نوفل سلامة يكتب: تتبعات قضائية ضد ‘صنّاع المحتوى’…من يحدد القيّم الأخلاقية في المجتمع؟

كتب: نوفل سلامة
على اثر البلاغ الصادر يوم الأحد 27 أكتوبر 2024 أكدت وزارة العدل عن خطورة انتشار ظاهرة تعمد بعض الأفراد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وخاصة تيك توك و انستغرام لعرض محتويات معلوماتية تتعارض مع الآداب العامة أو استعمال عبارات معيبة او الظهور في وضعيات مخلة بالأخلاق الحميدة أو منافية للقيم المجتمعية من شأنها أن تؤثر سلبا على سلوكيات الشباب الذين يتفاعلون مع المنصات الالكترونية المذكورة…
إيقافات
تحركت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس يوم الثلاثاء 29 أكتوبر2024 وتولت إيقاف مجموعة من الأفراد الناشطين على هذه المواقع ممن يصنفون في الفضاء الافتراضي ضمن المؤثرين اجتماعيا وصانعي المحتوى الذين يلقون نسبة مشاهدة عالية على منصتي التيك توك والانستغرام على خلفية صناعة ونشر محتوى فيه تجاهر بالفحش و منافي للحياء ومضايقة الغير وتهمة نشر بيانات معلوماتية و بث صور و مقاطع فيديو تحتوي على مضامين تمس من القيم الأخلاقية للمجتمع.
الأخلاق ومنظومة القيّم
هذه الإيقافات التي شملت الى حد كتابة هذا المقال 21 فردا اثنان في حالة سراح وثلاثة في حالة فرار قد فتحت نقاشا مجتمعيا وحوار في الفضاء العام وأعادت من جديد الجدل القديم الذي ظهر بعد الثورة حول موضوع الأخلاق ومنظومة القيم التي تحكم المجتمع، ويتعايش بموجبها الشعب ومنظومة السلوك التي تحدد العلاقات والتي عرفت في السنوات الأخيرة تراجعا رهيبا وتدهورا أدى إلى الشعور بوجود أزمة أخلاق حادة في المجتمع…
أزمة أخلاق في تونس
وشعور آخر بأن كل أزماتنا الاجتماعية والسياسية والتربوية وراء ها أزمة أخلاق وقيم ومعايير بالأساس حيث يذهب بعض المختصين في الظواهر الاجتماعية أن المجتمع التونسي يمر بمرحلة خطيرة ومنعرج حاد أساسها فقدان الأخلاق والمعايير والنماذج والقيم.
هذه الايقافات التي طالت عددا ممن يسمون أنفسهم أو من تم تسميتهم بصانعي المحتوى والأفراد الذين أصبح لهم تأثير واضح في المجتمع أكثر من أي جهة كانت على منصات التواصل الاجتماعي والذين يتخذون من نشر وإذاعة المشاهد الفاضحة والعبارات النابية والصورة الفاضحة والفيديوهات التي تجسد العري والفحش والقبح والانحلال الأخلاقي وسيلة لجني أرباح مالية كبيرة يحصلون عليها من تزايد عدد المشاهدين والمطلعين على ما ينشرونه…
مسؤولية الدولة
قد رأى فيها جانب من المتتبعين لهذا الملف بداية صحوة تكرس مسؤولية الدولة في حماية أخلاق المجتمع و خطوة ضرورية في الاتجاه الصحيح لإيقاف هذه المهازل وهذا الانحراف الحاصل على مواقع التواصل الاجتماعي، والتصدي لكل محاولات إفساد أخلاق المجتمع وإبعاده عن سلكوه وصورته التي تعارف عليها وعرف بها وتعويد الناس على هذه النوعية من المشاهد في محاولة للتطبيع مع التفاهة والرداءة وثقافة الرداءة وهي مدخل لقبول بكل شيء في كل المجالات الأخرى وخاصة قبول ما يروجه لنا غيرها القادم من وراء الحدود والبحار…
سؤال كبير؟
في حين ذهب جانب آخر من المتتبعين لهذه القضية أن ما حصل يطرح السؤال الكبير حول هل نحن شعب متفق في أخلاقه العامة والخاصة ؟ وهل لنا كأفراد نفس الرؤية لما هو موافق أو منافي للآداب العامة والأخلاق الحميدة ؟ وحتى الآداب العامة ومنظومة القيم والسلوك هل نحن اليوم متفقون على مضمونها؟
وهل ما كان ممنوعا في زمن آبائنا وأجدادنا ما زال اليوم كذلك ؟ ويتفرع عن كل هذه الأسئلة سؤال آخر خطير من يحدد المبادئ الأخلاقية التي تحكم العلاقات داخل المجتمع ومن يضع قواعد العيش المشترك ويلزم بها و التي يراها مؤيدو هذا الطرح يجب أن تكون مراعية لحق الفرد في الاختلاف وحقه في أن يعيش وفق الأخلاق التي يريدها وأن لا تسلب هذه القواعد المشتركة للعيش الجماعي حرية الفرد الشخصية وحرمة فضائه الخاص الذي يعتبرونه يتحمل البذاءة والرداءة والتفاهة…على عكس الفضاء العام الذي يجب أن تؤطر فيه التصرفات وتضبط فيه قواعد العيش المشترك التي تخضع حسب رأيهم لتطور المجتمع ومنظومة قيّمه وأخلاقه.
أزمة مفهومية كبرى
هذا النقاش العام وهذا الجدل المجتمعي الذي يدور اليوم في المقاهي وحوارات العائلات وفي مختلف الفضاءات العامة حول ما ينشره بعض الأفراد الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي والذين يروجون محتويات ومعطيات ويستعملون خطابا ومعجما أقل ما يُقال عنها انها غير مقبولة وغير لائقة من وجهة النظر الأخلاقية العامة يدل بكل وضوح على أن تونس تعيش أزمة ثقافية ومفهومية كبرى وأزمة في أخلاقها التي يتضح أننا غير متفقين على مضمونها…
وأيضا أزمة في معايير ارشادها التي يشكك فيها البعض ويعمل البعض الآخر على إعادتها للاشتغال بعد سنوات من هجر و النسيان بداعي التطور والحداثة وحركة العلمنة التي خضع لها المجتمع قسرا وأزمة في قواعد عيشها المشترك وأزمة أخرى في تذبذبنا في معرفة من أين نستقي أخلاقنا ومعاييرنا؟ ومن يحدد هذه القيم وهذه الآداب العامة ومن يسهر على تطبيقها الدولة أم الأفراد أم الضمير الجمعي للشعب؟
اليوم علينا أن نقر بكل وضوح وبكل صراحة أن ما يقدم في إعلامنا وما يُبث اذاعيا وما يُنشر في الفضاء الافتراضي ومواقع التواصل وما ينتج في المجال السينمائي والتلفزي وفي بعض القنوات الخاصة الكثير منه فيه تدمير ممنهج وواضح للمجتمع لإفقاده مناعته وعناصر قوته و تناسقه وانسجامه ووحدة نظرته للأشياء وجعله نحلا متفرقة كل مجموعة من الأفراد لها رؤيتها ونظرتها ومواقفها…
بالاضافة إلى تسويق ذلك على أنه تطور وتماهي مع القيم العالمية ومنظومة الحقوق والقيم والأخلاق الكونية القائمة على حرية الفرد واحترام حقوقه ومجاله وفضائه الخاص الذي لا دخل للدين و للدولة فيه وخلاف ذلك رجعية وتخلف.
سؤال مركزي
اليوم علينا الإقرار بكل وضوح أن هذه المشكلة لا تحل إلا إذا أجبنا على سؤال مركزي من أين نستقي قواعد أخلاقنا ومبادئ عيشنا المشترك ؟ ومن يحدد أخلاق المجتمع وقيمه ؟ ومن يسهر على حسن سيرها وتطبيقها داخل المجتمع وفي الفضاء العام؟
اليوم هناك تيار فكري وثقافي في بلادنا ركز على مسألة الاخلاق وجعلها نسبية من مصلحته أن تبقى مثل هذه القضايا دون إجابة أو بإجابة فيها ‘نعم ولكن’ أو إجابة تجعل من الأخلاق مسألة وقضية شخصية لا دخل للمجتمع أو الدولة فيها كما جعلوا من الدين والإيمان قضية تخص العبد وربه لا غير ولا دخل للدين في سلوك الأفراد و في المجتمع ولا علاقة للإيمان والقيم الأخلاقية الدينية في تحديد السلوك المجتمعي أو تحديد الممنوع والمسموح به من تصرفات أو بـ لغة الدين ما هو حرام وحلال في العلاقات وسلوك الأفراد.
حرية شخصية؟
اليوم من يدافع على نشر هذه المحتويات في مواقع التواصل الاجتماعي يريد أن يقنع بأن ما يقوم به هؤلاء الأشخاص هو حرية شخصية، وفي داخل فضائهم الخاص الذي بإمكان أي شخص ان لا يدخله أو يقاطعه وأن الدولة لا دخل لها في مراقبة هذه المحتويات وإلا تكون قد تعسفت على حق الفرد وحريته الشخصية.
ينسى من يتبنى هذا الفهم العليل للحرية وهذا الطرح الذي كره الناس فيها وجعل منها حرية متهورة غير مسؤولة، منفلتة من كل ضابط، والحال أن مفكري وفلاسفة الحرية قد جعلوا لها ضابطا مهما وهو أن لا يتعدى الفرد في ممارسة حريته على حرية الآخرين، وأن حريته تنتهي عندما تبدأ حرية غيره وما يقوم به هؤلاء الأفراد لا يدخل في مجال الحرية الفردية طالما وأن الفضاءات الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعي ليست فضاءات خاصة لا يدخلها أحد وإنما هي وفق تصنيفها فضاءات ومنصات عامة وشبكات التواصل الاجتماعي مفتوحة على الجميع مثلها مثل فضاءات المجتمع الأخرى تخضع لضوابط العيش المشترك وقواعد السلوك العامة وقواعد الاحترام المتبادل ومنظومة الأخلاق والقيم والمعايير والمثل…ديننا الحنيف يمثل أحد مصادرها وواحد من أهم المرجعيات التي تحددها…
وأن الدولة من منطلق مسؤوليتها في ظل غياب الأسرة والمدرسة وهيئات التنشئة الاجتماعية وغياب منظمات المجتمع المدني ومنظومة الإعلام وتخليها عن لعب دورها في التوجيه والتثقيف والحماية لقيم المجتمع، عليها أن تتدخل لإيقاف ما تراه من إخلالات وانحرافات ومخاطر مهددة للمجتمع في أهم مقوم من مقومات بقائه، وهو الأخلاق والقيم والمثل والمعايير ونماذج الإرشاد والمبادئ العامة التي بدونها يفقد المجتمع والدولة هويتهما ومبررات وجودهما.