عيسى البكوش يكتب: الصحافي والشّاعر الراحل عبد الحق شريّط (1945-2023) كما عرفته…


كتب: عيسى البكوش
لبّى أخيرا بباريس الصديق ورفيق دربي بالمدرسة الصادقية عبد الحق شريّط نداء ربّه فالتحق به، وهو المقيم في المهجر حيث اختار المقام بمدينة الأنوار منذ سبعينات القرن الماضي.
والفقيد لمن لم يدركه من الجيل الحديث هو من طينة المغامرين الذين أقدموا على بعث صحف أصبح لها شأن وتعدّ من العناوين البارزة في الذاكرة الوطنية على امتداد قرن ونصف أي منذ تأسيس أوّل جريدة ” الرائد التونسي ” في ستينات القرن التاسع عشر.
أسماء منقوشة
ويطيب لي أن أذكر في هذا المجال ثلّة من القامات التي ستظلّ أسماء منقوشة في متحف الصحافة التونسية الذي تأخّرنا في بعثه: الحبيب شيخ روحه، صالح الحاجّة، صلاح الدين العامري، محمد المازري بن يوسف، المنصف بن مراد، عمر صحابو، وبالطبع عبد الحق شريط مؤسس جريدة “بلادي” وما أدراك ما “بلادي” التي حقّقت إبّان أوجها أرقاما خيالية في انتشارها (أكثر من 120 ألف نسخة !)…
دفع ثمن النجاح…
ولكنّ الفقيد ـ مثل آخرين ـ دفع غاليا ضريبة النجاح، فتمّ توقيف الجريدة مرارا وحتى إن عادت فـ
بإدارة أخرى وتابعة إلى الحزب الحاكم.
وما كانت في البدء تابعة له إنّما هي الظروف التي فرضت على مؤسّس “بلادي” التعويل على مقدّرات الحزب الدستوري دون أن يُخضع له خطّ تحريره. ولكن ما ظنّ صاحبنا أنّ الرئيس بورقيبة – وهو القارئ الأكبر في هذا البلد – سيدلي بدلوه مثلما فعل مع الإذاعة – اقرؤوا كتاب ” المستمع الأكبر” الذي خصّه به الصديق عبد العزيز قاسم-.
فلقد ثارت ثائرة “المجاهد الأكبر” لما اقترفته الجريدة وما لم يكن يستحسنه، إذ أنها أبرزت – غداة زيارة السادات للقدس – في صفحتها الأولى ما اعتبرته خيانة الرئيس المصري ووضعته إلى جانب الوزير الأوّل بيغن وتتوسّطهما نجمة داود.
نفحات من الفكر القومي
هكذا هو الصديق عبد الحق، فمنذ صباه ـ وكنّا متلازمين في المدرسة الصادقية ـ يحمل بين أضلعه نفحات من الفكر القومي وربّما يعود ذلك إلى بيته وأسرته فهو سليل عائلة من المثقفين خرّيجي الزيتونة قدموا من توزر فاستقرّ بعضهم بالحاضرة.
ولعلّ انتماءه إلى موطن الشابي وارتواءه من رحيق أشعاره جعله هو أيضا يقرض الشعر، ولا أدري إن هو جمع أشعاره أو أنّ أحدا من المهتمّين بالمدوّنة التونسيّة فعل ذلك وإلاّ فإنّه من المستوجب أن تولي وزارة الشؤون الثقافيّة هذا العلم ما يستحقّه من التقدير -كشاعر الغلبة- على غرار فنّان الغلبة – بحسب مقولة علي الدوعاجي- ولو بعد فوات الأوان.
متيّم بالشعر الجاهلي
لقد كانت المنافسة على أشدّها بيننا وأترابنا في فصل العربيّة ـ على غرار يوسف الصدّيق والهادي الڤريوي والمنصف المرزوقي ـ في مادة الإنشاء، غير أنّ الفقيد كان يفوق الجميع في مادّة العروض وليس ذلك بغريب على الفتى الذي كان متيّما بعيون الشعر الجاهلي والذي كان يتفنّن في إلقاء نماذج منه بصوته الجهوري وهو ما حثّه على الالتحاق بالإذاعة. ولقد كنت اصطحبته إلى حصّة الاستماع التي كان يؤثثها الشاعر الجزائري لخضر السايحي ولقد نال استحسانه فانتمى لتوّه إلى نشرة الأخبار كقارئ للنشرات وهو لم يبلغ بعد السابعة عشرة من عمره.
طار إلى باريس
كما أنّه كان مكلفا بتغطية الأنشطة الرئاسيّة ممّا مكّنه من التعرّف عن كثب على المجتمع السياسي في أواخر ستينات القرن الماضي، ثمّ تحوّل بعد ذلك إلى باريس لمواصلة دراساته العليا في السوربون في شعبة العربيّة، غير أنّ افتتانه بالصحافة جعله ينقطع إلى مهنة المتاعب فكانت “بلادي” وكان ما كان.
لقد تعدّدت لقاءاتنا بالخصوص في باريس وكان آخرها منذ سنوات في دار التونسيين –بوتزاريس- حين تفرّغ لخدمة الجالية وهو الذي كان محلّ تقدير من الجميع. ولقد حظي باحترام كلّ الذين تداولوا على سفارتنا في فرنسا وبالأخصّ من طرف المنعّم الهادي المبروك.
رحم الله الفقيد العزيز وأسكنه فردوس الجنان ورزقنا وذويه جميل الصبر والسلوان.