فنون

هل تتذكرون الفنان الجميل عز الدين ايدير..ليس مجرد فنان، بل هو ذاكرة حيّة…

كتب: عزالدين الباجي

من عبق التاريخ، ومن حضرة الإبداع، ومن زمن جميل كان يتقد رقيًّا وذوقًا رفيعًا، كانت لي هذا الصباح مكالمة هاتفية طويلة، امتدت لأكثر من ساعة، مع قامة من قامات الأغنية التونسية وموهبة فذّة نحتت لنفسها لونًا خاصًا لا يشبه أحدًا.

حديث من القلب إلى القلب مع عميد المطربين التونسيين، المطرب والملحن القدير عز الدين إيدير، الذي احتفل مؤخرًا بعيد ميلاده الواحد والتسعين، ما شاء الله، في صحة ذهنية متّقدة وذاكرة صلبة كأنها سُكبت من نحاسٍ لا يصدأ.
اعتدت أن اتصل به بين الحين والآخر، لا لشيء إلا لأطمئن عليه، ولأستنشق شيئًا من هواء ذلك الزمن الذي كان فيه الفن رسالة، والكلمة نبضًا، واللحن مرفأ.

ذاكرة عامرة

في كل مكالمة، أجدني أستفز ذاكرته العامرة، تلك التي لم تخنها السنون، فيعيدني معه من خلالها إلى عوالم من الزمن الجميل: بعضها كنت شاهدًا عليه، وكنت حينها شابًا زميلًا له في فرقة الإذاعة، أتشرب من حضوره ونُبله وحرفيته؛ وبعضها الآخر لم أعشه إلا من خلاله، يرويه لي كما لو كان يعيد بعثه، بأدقّ تفاصيله، بأصواته، وملامحه، وسياقاته الفنية والاجتماعية.

أرشيف ناطق

ليس عز الدين إيدير مجرد فنان، بل هو ذاكرة حيّة، وأرشيف ناطق لتاريخ الأغنية التونسية. صوته ما زال يحمل رنّة الوفاء، وذاكرته تسعفك بما يعجز عنه أرشيف الإذاعات. يروي الحكايات كما تُروى الأساطير: فيها متّسع للحقيقة، وللحلم، وللنقد، وللحب الكبير الذي يكنّه للفن وأهله، حتى أولئك الذين غيّبهم النسيان.

لا يتحسّر، بل يسرد

في حديثه، تستعيد الأغنية التونسية نبرتها الأصيلة، وتسترجع الساحة الفنية ملامحها قبل أن تطالها التشوّهات. هو لا يتحسّر، بل يسرد. لا يتوقف عند المجد، بل يتجاوزه نحو ما كان ممكنًا لو استمر الإبداع في مساره الطبيعي، بعيدًا عن منطق السوق والعرض السريع.
وقد كان لي شرف تكريمه ضمن البرنامج الوطني موسم الموسيقى التونسية سنة 2019 كرمز من رموز الأغنية.
أنهيت المكالمة وأنا ممتنّ لهذه الهدية الصباحية، هدية لا تشبه غيرها: صوت من الزمن الجميل يزورك فجأة، ويترك فيك أثرًا لا يزول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى