نوفل سلامة يكتب/ الانتقال من عالم ظالم نحو عالم خادع: ‘التزييف العميق’

كتب: نوفل سلامة
عرف العالم بعد الحرب العالمية الثانية إرساء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من الدول الغربية التي خرجت منتصرة من الحرب، وتشكلت منظومات وهيئات تابعة له وفي خدمته في شتى المجالات الحيوية الحساسة من مجلس الأمن ومنظمة الصحة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي…
بالاضافة إلى منظومة عسكرية تتدخل لحل النزاعات وغيرها من الهياكل التي بفضلها تم تنظيم العلاقات بين الدول والتحكم في الشعوب والسيطرة على كل المجالات الإنسانية…
منظومة العولمة
وعرف العالم في ظل هذه السيطرة الأطلسية ما سُمي بمنظومة العولمة التي أرست سياسات اقتصادية ونقدية وتجارية، ووجهت العلم والمعرفة وتحكمت في التشريعات والقوانين الدولية وارست منظومة كونية تكرّس وحدة الحقوق والحريات وفرضت على الجميع الانصياع لها والاحتكام اليها…
وتدخّلت في المجالات السيادية للدول وحتى الهويات والخصوصيات الثقافية والدينية التي تميز كل شعب ودولة وما يشكل ثقافتها وتاريخ شعبها وأصبح كل شيء في ظل هذا النظام العالمي كونيا وانزاحت الحدود وسمح بانسياب السلع والبضائع والأفكار والأموال، وتنقل البشر وتحول العالم إلى قرية صغيرة كل شيء فيها مفتوح على بعضه من دون أي اعتبار للحدود والهويات والخصوصيات والثقافات والسيادات بما سمح للقوى المهيمنة والتي تقود هذه المنظومة العالمية من التدخل متى تشاء و فرض قراراتها وسياستها كيفما تريد…
هذه المنظومة العالمية التي هي وليدة الحداثة الغربية وثمرة من ثمار عصر الأنوار وعالم الأفكار الأوروبية الأطلسية، قد بشرت الانسانية بعالم مزدهر في ظل أنظمة ديمقراطية شكلتها بمفردها وعلى طريقتها قائمة على الإعلاء من إرادة الفرد وحقوقه وحرياته وتحقيق رفاهيته… ووعدت بمحاربة الفقر وتوفير العيش الكريم للإنسان والتقليل من حالات التهميش والبطالة والحرمان والتقليل من منسوب المخاطر الاجتماعية والبيئية التي تهدده وتهدد كوكب الأرض، ووعدت بتحقيق العدالة بين الشعوب والدفاع عن المعذبين والمحرومين في الأرض والوقوف إلى جانب ضحايا الظلم والقمع والاستبداد والانتصار إلى القضايا العادلة للإنسان كالوقوف الى جانب حركات التحرر في العالم ومناهضة التمييز العنصري والابادة الجماعية للشعوب بسبب الكراهية والانتماءات الدينية والعرقية.
تحايل وزيف
هذه المنظومة العالمية التي فرضت قيمها وأفكارها وحددت نمط عيش للبشرية وتحكمت في المعرفة والثقافة والهويات اتضح اليوم أنها وصلت إلى مداها واستنفذت أغراضها، واتضح قصورها في تحقيق كل الوعود التي وعدت بها وبان تحايلها وزيفها في إسعاد البشر وفي إشاعة العدل والحرية بين الجميع وخاصة الوقوف إلى جانب الضعفاء وأصحاب الحقوق، حيث كشفت حرب غزة زيف هذا النظام العالمي وعرت التضليل الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية وجهازها الدعائي والانحياز المفضوح إلى الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل وانتصارها للإنسان الغربي في المقام الأول وكشفت الحرب خواء فكر الحداثة والأنوار القائمة عليهما…
منظومة التزييف العميق
لكن المقلق في الموضوع أن البشرية في راهنيتها قد انتقلت من عالم ظالم غير عادل ومن عولمة متنكرة للحريات والحقوق كلما تعلق الأمر بأبناء الجنوب وشعوب العالم الثالث إلى عالم جديد أكثر خطورة عالم يقوم على منظومة متحكمة ومسيطرة، ولكنها مزيفة وخادعة تقوم على ما توفره تقنية الذكاء الاصطناعي من إمكانيات للسيطرة والتوجيه والتحكم وما انتجه التحول التكنولوجي والرقمي الهائل من منظومات متطورة أخطرها منظومة ‘التزييف العميق’ وهو مفهوم ومصطلح يقصد به التقنية التي تجمع بين الخداع والتضليل والتزييف، وما يوفره الذكاء الاصطناعي من تقنيات كبيرة لصناعة وتكوين وإنتاج صورة أو مقطع من فيديو لشخصيات من شأنها أن تغير من ملامح الوجه أو الجسد أو فبركة أحداث بغاية صناعة واقع أو حدث أو خطاب مغاير مؤثر ويعكس حقيقة و واقع غير موجودين.
فبركة حقائق
الخطير في هذا الوافد الجديد فيما توفره هذه المنظومة العالمية التي تقوم على كل ما هو ذكاء اصطناعي بعد أن تحكمت الآلة في حياتنا وفرضت نفسها على البشرية وشاركت الإنسان في أدق تفاصيل حياته وبدأ هذا الأخير في الاستعانة بها وأخذت مكان العقل البشري وذكاء الانسان الطبيعي.. الخطير في تقنية التزييف العميق فيما يتحقق بفضلها من فبركة حقائق وتضليل الرأي العام والتحايل على الشعوب وتحويل اهتماماته و أنظاره نحو قضايا مقصودة ومدروسة…
ومن ثم القدرة على تشكيل وعي الشعوب وقيادتها ومن ثم الانتقال إلى عصر جديد سمته البارزة الكذب والتحايل والتضليل والخداع وصناعة الصورة والخبر والمعلومة وفرض الأفكار والمعرفة التي يريدها من يقود هذا النظام الرقمي الجديد…
الخطير في هذا التحول الذي يعرفه النظام العالمي الذي يقود البشرية وتتحكم فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين فيما يحصل له من عملية تجديد من الداخل ومن التجاوز الذاتي للضعف الذي اعتراه بعد أن تم اتهامه بالظلم وكونه لم يكن عادلا وأن منظماته وهياكله وقوانينه وقيّمه ومعرفته لم تكن منصفة للشعوب الأخرى..
واقع الذكاء الاصطناعي
الخطير أن التحكم اليوم لم يعد من خلال ما ينتجه العقل البشري الطبيعي وما يصنع في دوائر القرار العالمي وفي مراكز البحث والاستراتيجيات وما تخططه مراكز النفوذ المالي والاقتصادي والإعلامي والسياسي والعلمي من برامج لتوجيه الشعوب والتحكم في الدول وإنما أصبح اليوم قيادة العالم بواسطة منظومة الذكاء الاصطناعي وشبكات برمجياتها المتعددة ومن أخطرها تقنية
‘التزييف العميق’…
اليوم أصبحت حياتنا تدار في جزء كبير منها بفضل ما يوفره الذكاء الاصطناعي من إمكانيات لتيسير حياة الإنسان وتحقيق سعادته وربح الكثير من الوقت الذي كان في السابق يهدر من أجل الحصول على خدمة عادية واليوم وبفضل هذا الذكاء الاصطناعي أصبحت متوفرة في لمح البصر..
خطر داهم!
اليوم الذكاء الاصطناعي أضحى واقعا وليس حلما وأصبح كل العالم يعتمد عليه ولا يمكن أن نخطو خطوة إلى الوراء أو أن نعلن تخلينا على كل ما وصل إليه العقل البشري في صناعة هذا الذكاء الذي قد ينقلب على من صنعه وبالا وخطرا مهددا لحياة الانسان بعد أن تتحكم الآلة في نفسها وتصبح في غير حاجة إلى تدخل الانسان لتطويرها طالما وأنها قد أصبحت قادرة على تطوير نفسها بفضل ما وضعه فيها الإنسان من تقنيات عالية ومتطورة…
اليوم منظومة العولمة والنظام العالمي يجدد نفسه من خلال الذكاء الاصطناعي الذي صنعه العقل الغربي و انتجه الفكر والمعرفة الغربيين وكان وراءه نفس القوة التي تقود اليوم المنظومة العالمية المتحكمة…فماذا نحن فاعلون؟