صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: هل كانت حضارة قرطاج على ديانة النبي إدريس عليه السلام؟

slama
كتب: نوفل سلامة

في سياق التوجه الجديد من التشكيك في الكثير من المعارف التاريخية التي وصلتنا من المدونة الفكرية الأوروبية، وعدم الاطمئنان إلى ما اعتبر حقائق ثابتة قرّرها الغرب ونشرها في العالم وصدقتها الشعوب وهي اليوم محل سؤال ومراجعة بعد أن اتضح أننا نعيش وهم الحقيقة في الكثير من القضايا ومنها قضايا التاريخ والمعرفة…

وفي سياق رفض هيمنة المركزية الغربية للمعرفة، تأتي الندوة الفكرية التي احتضنتها قاعة صوفينيس بقرطاج ضمن فعاليات الاحتفال بذكرى انتصار القائد حنبعل في معركة كاناي سنة 216 قبل الميلاد مساء يوم الجمعة 2 أوت 2024 لتقديم كتاب ” قرطاج والنبي إدريس عليه السلام ” لنبيل لحمير الباحث في الحضارة القرطاجية والحضارات القديمة ما قبل التاريخ.

قراءة جديدة للتاريخ

هاجس الكتاب والقضايا التي أثارتها هذه الندوة التي تنتمي إلى المباحث التاريخية والقراءة الجديدة للتاريخ القديم ومراجعة الكثير من حقائقه المسلمة هي مساءلة القراءة المقدمة عن تاريخ حضارة قرطاج، كما قدمها لنا الغرب والتشكيك في الكتابة التي كتبتها روما المنتصرة عن تاريخنا القديم ومحاولة تقديم سردية جديدة مختلفة عن قرطاج ترجعها الى أصول دينية أخرى غير الديانة الوثنية التي عرفت بها واشتهرت…
وإيجاد رابط بين القرطاجيين والديانة التوحيدية كما جاء بها الأنبياء والقول بأن قرطاج كانت على ديانة النبي ادريس عليه السلام من خلال ” رمز العقرب ” الذي هو نفسه الرمز الذي اشتهر به النبي إدريس.

جذور توحيدية

منطلق كتاب ” قرطاج والنبي إدريس ” هي مخطوطات قديمة عبرانية وقرطاجية وبونية حديثة كان قد اطلع عليها الباحث نبيل لحمير وهي مخطوطات حقيقية وليست مزورة تثبت بعد دراسة وبحث علمي دام أربع سنوات أن حضارة قرطاج كانت تستعمل رمز العقرب الفلكي وهو رمز مقدس في حياة شعبها، ومؤثر في كل تصرفاتها وهو نفس الرمز الذي نجده عند النبي إدريس عليه السلام بما يفيد أن قرطاج والحضارة القرطاجية كانت لها جذور توحيدية وعلى علاقة بالفكر التوحيدي وأنها لم تكن وثنية فقط، وإنما عرفت مسارا توحيديا على الأقل في بعض فترات من تاريخها..
وأن هذه الأرض التي احتضنت حضارة قرطاج قد عرفت مجيء الأنبياء إليها أو كان لها علاقة قديمة بالديانة التوحيدية قبل مجيء العرب المسلمين الفاتحين من الجزيرة العربية لنشر الإسلام ودين التوحيد بدأ مع النبي إدريس الذي نجد أن العقرب رمزه الفلكي موجود في كتاباتها القديمة، ويقدم نبيل لحمير جملة من الأدلة على أن قرطاج كانت على ديانة النبي إدريس أو أن قرطاج كانت لها جذور وروابط توحيدية من خلال رمز العقرب الفلكي الموجود في جرة قديمة مصنوعة من الخزف تعود إلى العهد البوني خلال القرن الخامس قبل الميلاد صنعها الفنان الاغريقي انتوكيدوس مرسوم عليها قتال بين جندي قرطاجي يسانده في حربه “هرمس” وهو في الأسطورة الاغريقية القديمة نفسه النبي إدريس مع جندي يوناني تسانده أثينا آلهة الحرب وعلى درع الجندي القرطاجي رسم لعقرب هرمس الذي يسنده في معركته…
وكذلك الجدارية التي عثر عليها في مدينة الجم مصنوعة من الفسيفساء مرسوم عليها أبراج فلكية ومن بينها العقرب رمز القرطاج والميزان رمز روما.

رؤية جديدة للحضارات

ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني حسب رؤية الباحث نبيل لحمير أن حضارة قرطاج قد اهتمت مبكرا بعلوم الفلك، وأن الحضارة المصرية والحضارة البابلية والسومرية هي امتداد لحضارة شط الجريد وحضارة الشيش الأولى وهي الحامة وحضارة الشيش الثانية وهي قرطاج، وأن المعابد التي بنيت حسب العقيدة الهرمسية الادريسية التوحيدية هي أقدم المعابد التي تعود إلى فترة ما قبل طوفان النبي نوح بما في ذلك معبد أشمون في قرطاج قد بني في زمن ما قبل الطوفان على اعتبار أن النبي إدريس هرمس قد عاش قبل حصول الطوفان بما يفيد كذلك أن تونس قد عرفت موجة من الحركة التوحيدية التي بدأت مع النبي آدم وواصلها النبي ادريس ابن شيث بن آدم عليه السلام .
فهل من معقولية فيما يقوله هذا الباحث عن حضارة قرطاج وعن علاقتها بالديانة التوحيدية وعبادة الإله الواحد من خلال النبي إدريس الذي يلتقي معها من خلال رمز العقرب المعروف حسب قوله عند النبي إدريس؟
وهل يعتبر ما قدمه من أدلة و معطيات تاريخية ومن قراءة حفرية للتاريخ القديم والنبش في الجذور القديمة التي يقول عنها أن روما والغرب قد غيبتها وتم الغاؤها من المعرفة لإبراز تفوقها وهيمنة نظرتها وفكرها وديانتها؟
وهل فعلا كان لقرطاج علاقة واضحة بشريعة النبي ادريس وتأثر برمزه العقرب وبرجه الفلكي الذي اشتهر به؟
والسؤال الآخر اذا ما صدقنا هذه السردية التي يقدمها نبيل لحمير واقتنعنا بأن لحضارة شط الجريد القديمة وحضارة قرطاج علاقة ورابط بالنبي ادريس فكيف وصل هذا الدين التوحيدي إلينا، ونحن نعلم أن النبي ادريس لم يغادر مسقط رأسه مدينة بابل في العراق القديمة التي ولد بها إلا إلى مصر في زمن الجبتيين المصريين القدامى وهناك أسس ملكا ودولة ولم يغادرها البتة وجاء إليها لما تم التضييق عليه وأجبر على المغادرة والرحيل من طرف شعب قابيل ابن آدم عليه السلام المنحرفين حسب ما تقوله المصادر القديمة التي أرخت لحياة هذا النبي؟

بالرجوع إلى المصادر القديمة الإسلامية والمسيحية واليهودية وحتى الغربية المعاصرة نجد إجماعا فيما بينها على أن النبي إدريس الذي يعود نسبه إلى النبي شيث بن آدم عليه السلام وعاش 360 سنة هو نفسه أخنوخ ENOK المذكور في التوراة وهو نفسه الحكيم هرمس المذكور في الأسطورة الاغريقية وهو نفسه أوزيريس المذكور في المصادر اليونانية القديمة إلها من ضمن آلهة الأولمب الشهيرة وكان إبنا للإله زيوس وأخ لأبولو…
وهذا يعني أنه لا يوجد نبي من الأنبياء حوله اختلاف كبير حول سيرته أكثر من شخصية النبي إدريس عليه السلام، وأنه من الشخصيات الخلافية التي قيل حولها كلام كثير حتى تحولت في بعض الحضارات إلى شخصية أسطورية تقترب من آلهة الاغريق أو اليونان القديمة وجسدته مصر القديمة في تمثال أبو الهول الموجود اليوم إلى جانب الأهرامات كما يقول الكاتب المصري محمد فتحي في كتابه ” تأملات بين الدين والعلم ” حيث يذهب إلى أن صورة تمثال أبو الهول هي نفسها صورة النبي إدريس عليه السلام.
والمسألة الأخرى التي نجدها في هذه المصادر القديمة كتاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير والكامل في التاريخ لابن الأثير ومروج الذهب للمسعودي وكتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي ومعجم البلدان لياقوت الحمري، وغير ذاك من المصادر المسيحية واليهودية القديمة أن هذا النبي الذي يمثل امتدادا مبكرا للنبي آدم وفكره وشريعته ودعوته قد حقق إنجازا حضاريا فارقا في تاريخ الإنسانية وحركة الأنبياء…
فهو إلى جانب مهمته تصحيح الايمان والعقيدة التي انحرفت مع قابيل واتباعه وخروجهم عن شريعة أبيهم آدم قد نقل البشرية إلى طور الحضارة وحياة التنظّم وبث فيها روح المدنية والاحتكام إلى القواعد القانونية وأخرجها من حالة الطبيعة الحيوانية والهمجية الأولى إلى وضع القانون والنظام وإتباع التشريعات ومع هذا النبي انتقل الإنسان الأول من الحياة في الكهوف ولبس الجلود والعيش على مطاردة فريسته إلى العيش في منازل من الحجارة ولبس المخيط وتعلم الكتابة والزراعة…

القلم والكتابة

نقرأ في هذه المصادر أن النبي إدريس هو أول من خط القلم وعلّم الكتابة ودون المعارف والأخبار في وثائق مكتوبة وهو أول من اهتم بالزراعة واعتنى بقواعد الفلاحة حيث ابتكر أدوات للزراعة واستعمل الري والمحراث والشادوف وهو أول من خطط المدن وأسكن الجبتيين المصريين القدامى البيوت بعد أن كانوا يسكنون الكهوف خوفا من الوحوش وهو أول من روض الخيول ودجنها واستعملها في الحروب وفي الاستعمال العائلي وأول من لبس المخيط وابتكر ملابس بها تصاميم بعد أن كان الناس يلبسون خرقا من جلود الحيوان وهو أول من بنى المعابد الضخمة وجعل لعبادة الخالق أماكن خاصة .. وينقل عنه أنه هو أول من اهتم بالطب والنجوم وعلوم الفلك ودعا الناس إلى الاهتمام والاشتغال بها.

هذا كله نجده بإطناب كبير في كل المصادر القديمة التي أرخت لحياة النبي إدريس الذي لا تتداول سيرته بما يستحقه ولم يذكر في القرآن إلا في موضعين فقط و لا يعد من الأنبياء المؤثرين في حركة الأنبياء وما حققوه للبشرية والحال أن ما ينقل عنه إذا ما صدقنا هذه المصادر انجازات كبيرة وعظيمة غيّرت مجرى التاريخ والإنسانية بأن نقلت الإنسان الأول من حالة التخلف والحيوانية وحالة الطبيعة إلى حالة المدنية والتحضر والعلم والمعرفة وعلمه الكتابة والزراعة ولبس المخيط والسكن في بيوت من حجارة عصرية بمفهوم ذلك الزمان الغابر، ولكن الذي لا نجده ولا نجد له أي إشارة هو هذا الرمز للعقرب الذي يستند إليه نبيل لحمير للقول بوجود علاقة ترابط بين هذا النبي وحضارة قرطاج وتواصلا للديانة التوحيدية في حضارة قرطاج.

قضايا خلافية

قد يصح ما استدل به هذا الباحث من وجود روابط قديمة بين حضارة شط الجريد وبعدها حضارة قرطاج مع حضارة مصر القديمة من حيث تنقل البشر والتبادل التجاري والاقتصادي والتبادل المعرفي وخاصة علم الفلك وحركة النجوم، وأنه من الممكن أن رمز العقرب قد انتقل من مصر القديمة إلى قرطاج من خلال التلاقح الحضاري والديني زمن كان النبي إدريس يحكم مصر وأن ديانته انتقلت إلى تونس القديمة وانتشرت بواسطة المؤمنين بها الذين رحلوا من مصر إلى قرطاج واستقروا هناك ومن خلالهم تأثرت قرطاج بالوافد التوحيدي وتبنت هذا الرمز الفلكي ولكن كل ذلك لا يفيد ولا يثبت أن النبي ادريس كان له رمز فلكي وأن هذا الرمز هو العقرب وأن قرطاج تبنته بناء على ايمان بعقيدة التوحيد التي انتشرت في زمن قرطاج الهرمسية الادريسية كما يقوا نبيل لحمير.
هذا نقاش آخر يفتحه نبيل لحمير يضاف إلى كل القضايا الخلافية الأخرى التي أثيرت في المدة الأخيرة والتي على أهميتها تؤكد أننا شعب غير متفق على تاريخه المعاصر فما بالك بتاريخه القديم والقديم جدا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى