صالون الصريح

عيسى البكوش يكتب: مئوية الأديب والبحّاث أبي القاسم محمد كرّو (1924/2015)

ISSA BACCOUCH
كتب: عيسى البكوش

“إن أبا القاسم أمّة في شخص إنسان رجل لا يحصى ولا يعدّ”.

هكذا خط الصديق الأستاذ المبروك المناعي في الكتاب التأريخي الذي خصّصته مؤسّسة البابطين سنة 2008 للأديب والباحث محمد أبي القاسم كرّو الذي تمرّ هذه السنة مائة عام عن مولده في قفصة غرة جويلية 1924.

البدايات

التحق عند صباه بالفرع الزيتوني بموطنه عاصمة الجنوب الغربي للبلاد حيث تحصّل على شهادة الأهلية ثم تحوّل إلى الحاضرة فالتحق بالجامع الأعظم حيث أحرز شهادة التحصيل وتتلمذ إلى صفوة من المشائخ من أمثال محمد الطاهر بن عاشور والبشير النيفر ومحمد الزغواني.
وتزامنا مع ارتوائه من هذا المنهل فلقد انخرط صاحبنا في مجال النضال من أجل قيم التحرّر والانعتاق وبلده يرزح تحت نير الاستعمار، فانبرى وهو في سنّ الثامنة عشر في مسقط رأسه في إتيان عمل له أكثر من دلالة: تمزيق العلم الفرنسي المرفوع على إحدى الأماكن على أعين المتعاونين مع الجيش الغاصب.
ثم انضم سنة 1946 إلى الحركة الكشفيّة والتي كما يعلم العارفون كانت معقلا لخلايا المقاومة.
ومن قبل ذلك بسنة تعلقت همّة الشاب أبي القاسم بتأسيس جمعية شباب ابن منظور ظنا منه أن صاحب لسان العرب هو قفصي مثلما ادعى الكاتب التيفاشي صاحب الموسوعة والكتب العلمية ومن بينها كتاب “رجوع الشيخ إلى صباه”.
ولقد أثبت كرّو فيما بعد أنّ هذا الادعاء إنما هو خرافة أشاعها البعض.
ولقد خصّص للغرض خمسين صفحة من المجلد الخامس لـ كتاب حصاد العمر الصادر عام 1998 عن دار المغرب العربي إذ يقول في ص 128:
“الحقيقة أن ابن منظور قد ولد في القاهرة يقينا وتأكيدا ولم يعد الآن أي مجال للافتراض أو الرجم بالغيب”.
ولقد أسهبت في الحديث عن هذه “المسألة” في الكلمة التي شاركت بها في الملتقى التكريمي للفقيد الذي نظّمته جمعية صيانة مدينة قفصة برئاسة الصديق لزهر الشريف يومي 10 و 11 جوان 2015.
ولقد تناولت جريدة الصريح الغرّاء هذا الأمر في السجال الذي تم بين الصديقين الأريانيين نوفل سلامة وأبي ذاكر الصفائحي في شهر فيفري من سنة 2014.

ساند القضية الفلسطينية

ولم يكفه التحرّك في القطر التونسي بل تعلقت همّته بنصرة أشقائه في فلسطين إبّان النكبة فتطوّع للقتال هناك وغادر فعلا تونس يوم 26 مارس 1948 في حملة المتطوعين التونسيين ولكن الجيش المصري المؤتمر بأوامر الملك فاروق أعاد الجميع إلى الحدود، فمكث صاحبنا في القاهرة وانضمّ إلى مكتب المغرب العربي بتأطير من الزعيمين الحبيب ثامر ويوسف الرويسي.
لم يطل مقامه في مصر إذ التحق في أكتوبر 1948 ضمن أوّل بعثة طلابية تونسية بـ جامعة بغداد وبالتحديد بدار المعلمين العليا إلى أن تحصّل على الإجازة في الآداب عام 1952، وكعادته لم يكتف بتحصيل المعرفة بل انخرط في العمل السياسي فكان أحد المؤسسين لخلايا حزب البعث هناك.
ولقد التقى في دمشق سنة 1951 مع مؤسسي الحزب ميشيل عفلق وصلاح البيطار.
ولم تكن بالتالي إقامته ببلاد الرافدين هادئة إذ أنّه تعرّض لأحكام السجن طورا والطرد طورا آخر ولكنه كالسنبلة ينحني ولا يسقط.

شهادة عبد الله العبعاب

يقول عنه المقاوم عبد الله العبعاب فهو رفيق دربه في بغداد في كتابه ” شهادة للتاريخ” : ” إنّ فضائل هذا الرجل على بلاده عديدة إذ كان كثير التردّد على مجالس الفكر والأدب البغدادية دائم الاتصال بأدباء العراق وفنانيه ومفكريه، وكان لا يفوّت فرصة للتعريف بنضال التونسيين من أجل الاستقلال، كما كان يُلقي المحاضرات في المنتديات وعلى منابر الجمعيات عن تونس وشعبها وتاريخها ورجالاتها”.
ويضيف : ” كان مصدر فخرنا وكنّا نتباهى به نحن معشر التونسيين المقيمين في بغداد آنذاك”.
ويقول عنه الأديب العراقي علي الحلي:” برز الأستاذ كرّو اسما لامعا بين الطلبة العرب في بغداد يعمر مقاهيها ومنعطفاتها حتى نهاية شارع أبي نوّاس على نهر دجلة”.
ثمّ عاد كمثل النسور المهاجرة إلى موطنه بعد أن عرّج على طرابلس للقيام بمهمّة كلفه بها مكتب المغرب العربي في صفوف المقاومين التونسيين..

عمل أستاذا

شغل خطّة أستاذ تعليم ثانوي بمعهد خزندار إلى حدود سنة 1962 ولكن الأهمّ من ذلك هو انشغاله بالشأن السياسي والتوعوي فكان أوّل من بثّ الفكر البعثي في هذه الربوع وأسّس سلسلة: ” كتاب البعث” التي صدر منها حوالي أربعين كتابا إلى أن وضعت السلطة القائمة حدّا لها سنة 1959 ولكن إذا كان الكتاب قد انتهى فإنّ الحكاية لم تنته فأبو القاسم يعتبر تاريخيا المرجع الأوّل للفكر القومي في تونس.
التحق المترجم له بوزارة الثقافة سنة 1971 ولم يغادرها إلا بعد 26 عاما إذ أنه شغل خطة مدير الآداب ثمّ مديرا للمركز الثقافي التونسي بطرابلس ثمّ مديرا للدار العربية للكتاب (1976-1977)، ثمّ مديرا لدائرة الملتقيات.
وعلى ذكر الملتقيات فلقد سهر كرّو على دوريتها في كل المدن التونسية كالقاضي النعمان في المهدية و القلصادي في باجة وابن منظور في قفصة ويحي بن عمر في سوسة والإمام المازري في المنستير وابن عرفة في مدنين. ولكن ما إن غادر دفّة المسؤولية حتى خفت بريقها ثمّ زالت مثلما هو الشأن بالنسبة للملتقى التكريمي الذي أشرت إليه الذي ظلّ يتيما منذ تسع سنوات.

مؤلفات متعددة

مؤلفاته متعدّدة ومتنوعة ومن أهمّها:”موسوعة الشابي” في ستة مجلدات وهو أوّل من عرّف به منذ سنة 1952، و”حصاد العمر” في ستة مجلدات، و” روّاد منسيّون” وعديد التراجم لشخصيات من الشرق ومن المغرب ومن تونس كـ الخضر حسين وخير الدين و كرباكة والطاهر الحداد والحبيب ثامر.
وممّا أفادني وحتّى أطربني كتاب عن الأميرة نازلي التي حلّت بين ظهرانينا في أواخر القرن التاسع عشر وأقامت في قصر برج البكوش بأريانة.
لقد زرت ذات مرّة أبا القاسم في منزله بجهة باردو وأجريت معه حديثا مطوّلا وممتعا وكانت مناسبة لأطّلع على نزر من كتب الرجل بعدما أهدى جلّها إلى جهات عديدة.
كتب المنعّم محمد قريمان في مجلة معالم ومواقع عدد أوت 2004 ص 26: ” مكتبة الأستاذ أبي القاسم كرّو رجل الأدب والفكر وأحد مؤسّسي اتحاد الكتاب التونسيين عام 1971 أهداها إلى كلية الآداب بمنوبة فوضعت في قاعة تحمل اسمه واحتوت على زهاء عشرين ألف مجلد من ضمنها مجموعة مجلة ” أبولو” التي صدرت بين 1932 و 1934 وبخاصّة الأعداد التي نشر فيها أبو القاسم الشابي”.
كما أنّه أهدى كمّا من الوثائق إلى الأرشيف الوطني وجزءا من كتبه إلى جمعية قدماء الصادقية وإلى دار لونڤو بقفصة.
وتحمل المكتبة الجهوية بموطنه اسمه المنقوش في مدخل إحدى قاعات معهد عال بقفصة، ويا حبّذا لو تحمل جامعة المكان بتمامها اسم هذا العلم الطيّب الذكر الذي وافاه الأجل المحتوم يوم الجمعة 04 أفريل 2015.

أقوال مأثورة

ومن أقواله المأثورة رحمه الله : ” إنّ الإسلام لا يخشى العلم والحضارة ويستطيع المسلم كما يجب عليه أن يستخدم وسائل الحضارة الحديثة من علوم تطبيقية وصناعة ومساواة بين الرجل والمرأة وتحديد الولادات ومن المهمّ أن يتحرّر من العادات الجامدة.
إنّ الإسلام إنّما هو دين يسمو بالإنسان بلا انقطاع درجة درجة نحو الكمال.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى