صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب: فسقية المستنصر بالله الحفصي بأريانة

ISSA BACCOUCH
كتب: عيسى البكوش

إنّ بلادنا على الرغم من شحّ موارده السائلة تحت الأرض وفوقها، فلقد أعطى للعالمين أبلغ الأمثلة في مجال المنشآت المائيّة والتمتّع بمنافع الغيث المنزّل من السماء.

فمن سالف الأزمان وتونس تزخر بالمعالم الحاملة والمخزّنة للماء التي شيّدها القائمون على أمرها.

فلقد أنشأ الامبراطور هادريان (76-138) الحنايا التي أطلقت عليها اسم الأعجوبة الثامنة في الدنيا، – أنظر كتاب نفحات من تاريخ تونس صفحات 54 و55 و56)-.والتي تربط على طول 122 كم معبد المياه في زغوان إلى الحمامات الرومانية في قرطاج. ثمّ جاء الأغالبة فـ أحدثوا بالقيروان فسقية ذات بهجة وعلوّ كعب ما زالت قائمة إلى يوم التاريخ.

شواهد على عبقرية الانسان

ومن بعد ذلك بأربعة قرون بدأ للمستنصر بالله خليفة مؤسس الدولة الحفصية -وهو الذي بويع في وقت لاحق خليفة للمسلمين عامّة حينما سقطت بغداد على أيدي المغول عام 1258- بدا له أن يسير على خطى السلف المشيّد للمعالم التي تبقى شواهد على عبقرية الإنسان في هذا المكان فابتنى بأريانة رياضا نعتها عبد الرحمان بن خلدون بأنها جنّات معروشات وغير معروشات فريدة في زمانها هي حدائق عائمة بين القصور الشامخة مبنيّة من فوقها غرف تجري من تحتها المياه.
كتب مؤرّخنا الأجل في ” العبر” : اتخذ المستنصر بالله الحفصي مدّة حكمه من 1244 إلى 1277 بخارج حضرته البستان طائر الذكر المعروف بأبي فهر وجعل روضا فسيح الساحة جلب إليه الماء من القناة القديمة كانت بين عيون زغوان وقرطاجنّة”.
لقد جاء في الحلل السندسية للوزير السرّاج في تحقيق للمنعّم محمد الحبيب الهيلة: “في سنة 666 هـ أكمل المستنصر بناء الحنايا فأصلح ما فسد وجلب إليها جانبا إلى سقيفة جامع الزيتونة والباقي إلى جنان أبي فهر وهي التي تُعرف اليوم بالبطوم.”
ويقول العبدري في رحلته: “وأمّا الساقية المجلوبة من زغوان فقد استأثر بها قصر السلطان وجنانه إلا رشحا سيره إلى ساقية جامع الزيتونة في آنية من رصاص ويستقي منها من ليس له في داره ماء.”
وهكذا مثلما تقول العجائز عندنا ” كان السلطان يعمل تارة لربه وطورا لقلبه”.

حفريات

إنّ أوّل من عرّف بهذه المنشأة هو المهندس الفرنسي Solignac عام 1936 في مؤتمر دولي ثمّ إثر حفريات قام بها المؤرخ عدنان الوحيشي إثر انطلاق انتقال مدينة العلوم اتضح أنّ قياس الفسقية 214 م ونصف طولا، و78 م ونصف عرضا وبذلك تكون المساحة 18120 متر مربع، أمّا عن طاقة الاستيعاب فهي حوالي 50.000 متر مكعب.
ولقد كنت أوردت في كتاب “نفحات من تاريخ تونس” غيضا من الحكايا التي رويت عن هذه الرياض (ص199): ” في هذه الرياض حيكت ألف رواية ورواية ابتداء من مهلك من خطط هذا الصنع وأتقنه إلى المهندس الذي ما إن انتهى من تقديم عمله يوم التدشين حتى جازاه السلطان جزاء سنمّار إذ يقول الراوي أنه اغرقه في الحوض لكي لا يأتي بعمل مماثل له أبدا إلى المؤامرات التي كان أبطالها من بطانة السلطان وخاصة الثالوث المقرّب إليه وهم: الوزير ابن أبي الحسن والقائد هلال والعود الرطب.
ولقد أتت رواية المنعّم علي الحوسي حول المستنصر بمواقف وأفعال تخيّلها لهؤلاء المتآمرين والذين وافاهم الأجل تباعا أعوام 1267 م و1273م و1275م انتهاء بقصص الغرام التي وقع فيها السلطان داخل أرجاء هذه الرياض وبخاصّة مع الشاعرة السورية سارة الحلبية والتي حازت جزءا هاما من الرواية التاريخية لعلياء مبروك والتي صدرت عام 2003 تحت عنوان l’émir et les croisés عن دار Claire fontaine.

أهلكه في الجابية

وفي رواية أخرى وردت في كتاب ” تاريخ التوحيد في القديم وفي الجديد” لمحمد بلخوجة في سياق حديثه عن النحوي ابن عصفور: ” قال السلطان الحفصي لابن منصور وقد أخذه العجب وهو جالس على حافة الجابية المذكورة : لقد أصبح ملكنا عظيما فأجابه ابن عصفور قائلا: بنا وبأمثالنا، فكلـّف السلطان خدمه بإغراق ابن عصفور في الجابية حتى هلك” ومن الكلام ما قتل !.
تقول المصادر أنّ البناء في أبي فهر ابتدأ سنة 1250م أي سنة بعد اعتلاء المنتصر على عرش أبيه وانتهى سنة 1267 م أي سنة الأسداس الثلاثة الهجرية.
ولقد نظم حازم القرطاجني وهو شاعر أندلسي جلب إلى بلاط المستنصر قصيدة مدحية سميت بالمقصورة تحتوي على قرابة الألف بيت وصف فيها على امتداد أكثر من 100 بيت هذا الإنجاز العجيب.
وانساب في قصر أبي فهر الذي بكل قصر في الجمال قد زوى
قصر تراءى بين بحر سلسل وسجع من الظلال قد صفا
بحيرة اعلى الإله قدرها قد عذب الماء فيها وقد رما
لقد ارتحل عنّا المستنصر منذ سبعة قرون ونصف وما استبقينا من أثره هذا إلا الحوض المذكور فلم لا نثمنه بما هو به جدير.
في مدينة مراكش بالمغرب الشقيق جنان المنارة به حوض مماثل يقصده كل ليلة آلاف الزوّار ليشاهدوا برنامج ” الصوت والضوء” يستعرض فيه منتجوه تاريخ هذه المنشأة، والحال أنّ تاريخ فسقيتنا أثرى وأبهى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى