمع التونسي مع هذه النوعية من الاعلام إلى مجتمع منحرف و فاسد…

أرقام مفزعة

المشكل في هذا الحديث الذي نذكره عن الأسباب والدواعي التي عجلت بانتشار هذه الظاهرة التي تعتبر أرقامها مفزعة وتمددها الجغرافي مخيف وخاصة مع تزايد المروجين والمستهلكين حيث لم يعد اليوم الحديث عن أفراد يتاجرون في مادة الزطلة أو جماعات محددة وانما أصبحنا نتحدث عن شبكات منظمة وعصابات متخصصة في ادخال وترويج هذه المادة التي تجاوزت مادة القنب الهندي إلى مواد أخرى أكثر خطورة وعصابات وشبكات دولية تنشط بين تونس ودول أوروبية واخطبوط من العلاقات المتشابكة، رغم الجهود الأمنية الكبرى المبذولة لمقاومة هذه الظاهرة الخطيرة…

اليوم أصبحنا نتحدث عن مخدر ‘الكوكايين’ ومخدر ’الاكستازي’ ومخدر” الهيروين ” الى جانب “القنب الهندي ” المعروف واليوم أصبحنا نتحدث عن ترويج كميات مهولة من المخدرات في الفضاءات المدرسية والجامعية وفي المقاهي وعلب الليل وآخر المعطيات التي كشفت عنها المصالح الأمنية حتى كتابة هذا المقال تتحدث عن تفكيك شبكة دولية تنشط في بلادنا ضبط بحوزتها 12 ألف طابع مخدر و3000 قرص مخدر من نوع اكستازي وإيقاف مروج بحوزته 32 ,8 كغ من الكوكايين وأكثر من 207 كغ من الزطلة بالإضافة إلى 1,123,400 حبة مخدرة…

إغراق المجتمع بالمخدرات

هذه عينة لا غير مما يتم ضبطه يوميا من المخدرات تؤكد بكل وضوح أن هناك إرادة وعزم على تفكيك المجتمع التونسي من خلال إغراقه بالمخدرات وتخطيط على اضعاف مناعته وتدمير أفراده وخاصة فئة الشباب، وتؤكد كذلك أن بلادنا ينتظرها حريق هائل مدمر سوف يأتي على الأخضر واليابس إن لم تتدخل الدولة وتتخذ الإجراءات اللازمة والتي يجب اتخاذها من خلال الحل الأمني الذي وإن كان لا يكفي لوحده ويحتاج إلى مقاربات أخرى من تربوية واقتصادية واجتماعية ونفسية إلا أنه في الوقت الحاضر الحل المتوفر القادر على التخفيف من وقع الكارثة التي نعيشها في انتظار أن تستعيد المدرسة دورها والأسرة مهمتها ومؤسسات التنشئة الاجتماعية مكانتها اليوم مع كل أسف الآليات الأخرى كلها معطلة ومعطوبة وتحتاج وقتا حتى تستعيد عافيتها…

الضرب بيد من حديد

ولكن في انتظار أن يتم ترميم كل ذلك لا يمكن للدولة أن تبقى مكتوفة الأيدي تنظر وتشاهد توغل شبكات تجارة المخدرات ولا يمكن لها إلا أن تضرب بيد من حديد كل العابثين ببلادنا ومجتمعنا وشعبنا..
فالقضية أصبحت تتعلق بالذات البشرية والدفاع عن الإنسان وعن صحته وعن حياته وبتخطيط لتفكيك المجتمع وإضعافه من الداخل والقضية اليوم جريمة ترتكب بحق أبنائنا وشبابنا إنها قضية هذا الجيل وأجيال أخرى قادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى