فيلم ‘ماشيـة لجـــهنّم’ لاسمهان الأحمر…تصوّر جديد خارج السياق..

كتبت: صفاء سلولي
من الجمل المألوفة جدّا في السّياق التّداولي التّونسي ونحن نتكلّم، هي جملة “ماشي/ة لجهنّم” خاصّة إذا كان هناك الإلحاح في حبّ معرفة وجهة مّا، نريد أن نتكتّم عنها أو كنّا لا نرغب في الخوض في ذلك الأمر أساسا غضبا من الفضول أو من الوعظ المملين دائما…
لتصبح هذه الجملة وسيلة لإنهاء الحوار والاستفسار عمّا سيكون من طريق أو ردّة فعل معيّنة…
ماشية لجهنّم…فيلم طويل، يحمل تصوّرا جديدا للموت:
اختارت المخرجة اسمهان الأحمر أن تسم عملها الفنّي بهذا العنوان، الذّي نراه يضعنا من ناحية في قلب اللّسان التّونسي ،ومنه في جوهر تونسيّتنا،لكن هو عنوان مستفزّ بضع الشيء من ناحية أخرى: لأنّه يرسم في أذهاننا عدّة نقاط استفهام قبل مشاهدة الفيلم:
ماشية لجهنّم: كان فيه المتكلّم/ المتحدّث، امرأة: فهل تلفظّت بهذه الجملة لأنّها غضبت من الذّين يريدون العيش داخل حياة غيرهم أكثر من حيواتهم أم هي امرأة تسأل الحرارة بشكل من الأشكال مناخا أو عاطفة أم هي تسير نحو النهاية: نهاية تجربة أو نهاية مطاف؟ هل ستنعزل عن العالم أم ستكون مع رفاق؟؟ هل جهنّم تنتمي إلى عالم الأرض أم إلى عالم السّماء؟؟
نظنّ أنّ المخرجة تعمّدت أن تجعل المتلقّي يقف عند عبارة “ماشية لجهنّم” في محاولة منها لجعله يتشوّق بحثا عن تلقّف المعنى والحصول على أجوبة لما طرح من أسئلة، في ضرب من ضروب عقود التّواصل بين المنتوج الفنّي وجمهوره.
الموت…هو حتميّ لامحالة ولا شكّ في ذلك، لكن كيف نستقبله إذا كنّا على وعي تام باقترابه؟ نجاة بطلة الفيلم، علمت بكون أيّامها معدودة وهي في فرنسا…فقرّرت أن تعود إلى تونس لتموت كما تشاء في طقوس استثنائيّة.
نجاة ومن معها…حياة وحيوات في مواجهة الموت:
بُني الفيلم وحكايته على المرأة الأربعينيّة نجاة، غير أنّها لم تكن وحيدة. فهي التّي اختارت أن تغادر بيتها الصّغير الدّافئ الحميميّ في فرنسا، تاركة زوجها عمر، باتجاه تونس بقرار لم يستغرق منها أيّاما أو أشهرا إذ لم يعد لديها الوقت ليُهدر ويضيع دون فائدة.
كان اللقّاء الموعود في المنزل المطلّ على البحر، مع مجموعة من الأفراد:العائلة: الأم والأخت منيرة والأخ مالك، الأصدقاء: سناء وطفلتها لينا، وإيمان ومجيد.
يقال إنّ “الاسم سيّد الدّوال”، واسم نجاة فيه دلالة الرّغبة في النّجاة من تلك الأصوات والصّور التّي خزّنتها في ذاكرتها وتريد أن تلفظها من جوهرها لتشعر براحة ولو نسبيّا.
صوت نجاة بين فاتحة العمل ونهايته:
يبدأ الفيلم بصوت نجاة ويغلق به: في البداية حدّثتنا عن حبّها الشّديد لعروس البحر لأنّ قوّتها كان في صوتها لا في جمالها. وهذا يُفهم لأنّ نجاة لم تكن امرأة كثيرة الاهتمام بالمظهر الخارجي ولم نر تقريبا اهتمامها بمساحيق التّجميل فكانت أقرب إلى الطّبيعة…غير أنّها تعتقد أنّ الطبيعة قد حرمتها من تضاريس أنثويّة كريمة، خاصّة في مستوى المؤخّرة، فلا يمكن أن تكون في لباس عروس البحر جميلة كما تريد: ولعلّ هذا السّلوك يبين التّناقض الذّي يعيشه الإنسان رجلا كان أو امرأة أحيانا، كأن نقول إنّنا لا نخاف الموت ولكنّنا نكذب. لذك قرّرن أن تجري عمليّة تجميليّة لتحصل على الجسد الذّي تريد، جسد عروس البحر، قبل رحيلها تجاه الخلود.
نجاة عادت بنا إلى طفولتها: شغفها بعروس البحر ولَوْمها لأريال لأنّها ضحّت بصوتها من أجل رجل…حينها تتذكّر نصيحة والدتها لها عندما أكدت لها ضرورة التّضحية بشيء أو بشخص غير أنّه ينبغي عليها أن تختار بما أو بمن ستضحيّ….لتنتهي إلى خواء هذه النّصيحة ولا معقوليّتها فلا فائدة من التّضحية وليس من الضّروري مطلقا أن نضحي لغاية مّا.
البحر…عروس البحر:
البحر ومتعلّقاته لم يكن مجرّد إطار لاستيعاب الأحداث وتطوّرها إنّما كان من فواعل القصّة: فعند هروبها من مواجهة حصص العلاج وتحمّل البروتوكول الصحّي الذّي اقترحه الطبيب وعندما كفرت بالفحوصات والمستشفيات…كان الملجأ المنزل الأزرق: منزل البحر…عندما شعرت بالوهن والتّعب كانت تستلقي في سريرها المطلّ على البحر… عندما يعرف الجنون طريقه إلى عقلها…تنزل إلى البحر مع وسادتها لتنام على رماله وعلى إيقاع أمواجه…عندما تغضب من رتابة الأفكار في المنزل…ترتدي لباس عروس البحر وتترك جسمها يتحرّر من أوجاعه متشبّعا بالماء منسابا معه…
البحر هي…وهي البحر:وهو الأمر الذّي جعلها تختار لجثّتها أن “تعيش” فيه: هكذا كانت وصيّتها في احتفاليّتها بالموت.
نجاة…وعالم النّساء القريب منها البعيد عنها:
توزّعت ملامح علاقتها بنساء عالمها المختزل على منحيين اثنين:تمثّل المنحى الأوّل في التّواصل، خاصّة مع إيمان التّي كانت تعمل في الحانة مع مجيد لأنّها طردت من عملها الأوّل بسبب التزامها بالقضايا النّسوية وهي التّي تؤمن بالحياة وبالحريّة وبتفوّق المرأة على الرّجل حتّى في مستوى الرّائحة …كلّفها نضالها من أجل أفكارها الكثير ولكنّها امرأة تتحمّل مسؤوليّة إيمانها الحقيقي بالإنسان…وقد كانت تُصغي جيدا إلى نجاة حتّى قبل أن تتكلّم …وسعت إلى أن تدخل الفرح لقلبها عبر تفاصيل الدفء:الأكل والعائلة والأصدقاء والاحتفال والحفاوة لتبعد عنها الوجع. وسناء “عشيرة عمرها” هي الضّياء والرّفقة كاسْمِها، وهي الأم الهادئة شديدة الحرص على سلامة ابنتها لينا حدّ الهوس، سليلة عائلة محترمة ابنة القاضي المعروف رغم جانبها المحافظ فهي قريبة من نجاة لأنّها رفيقة الطّفولة.
أمّا الأمّ فهي الحبيبة التّي تخشى على ابنتها من الغياب والفناء، غير أنّها تشبه الأخت منيرة بلباسها الأسود والحجاب الأسود والجو الأسود:مع ذِكْر مكثّف لله الدّعاء والتّوبة والعقاب. وفي هذا الجانب تلتحق الأم بالمنحى الثّاني، أي الانفصال، هي ومنيرة لأنّهما يعيشان ربّما لكن هما من “الجثث الحيّة” التّي تحسب نفسها على قيد الحياة باطلا… وهنا يتعالى الخطاب الدّيني “خّفف ذنوبك” “ربّي يهديك يا بنيتي ويصلح رايك” “عاقبتك جهنّم وبئس المصير” “تابوت النّصارى”…نجاة علاقتها بالذّات الإلهية كانت علاقة سطحيّة لنقل علاقة حريّة، فكلّ حرّ في مجاله: اللّه في عالم السّماء ونجاة في عالم الأرض…
هما تتحدّثان عن ما بعد الموت وما قبله وهي تشتهي كأس النّبيذ وقت الغروب: أليس النّبيذ نشوة الرّوح والفؤاد؟
منيرة قاتمة الهيئة عبوسة الوجه عظيمة البنية: وهو ما جعل الصغيرة لينا تعتبرها الموت…وهي لم تكن على خطأ لأنّها صورة من صوره بالتّأكيد: فأن تقضيّ حياتها مستعدة للموت دليل قطعي على أنّها لم تنعم بالحياة مطلقا. منيرة هي ظُلمة شكلا ومضمونا: كتلة متنقّلة من الكره والضّغينة والتّكفير والتّهديد والوعيد…بعيدة عن الآدميّة وكأنّها جماد لا يشعر لا بنفسه ولا بالآخر: هي في نظرها استوفت صورة المرأة المسلمة: الحجاب والعبادة والفتوى والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أتمّت نصف دينها بالزّواج والإنجاب ونجحت في إنجاب الذّكور وهي تكره الذّكر الذّي لم تجده في الأخ مالك المثليّ الجنس مدمن الخمر.
نجاة…وعالم الرّجل بين الصّدق والكذب:
ألحت نجاة في أن تذهب إلى الموت بطريقة تختلف عن الطريق الذّي سلكه والدها عنوة وهي المسألة التّي لم تغفرها لوالدتها…الأب في مخيّلتها ضحيّة من ضحايا المستشفيات وإصرار العائلة على أن يبقى المريض على فراش الموت إلى أن يلاقيه وهو منهار تماما.
لنجاة زوج بمرتبة الحبيب هو عمر وهو الذّي توسّل إليها كي تتعالج من الدّاء وتزيد في عمر حياتها معه دون أن يتمكّن من إقناعها…وغادرت منزلهما دون أن تعلمه. ولم يهجرها إنّما سافر إلى تونس هو أيضا ليبقى سندها ويتّبع خطواتها إلى أن تنتهي رحلة حياتها…كان لطيفا شديد العناية بها: هو العاشق والمعشوق، فهي تحبّه وتشتاق إليه، يأخذ بيدها ويحقّق رغباتها حتّى في أن تصبغ شعرها مغيّرة لونه من الأسود إلى الرّمادي وهو ما قام به بنفسه، لأنّها رأت أن الموت أراد القدوم باكرا وهي في الأربعين فأرادت أن تشيب وتحتفل زيفا وفي مخادعة للزّمن والتّاريخ بعيد ميلادها السّتين وفي مشاركة مع أحبابها كالعادة.
أمّا مالك فهو الأخ المختلف في مجتمع تقليدي، يسجن فيه الشخص لمثليّته.هو يدّعي أنّه يمتلك اختياراته لكنّه ضحيّة نفسه وضحيّة الآخر: يقضّي أغلب وقته مخمورا، ويتّفق له أن يغنّي في الحانة أو بجوار الشّرطيين المقربين من العائلة فيشبعنا نشازا …إلاّ أنّه يحبّ أخته ويجدها نسخة منه: مختلفة ولا تريد أن تكون نسخة مشوّهة عن الآخرين الذين ترى الموت في وجوههم. دون أن ننسى مجيد هو الصّديق الصّدوق الذّي يحتضن الجميع في كلّ الأفضية الخاصّة والعامّة والمغلقة والمفتوحة.
“العشاء الأخير” وسقوط الأقنعة:
اجتمعت نجاة وأحبّتها في حفلة عشاء على حافة البحر، الأكل والنّبيذ ونسمات البحر والضحك والزّهو والطّرب…سأل عمر عن أب لينا. ففسّرت نجاة كيفيّة إنجاب الطفلة من خلال بويضتها وتخصيب اصطناعي مخبري وهو ما تراه مساعدة لصديقة أرادت أن تكون أمّا رغم عقمها…
هذه المساعدة لم تعجب عمر بل كانت بمثابة الصّدمة فهو لم يقبل الفكرة التّي اكتشفها لأوّل مرّة ليلتها، فعبّر عن امتعاضه وغضبه…غضبه هذا، سيجعل كلّ فرد من الحاضرين يكشف أمورا سُكت عنها أو أخفيت: مالك اعترف بعلاقته الجنسيّة مع زوج أخته بعد ليلة خمريّة متميّزة…ثمّ يلوم سناء لأنّها لم تكن له نعم السّند والصديقة عندما سجن…سناء تنزّه والدها القاضي عن التدخّل في هذا النّوع من القضايا… إيمان تقول لها بأن والدها رجعي وقذر رغم جدارته في القضاء المعترف بها في المحكمة الدّوليّة…نجاة تضع سناء في حجمها الطّبيعي فهي ليست على ما عليه اليوم بجهدها وعملها، إنّما بمال والدها وهي لا تعرف كيف تكون امرأة سعيدة …مجيد يهدّأ الأجواء …فيوجه له مالك وإيمان أصابع الاتهام وهو الذّي تخلّى عن حبيبته سناء لعدم قدرتها على الإنجاب وتزوّج من امرأة لم يخترها إنّما كان اختيار والده وأنجب منها أطفالا دون أن ينجح في أن يكون الزوج أو الأب المثالي فأهمل أطفاله في كفالة الأمّ….وكأنّ الصّادق الوحيد في هذا الحفل إيمان: لم تتزوّج…لم تبع جسدها… لم تنجب…لم تخن قيمها …تحبّهم وتحبّ نفسها وجسدها وعقلها وفكرها…وتحبّ الحب. إنّما هم عصارة الهمّ والوهم وواجهة الكذب والاختفاء.
هذه المناسبة تحوّلت من المتعة إلى الكشف والفضح ومن العناق إلى الانعتاق من براثن الكذب صدى لما يبعثه فعل الخمر في عقل شاربه عندما تضعف سلطة الرّقابة والتحفّظ.
نجاة …حفل الموت:
رأت نجاة نفسها صغيرة على الموت…لكنّها تقبّلت الفكرة بطريقتها الخاصّة…المرض أكل الجسم وسيأتي على ما تبقى منه…فلها أن تموت مع من تحب ومثلما تحب…هي “ماشية لجهنم” ماشية لجهنم، كما تظن منيرة وأمّها فلتذهب إليها وهي عروس بحر.
الحفل كان مكتمل العناصر: الضّيوف، الموسيقى، الغناء، الورد، الأحبّة. لم يكن هناك فوضى في مستوى الألوان: اللّون الأبيض للجميع ما عدى العروس كان لون لباسها اللّون الأزرق مثل لون التّابوت الذّي صمّمته هي نفسها، بمقابض ذهبية وفيه عطرها المفضّل: ينسجم اللّونان مع المناسبة، فالأبيض من رمزيّته الموت لون الكفن والملح والأزرق من رمزيّته الجرأة والقوّة: ونجاة كانت جريئة وهي “ماشية لجهنّم” بعقدها الجميل وقد زفّها كلّ الذّين تحب إلى الموت وهي عروس البحر ومن البحر وإليه زرقاء منسابة حرّة مثله. لم يفسد هذا الانسجام والتّناغم إلا قدوم الأمّ بسوادها في أخر الاحتفال.
ماشية لجهنّم…موت مختلف عن الموت…الموت في صيغة المفرد والجمع:
تقول نجاة إنّنا لا نريد نطق عبارة: مات فلان فنلطّف الأمر بعبارات أقلّ حدّة: ‘توفّى” “عطاك عمرو” “الدّوام لله” “الله يرحمو” “يعيش راسك”…وكأنّ نطقنا بالموت يخيفنا… فالموت والخوف وجهان لعملة واحدة هي الحتميّة: وعليه ينبغي أن نفتح لهما النّوافذ ليدخلا سالمين حينها سنواجه الموت بالفرح حتّى وإن كان مقنّعا برائحة النّهاية.
تمكنت إسمهان الأحمر التّي لم تكن المخرجة ومؤلّفة القصّة فقط إنّما كانت هي بطلة الفيلم مع باقة مهمّة جدّا من الممثلين: فاطمة بن سعيدان ورشيد عبد الحميد وسليم عاشور ومراد الغرسلي وهالة البراهمي وغيرهم، من كشف الموت المتعدّد في صيغة المفرد والجمع: ونقصد، جميعنا نتخيّله نهاية سعيدة للميّت “ارتاح مات” إذ سيرتاح من عالم الدّنيا الثّقيل ويرتقي إلى عالم السّماء المريح…في المقابل هو بداية الألم لكلّ من يحبّ الفقيد لأنّ الموت كما يقال يقتل الأحياء حزنا قبل بلوغ مرحلة الحداد.
كما ينسب إلى الموت جملة من الأخبار المنجرّة عن عدّة مرجعيات دينيّة وتاريخيّة وخرافيّة في تصوّر ما قبل الموت وما بعده: وهنا يكون الخوض في سيرة من مات واستقامته أو انحرافه عن المألوف والمقبول اجتماعيا وأخلاقيّا وعقائديّا وكيف ستكون عاقبته خيرا أو شرّا تحت التّراب وفوقه.
هكذا هو الموت في المخيال الجماعي الكونيّ…حزن وبكاء وثواب وعقاب وفتوى…جنازة فيها يكون الضحك “خلسة” من أعين الرّقباء حرّاس قداسة الحزن…وهو ما أرادت المخرجة أن تقطع معه في تصوّر جديد لجنازة فرديّة يختارها من علم بموته مسبقا، كما عنّ له… ألا يحقّ للفرد الاختيار، اختيار كيفيّة الذّهاب؟ وهل نحن نموت مرّة واحدة أم عدّة مرّات؟؟ ألا نموت عندما نرضي الآخر على حساب سعادتنا؟ ألا نموت لحظة الصّمت والظّلم والضّعف؟ ألا نموت قبل الموت ميتات متعدّدة في لحظات متعدّدة…
هذا الفيلم هو عبارة عن فعل تفتيت للمفاهيم المتصلّبة وخلق طريف لقبول الاختلاف حتّى في تقبّل العلّة والتّعامل مع الألم وانتظار الحتف.