صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب/ كتاب ‘فتحي زهير الوساطة الضائعة في الخلاف البورقيبي اليوسفي’: وما زال النقاش متواصلا…

slama
كتب: نوفل سلامة

مازالت دعوات إعادة النظر في تاريخ الحركة الوطنية متواصلة ومازالت المطالبة بإعادة النظر في بعض محطاتها التي حولها اختلاف ونقاش قائمة، وخاصة ما تعلق بالرواية الرسمية التي روجتها دولة الاستقلال وكتّابها المؤيدون لها من المؤرخين للمنتصر من الصراع الداخلي حول السلطة والحكم ومازلت أحداث الماضي القريب تثير الكثير من الأسئلة ومن هذه الأسئلة لماذا تم حجب الكثير من الأسماء المناضلة؟

سردية الشخص الواحد

والشخصيات الفاعلة من الصف الثاني والثالث وحتى الأول التي لعبت دورا في الاستقلال وبقيت مهمشة ومغيبة أمام بروز اسم شخص واحد في سردية تجعل من الاستقلال جهد وإنجاز رمز واحد لا غير؟

في هذا المسعى من إعادة الاعتبار للكثير من الرموز والأسماء التي كانت ضمن القائمة الطويلة من المناضلات والمناضلين في مسيرة الحركة الوطنية التي بدأت مبكرا منذ سنة 1881 لا كما يقولون مع تأسيس الحزب الدستوري الجديد بقيادة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ، تأتي الندوة الفكرية التي نظمتها المندوبية الجهوية للثقافة بأريانة بالاشتراك مع إدارة مهرجان رواد الصيفي واحتضنتها دار الثقافة برواد مساء يوم الاثنين 22 جويلية 2024 لتقديم كتاب
العميد فتحي زهير: الوساطة الضائعة في الخلاف البورقيبي اليوسفي ” لـ فاخر الرويسي وهو مؤلف صادر عن دار تونس للنشر يحتوي على ثمانية فصول تضمنت الكثير من المعطيات والمعلومات والصور والوثائق الأرشيفية والشهادات في محاولة من الكاتب تسليط الضوء على شخصية غير معروفة في تاريخ الحركة الوطنية ولا يُذكر اسمها إلا في المجال الرياضي لما تقلد فتحي زهير رئاسة جمعية النادي الافريقي من سنة 1967 إلى سنة 1970…

إسهامات كبرى

والحال أن الرجل وإن كان مصنفا ضمن الصف الثالث في ترتيب رموز الحركة الوطنية قد كانت له إسهامات في النضال الوطني زمن الاستقلال وبعده وخاصة الدور الذي لعبه في التقريب بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف مستغلا القرابة التي كانت تجمعه بــ بن يوسف الذي كان متزوجا من شقيقته صوفية و إنصافا لرجل جانبه التاريخ وظلّت مناقبه مغمورة كما يقول عنه أصدقاؤه ومن يعرفه، وقد تولى تقديم الكتاب وإدارة النقاش الصديق محمد المي.

النشأة الأولى

في الكتاب حديث عن النشأة الأولى لـ فتحي زهير حيث تعود أصوله إلى الاندلس فهو منحدر من عائلة أندلسية مهاجرة قدمت إلى تونس في زمن عملية الطرد التي تعرض لها المسلمون في أيام التطهير العرقي والديني الذي عرفته الأندلس على يد الكنيسة المسيحية، سكنت عائلته الحاضرة و اشتغل والده الشاذلي في عشرينات القرن الماضي في القضاء أما والدته جميلة درغوث ابنة المناضل على درغوث فقد عرفت بنضالها الوطني ضد المستعمر الفرنسي ويُذكر عنها أنها كانت فاعلة في أحداث 9 أفريل 1938 التي ذهب ضحيتها الكثير من التونسيين وكانت إحدى المحطات الفارقة في تاريخ النضال الوطني من أجل الاستقلال.
يُذكر عنه أنه انضم إثر عودته من باريس بعد حصوله على شهادة المحاماة سنة 1940 إلى مكتب مصطفى الكعاك المحامي والناشط السياسي ورئيس الحكومة التي عينها الأمين باي سنة 1947 ومع الكعاك بدأ الوعي السياسي يتشكل للشاب فتحي زهير وبدأ يتعرّف على المشهد العام في البلاد ويلتقي برموز الحركة الوطنية وبدأ ينفتح على الطبقة السياسية عموما مما جعله ينضم مبكرًا إلى صفوف الحركة الوطنية لتبدأ مسيرة طويلة من النضال والكفاح الوطني..

زيجة ملكية

اقترب من قصر الباي والعائلة الحاكمة بعد زواجه من الأميرة تراكي حفيدة المنصف باي وقد كان قربه من مصطفى الكعاك وهذه الزيجة الملكية أثر في أن يحظى بثقة الباي الذي عينه مستشارًا قانونيًا عنده أثناء الفترة التي عرض فيها الباي الإصلاحات التي اقترحها على المقيم العام الفرنسي “دو هوت كلوك”.
في الكتاب حديث عن دور لعبه فتحي زهير وأصدقاؤه الشاذلي باي ابن الأمين باي وصديقه الدكتور عبد الرحمان مامي الذي كان الطبيب الخاص لقصر الباي في رفض المقترحات الفرنسية وكان ضمن هيئة الأربعين التي شكلها الباي في سنة 1952 وكانت تمثل مختلف مكونات الشعب التونسي وممثليه من الحزبين الدستوريين القديم والجديد والاتحاد العام التونسي للشغل والجامعة العامة للموظفين وجمعية الشبان المسلمين وعن هيئة علماء ومجلس الشرع بجامعة الزيتونة وهيئة المحامين وعن الأطباء وعن الجالية اليهودية وعن الصيادلة وعن الاتحاد العام للفلاحة التونسية…

وكان فتحي زهير وقتها مقررًا عاما لمجلس الأربعين الذي رفض مقترح الإصلاحات الفرنسية وأقر المطالبة ببرلمان تونسي الأمر الذي اعتبرته فرنسا تطورا في المطالب التونسية وبداية الخطر الحقيقي على وجودها و تهديدا جديا لسلطتها.
وحديث آخر عن معلومات ومعطيات من خلال الأرشيف المتوفر عند صاحب الكتاب فاخر الرويسي عن حصول الوعي لدى السلطات الفرنسية عما أصبح يمثله فتحي زهير ورفاقه من أعضاء المجلس الأربعين وعن النشاط الذي تقوم به هذه المجموعة الناشطة والمتقدة حماسة والتهديد الذي يمثلونه فقررت ملاحقتهم وتصفيتهم حيث تعرض فتحي زهير إلى محاولتي اغتيال الأولى بوضع قنبلة عند باب منزله أثناء لقاء كان قد جمعه بالزعيم فرحات حشاد والثانية بإلقاء قنبلة يدوية بشرفة منزله وبعد اغتيال الزعيم عبد الرحمان مامي توقع الجميع أن يأتي الدور على فتحي زهير مما جعله يختفي عن أعين البوليس الفرنسي لكن اليد الحمراء كانت قد اغتالت الزعيم النقابي فرحات حشاد في يوم 5 ديسمبر من سنة 1952 وبعده الزعيم الهادي شاكر في 13 سبتمبر من سنة 1953 واعتقلت كل من علي البلهوان ومصطفى الدلاجي ومحمود المسعدي ومحمد علي العنابي والدكتور سطا مراد والهادي نويرة وفريد بورقيبة والصادق المقدم وفتحي زهير.
من المعلومات التي لا تتردد بكثافة ولا يتم تداولها عند الحديث عن رموز الحركة الوطنية ما كشف عنها الكتاب من أن السلطات الفرنسية قد رفضت أن يكون فتحي زهير ضمن الفريق الحكومي في الحكومة التي شكلها الطاهر بن عمار أياما قليلة قبل البدء في عملية التفاوض مع فرنسا حول الاستقلال وتم إجباره على الانسحاب ولكن الطاهر بن عمار قد ضمه إلى فريق التفاوض على الاستقلال الداخلي الذي انطلقت جلساته بباريس من 4 إلى 13 أكتوبر 1954 وقد لعب حسب فاخر الرويسي دورا في مفاوضات الاستقلال الداخلي وأوكلت إليه مهمة صياغة البروتوكول النهائي للاستقلال الذي أثار جدلا كبيرا لكون هذه الوثيقة لم تنشر وبقيت مخفية على عموم الشعب الذي لم يطلع على بنودها التي وصفت بالخطيرة و تضمنت إجراءات فيها مواصلة للاستعمار وادامة الارتباط مع المستعمر القديم إلا بعد الثورة.

لعب دور الوساطة؟

من المسائل التي تعرض لها الكتاب وأثارت تساؤلات وفتحت نقاشا معرفة موقف فتحي زهير من الخلاف اليوسفي البورقيبي خاصة إذا علمنا أنه قريب من بورقيبة وفي نفس الوقت له علاقة قرابة و نسب مع الزعيم والرجل الثاني في البلاد صالح بن يوسف ومعرفة هل لعب فعلا دورا في تقريب وجهات النظر بين الرجلين؟ وهل كان له وزن في هذا الصراع على الحكم الذي انتهى نهاية مأساوية معروفة باغتيال صالح بن يوسف على يد عناصر كان قد كلفها بورقيبة لتصفيته في صائفة سنة 1961 بمدينة فرانكفورت الألمانية؟ وهل فعلا قام بعملية وساطة وفي أي اتجاه كانت؟

يقول فاخر الرويسي إن فتحي زهير قام وبطلب من بورقيبة بالتوسط بينه وبين بن يوسف لاعتبارات الصداقة والمصاهرة التي كانت تربط فتحي زهير بصالح بن يوسف وطلب منه إقناعه بالعدول عن معارضته في المطالبة بالاستقلال الداخلي وإنهاء هذا الخلاف السياسي لكن عملية تقريب وجهات النظر قد باءت بالفشل بعد أن أعلمه بن يوسف أنه ماض في طريقه للمطالبة بتحرير كامل للبلاد واعتراف فرنسا بالاستقلال التام ودون شروط ولا مراحل..

ولعل الظرف الذي جاءت فيه هذه الوساطة وتطور الأحداث التي عرفتها البلاد بعد الاجتماع الذي جمع زعماء قبائل الهمامة والفراشيش بصالح بن يوسف واقتناعهم بنهجه للتحرر والاستقلال ومواصلة الكفاح المسلح حتى خروج آخر جندي فرنسي من ترابنا قد أفشل الوساطة وعملية المصالحة ليتم اتخاذ القرار النهائي بتصفية بن يوسف بعد أن بات يمثل تهديدا حقيقيا للحزب الدستوري الجديد ولفرنسا وخياراتها وما رتبته لتونس بعد الاستقلال..حيث اتضح أنها كانت تريد مفاوضا وحيدا يكون في صفها ولا يخرج عن قرارها ولا يُحرجها في عملية الاتفاق على الاستقلال ومما ذكره فاخر الرويسي في كتابه عن هذا اللقاء أنه انتهى بما قاله بن يوسف لصهره فتحي زهير” إن أعضاء الديوان السياسي كلّهم أعدائي و توجه إليه قائلا ربّما ألتقيك واصافحك لأسباب أخرى أنت تعرفها ”

تهريب صالح بن يوسف

من المعلومات التي قدمت في هذه الندوة عن حياة فتحي زهير أنه لعب دورا في تهريب صالح بن يوسف وكان وراء الترتيبات التي قام بها بمعية المنجي سليم وسعيد محمد عمر المكلف من طرف رئيس الحكومة الطاهر بن عمار بعد أن علم هذا الأخير أن حياة صالح بن يوسف قد باتت في خطر وأن الرئيس بورقيبة وفرنسا قد قررا تصفيته والإبقاء على مفاوض وحيد لفرنسا هو بورقيبة وأن مليشيات من الحزب قد تشكلت لملاحقة أتباعه ومناصريه والتنكيل بهم واغتيالهم.
ولكن الأمر المحير واللافت للنظر والذي بقى دون إجابة هو موقف فتحي زهير من عملية اغتيال صالح بن يوسف زوج أخته صوفية حيث لم يعرف له ردة فعل ولا موقف ولاذ بالصمت ويرجع البعض هذا الموقف الباهت من فتحي زهير من عملية التصفية الجسدية التي طالت صهره إلى الامتيازات التي تحصل عليها بعد الاستقلال وإلى قربه من دولة الاستقلال ونظام الرئيس الحبيب بورقيبة حيث كان في سنة 1956 عضوا في المجلس القومي التأسيسي ثم سفيرًا فوق العادة بالمملكة المغربية في سنة 1957 ثم سفيرًا بروما في سنة 1961 وسفيرًا بموسكو وبولونيا في سنة 1962 وانهى مشواره السياسي وزيرا للصحة في حكومة الباهي الأدغم سنة 1964.

إصدار هام

كتاب فاخر الرويسي من الإصدارات الهامة التي تؤرخ لجانب من تاريخ الحركة الوطنية وقد احتوى على وثائق أرشيفية وصور وشهادات كان والده قد احتفظ بها عن فتحي زهير أهميتها تكمن في كونها سلطت الضوء على شخصية غير معروفة في تاريخ الحركة الوطنية وقدمت للقارئ التونسي شخصية يبدو من خلال الكتاب أنها لعبت دورا في النضال الوطني وخاصة مرحلة مجلس الأربعين ومرحلة التفاوض على الاستقلال ومرحلة الأزمة اليوسفية البورقيبية…
وكانت حاضرة في تلك الأجواء المتشنجة و المشحونة التي أدخلت تونس في نفق الاغتيالات والتصفيات للخصوم السياسيين ولكن المشكل أن هذا الكتاب تم تقديمه العديد من المرات وكان في كل مرة يحتفى به وبصاحبه وتقدم شهادات عن حياة ومناقب فتحي زهير من أشخاص معتبرة ولكن الغائب كان مناقشة الكتاب ومحاورة المعطيات والمعلومات التاريخية التي كشف عنها و منها هل يمكن أن يعود عداء بورقيبة للطاهر بن عمار إلى الدور الذي قام به في مساعدة صالح بن يوسف للهروب إلى ليبيا لما علم بأن بورقيبة قد قرر تصفيته ؟
وهل فعلا كان فتحي زهير مؤثرا في مجلس الأربعين و أثناء مرحلة التفاوض مع الجانب الفرنسي على تصفية مرحلة الاستعمار ؟ وهل فعلا كان بورقيبة على علم بقرار تصفية مجموعة الأربعين التي طالبت ببرلمان تونسي والتي رفضت مقترحات سلطة الحماية ؟ وهل فعلا كان فتحي زهير يمثل خطرا على فرنسا التي اتخذت قرار تصفيته بما يجعله لا يقل قيمة عن فرحات حشاد وكل الزعماء الذين قامت فرنسا بتصفيتهم.؟ وأخيرا هل قامت دولة الاستقلال بشراء صمت فتحي زهير إزاء عملية الاغتيال التي تعرض لها صهره صالح بن يوسف بتعيينه في مناصب مختلفة آخرها كان تقلد منصب وزيرا للصحة في حكومة الباهي الأدغم؟
هذه أسئلة وغيرها كثير تحتاج إجابة من المؤرخين ومن البورقيييين القدامى الذين عاصروا الرجل وكانوا شهداء على عصر لا يزال إلي اليوم يثير الكثير من اللغط والجدل ويدفع لإعادة النظر في كل ما كتب عن تاريخ الحركة الوطنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى