هادي دانيال يكتب: ترامب يواصل بأسلوبه استراتيجية أسلافه بنهب ثروات شعوب المنطقة

كتب: هادي دانيال
يُشاعُ منذ تمكين دونالد ترامب مِن دخول البيت الأبيض للمرّة الثانية أنّ “ترامْب” سَيُوقِفُ تدخُّلَ واشنطن بالشؤون الداخليّة للدول الأخرى عبْر العالم. و”لِتَعزيزِ” هذا الذي يُشاع جاءت تصريحات “جي دي فانس” نائب الرئيس الأمريكي “ترامْب” بأنه تبيّن لإدارته أنّ “بناء الديمقراطيات في الشرق الأوسط أمْرٌ شبْه مستحيل وباهِظُ التكلفة بشكل لا يُصَدَّق، فتريليون دولار أنفَقَتْها الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط لم تُحقق الديمقراطية بل ضاعفت الفوضى”.
وأقرَّ “جي دي فانس” أنّ توجُّه السياسة الخارجية لبلاده على مدى عَقْدٍ مِن الزمان كان يقوم على “مُقايضة الدفاع وصيانة التحالفات من أجل بناء الأمم والتدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الأجنبية”. وزَعَمَ أنّ حصولَ رئيسه “دونالد ترامْب” على “استثمارات وتريليونات الدولارات” بجولته الأخيرة في ثلاث دول خليجية “مُؤشِّرٌ على نهاية” توجُّهِ السياسة الخارجية الأمريكية المذكور أنفاً (؟!).
ترهيبِ وترغيبِ
واقِعُ الأمْر أنّ هذه التصريحات الديماغوجيّة تُفْصِحُ عن حقيقةٍ واحدةٍ هي أنّ الإدارات السابقة صَرَفَتْ على سياسة واشنطن الخارجية تريليون دولار ومئات القتلى وأضْعافَهُم من المصابين جسديّاً ونفسيّاً في صفوف الجيش الأمريكي والسمْعة السيّئة في سجْنَيِّ أبي غريب وغوانتانامو وغيرهما مُقابل تدمير دُوَل ومجتمعات وقتْل الملايين في أفغانستان والعراق وليبيا، وفي فلسطين وسوريا المحتلتين وغيرهما، لكنّ “ترامْب” حَصَدَ نتائج ذلك بترهيبِ وترغيبِ الدوَل التي مَوّلت الكثيرَ مِن الحروبِ الأمريكيّة وإجبارها على دفْع تريليونات الدولارات مقابل استقرار أنظمة الحكْم فيها، بعد أن هدّدها مراراً بأنّها ستفقد عروشَها خلال أسابيع إذا لم تدفَعْ ما يطلبه مقابل حماية تلك العروش.
أكذوبة أمريكية
أمّا الزعم بأنّ توجُّهَ السياسة الخارجية الأمريكية الحالي قَطَعَ مع التدخُّل في السياسات الداخلية للدول الأجنبية فهو محْض أكذوبة أمريكية فنّدها دورُ المخابرات الأمريكية) في عهد دونالد ترامْب الثاني (بالتعاون مع المخابرات التركية والمخابرات الإسرائيلية في إطاحة نظام الرئيس بشار الأسد وتسليم دفة الحكم في دمشق لِمطلوبٍ بتهمة الإرهاب مِن واشنطن التي سبق أن رصدت مبلغا قدره عشرة ملايين دولار لمن يُقدِّم معلومات تفضي إلى القبض عليه، ثمّ قايضتْه بأن تعلّق بَعْض العقوبات المفروضة أمريكياً على الدولة السورية مقابل شروط أبرزها استجابة “الجولاني” لجميع إملاءات تل أبيب، وطرْد الفصائل الفلسطينية من الأراضي السورية، علْماً أنّ “ترامْب” كان في دخوله الأوّل إلى البيت الأبيض قد نقل سفارة بلاده إلى القدس وأعلنها عاصمةً مُوَحَّدَةً لـ »دولة إسرائيل اليهودية” كما اعترف بضم “الجولان” السوري المحتل إلى الأخيرة، بل أكثر مِن ذلك يضغط حاليّاً على ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” للإسراع في انضمام المملكة إلى “الاتفاقيات الإبراهامية” المشؤومة، ناهيك عن إعلانه مراراً العزْمَ على الاستيلاء على قطاع غزة المنكوب وتهجير ما تبقى مِن سكّانه الأصليين إلى خارج فلسطين المحتلة طَمَعاً بما يكتنزه القطاع من ثروات نفطيّة وغازيّة وتحويل شاطئه إلى “ريفيرا” ترامْبيّة!… هذا كله لا يعدّهُ “ترامب” ونائبه تدخلاً في الشؤون الداخلية لشؤون المنطقة؟.
تدمير وإبادة
إنّ إجمالي تكلفة تدمير قطاع غزة وإبادة أهلنا الفلسطينيين فيه كلفت العدو الإسرائيلي 55 مليار دولار، أي 10% من الاقتصاد الإسرائيلي، وهذا المبلغ يعادل 1.3% مما عاد به “ترامب” من زيارته الأخيرة إلى الخليج. وحسب تقارير حديثة، فإنّ إدارة “ترامب” أرسلت إلى “تل أبيب” من غنائم “غزوته السلميّة” إلى الخليج 200 مليار دولار، أي أربعة أضعاف كلفة إبادة غزة.
وهذا يؤكّد حقيقة أنّ ما تعمّدت الإدارة الأمريكيّة إشاعته عن قطيعة مزعومة بين “نتنياهو” و”ترامْب” عشيّة زيارة الأخير إلى الخليج وإبّانها كان في سياقِ تقديم “ترْضيات” زائفة ومُخادِعة للرأي العام الخليجي، وبدل أن يُقدّم لوليّ العهد السعودي ترْضية فعلية كأنْ يُعلِنَ “ترامْب” من الرياض اعتراف الولايات المتحدة الأمريكيّة بالدولة الفلسطينية فيسهّل بذلك على المملكة الالتحاق بالاتفاقيات الإبراهامية شمل ترامب وليّ العهد السعودي بجائزة ترضية مَلغومة يتقاسمها مع الرئيس التركي وآخرين في المنطقة، على حدّ قول ترامب نَفْسِه، تمثَّلت بقبُول مصافحة “أبي محمد الجولاني” بصفته حاكم أمْر واقع لدمشق وإعلان عزْمه تعليق العقوبات المفروضة على سورية.
إهانات متواصلة
على الرغم مِن ضُعْفِ الذاكرة الجمْعيّة العرَبيّة عندما يتعلّق الأمْر بما تلقَّيناه ونتلقّاه من إهاناتٍ على أيدي تل أبيب وواشنطن وبقية العواصم الغرْبيّة، بينما تنشطُ فينا ذاكرةُ الجِّمال إذا تعلّق الأمْر بخِلافاتِنا العرَبيّة البَيْنيّة، فإنني أفترِضُ أنّه لا زال مُبكِّراً أن نتناسى تصريحات ترامْب بأنّه يتعمّد مدْحَ بعض زُعماء المنطقة فيُرضي بذلك غرورَهم ويَحصل مُقابل ذلك على ما يطلبه منهم مِن مالٍ وتواطُؤ ضدّ مصالح وقضايا شُعُوبِهِم، وهذا ما يُفسّر إطلاق المدائح التي كان يبذلها في اللقاءات المفتوحة على مُضيفيه بينما يُضمِر نقيض ما يُظهِره. لقد عَدّ طُرُقَ استقباله مِن حكّام الخليجِ في زيارته الأخيرة إلى بلدانهِم “أسوأ ترتيب” رآه” على الإطلاق. وأشار إلى “تَعالِيهِم” عليه “بما يُسَمّى القصور الفاخرة” وقال “لقد استقبلوني بنافورة من الذهب عيار 24 قيراط. إنه أمْرٌ مُثيرٌ للسخرية”، مذكِّراً بأنّ “برج ترامْب في نيويورك أكثر روعة من قصورهم”، وبأنه كان لديه “صنابير من الذهب الخالص في مارلاغو بفلوريدا لمدة عشر سنوات”.
هل فهمَ ترامب أنّ حكام الخليج أرادوا أن يَتنافجوا عليه بأنّ رأسمالهم هو القصور والذهب وليس تريليونات الدولارات الأمريكية؟. وَعَدّ تصريح “محمد بن سلمان” بأنّ منْح ترامب مليارات الدولارات “ساهمت في توفير 2 مليون وظيفة للعاطلين في الولايات المتحدة وهي تعني تأمين أرزاق البشر وهو عند الله عمل عظيم”، هل فهم “ترامب” مِن هذا التصريح أنّ تلك المليارات صَدقَةٌ من الأمير إلى الأميركيين المساكين، لوجه الله، وليس إرضاء لترامب، ولذا علّق الأخير: “مهاراتهم في التفاوُض أكثر مِن كارثيّة. لقد اعتقدوا في الواقع أنَّهم يستطيعون إجباري على الاستسلام ببضْعةِ وجبات عشاء بأطباقٍ ذَهَبِيّة. لقد كنتُ في عالَمِ الأعمال لمدّةِ خمسين سنة، ولا أحد يُمْكِنه الاستفادة مِن الرئيس ترامْب. أخبرْتُهُم مباشرة إمّا أن يتّبعوا قواعدي أو أن لا يُضيعوا وقتي. وماذا حدث؟، لقد أطاعوا وَوَقَّعوا على الاتفاقية مُذعِنين لأنّه لا أحد يَعرِف التفاوضَ أفضلَ مِنِّي”.
لم يَكْتفِ “ترامب” بذلك بل نَعَتَ سلوك مضيفيه و “التقاطَهُم مئات الصُّوَر” بالسخافة، مُحذّراً مِن أنّه لا يمكن لأيٍّ مِن تلك الصوَر أن “تُظهِرَ سلوكي الرئاسي في المرة القادمة التي أذهب فيها إلى هناك”، مُهدّداً بأنه لن يفكر بالزيارة مُجَدَّداً إلّا “إذا قاموا بتزيين البلد بأكمله بأسلوب ترامب”.
نهب على طريقة ترامب!
لا شكّ بأنّ الرئيس الأمريكي يواصل طريقته بنهب ثروات بلدانٍ، على الرغم من قصور أُمَرائها وذَهَبِهم، يئنُّ مواطنٌ واحدٌ مقابل كلّ سبعة مِن مواطنيها تحت وطأة الفقر، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية، حسب تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرْبيّ آسيا “الإسكوا” بشهر ماي 2023.
وعندما يُصرّح ترامْب بعدَم رِضاه عن جِبايَتِه الأخيرة، فإنّه يطلب منهم مُسبَقاً أن يستعدّوا لدفْعِ مبلغ أكبر بكثير في زيارته القادمة التي وَحْدَهم يعلمون تداعيات عدم حُصولِها وفْقَ شروطه وفي المناخات والترتيبات التي تتناغم مع “أسلوب ترامْب”.
أخيراً، أهدافُ “الغزوات السلمية” التي يشغل بها “ترامب” المنطقة هي ذاتها أهدافُ الحروب التي شنّها أسلافه، وبالتالي هي أهدافُ الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية بحكوماتها الديمقراطية والجمهورية، والتي سبق لجورج بوش الابن أن اختصرها إبّان غزو العراق بثلاثة أهداف: النفط والغاز، حماية نمط حياة المواطن الأمريكي، حماية أمْن إسرائيل الاستراتيجي. وقد يضيف “ترامْب” إليها “الذهب” و”المعادن النادرة”.