صالون الصريح

هادي دانيال يكتب: التدخلات الأمريكية في الشؤون الداخلية للدول المستقلة ‘شرٌّ مُطْلَق’

adanille
كتب: هادي دانيال

الجمع البشري الذي لا يفكّر لا يمكن أن يكون شَعبا من المواطنين بل يبقى كما أراده “أسياد الخارج وأتباعهم في الداخل” قطعاناً من الرعايا. والشعب الذي لا يتذكّر يُلدَغُ من الجحْر ذاته مراراً ولا يُراكِم خبراته وبالتالي لا يفيد من تجاربه والتراجيديّة منها خاصة.

الثوابت الوطنية

وحريّة التفكير نختبرها بحريّة التعبير ولكن في أفق وطنيّ ديمقراطيّ، أي أنّ القوى الحيّة التي تُفكّر بحرّية وتُعبّر بحريّة يجب أن لا تخرج عن الثوابت الوطنية: وأولها صيانة الدولة الوطنية المستقلة ذات السيادة على ثرواتها الوطنية فوق التراب الوطني وتحته، وذات القرارات السياسية الداخلية والخارجية المستقلة النابعة أساساً من المصالح الوطنية للشعب والدولة.

في هذا الإطار يجب على الدولة الوطنية أن تضمن حرية التفكير وحرية التعبير وتحتفظ لنفسها بمسؤولية التدبير، تدبير شؤون الوطن والمواطن، أ كانت السلطات في هذه الدولة منتخبة أم “ثورية”. وفي الوقت نفسه لا بدّ أن نستدرك بالقول إنّ “الوطنيين” أفرادا وجماعات ليسوا أولئكَ الذين يعلنون ويمارسون ولاء مطلَقاً للسلطات أيّاً كانت، بدون تحقيق وتدقيق، أي ولاء أعمى بلا تحفظ، بل إنّ الوطنيين هم الذين يُعلنون ولاءهم للوطن، لاستقلاله وسيادته.

في مفهوم ‘تفرّد الدولة’

وبالتالي فإنّ الوطني الذي تضمن له الدولة حرية مسؤولة في التفكير وفي التعبير، يجب أن يلتزم بقانونية تفرد الدولة بالتدبير المسؤول، على أن لا يجاوز دوره مراقبتها ونقدها في إطار القانون، إن رأى أنها قصرت في حماية استقلال الوطن وسيادته أو في تدبير شؤون البلاد والمواطنين أو مسّت حقوقهم الأساسية في الحياة الكريمة، وحتى إن استعصت العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدولة الوطنية فإنّ الخروج على الحاكم يجب أن لا يبيح البلاد للأجنبي ولمصالحه. ومهما تعقدت الظروف لا يحق لأي كان غير الدولة أن يرسم سياستها الداخلية والخارجية ولا أن يتلقى دعما ماليا أو لوجستيا للقيام بشأن عام نيابة عن الدولة، فـ نشاط المجتمع الأهلي في الدولة الوطنية يكون تحت إشراف الدولة ومكملا للواجبات التي تتطلب استعانة من المجتمع الأهلي، ومن واجبات القوى السياسية كافة في الحكم والمعارضة أن تورث الدولة للأجيال القادمة واحدة مُوَحّدة مجتمعيّا وجغراسياسياً.

أمْرَكَة العالم

ولكن منذ قررت الولايات المتحدة الأمريكية أمْرَكَة العالم، تحت شعار العولمة، بغيَة هيمنتها على ثروات الشعوب كافة ونهْبها من خلال ربطها بالمصالح الاقتصادية الإمبريالية الأمريكية (بما في ذلك الاقتصاد الأوربي)، سارعت بأشكال محمومة إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة كبيرها وصغيرها عبْر العالم. إذْ تحت شعار “انهيار الأيديولوجيا” بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية لم تتخلص فقط من “العدو الشيوعي” بل حَوّلت الكثير من “الشيوعيين” أفرادا وأحزابا إلى خدمة أجندتها تحت شعار “تصدير الديمقراطية”.

الإسلام بعد الشيوعية!

ثمّ أعلنت عن عدوّ بديل هو “الإسلام” كي تواصل حروبها لتنشيط صناعاتها الحربية وفي الوقت نفسه فرْض سياساتها الخارجية بالقوة، فافتعلت أحداث “11 سبتمبر 2001” في نيويورك، (حتى الآن لم تصدر نتائج التحقيق في تلك الأحداث؟!) لإيجاد ذريعة تنطلق منها واشنطن، ذريعة تبدأ بشيطنة الإسلام وتنتهي بإعادة صياغته وتفصيله وفق مقاسات مصالحها، ولذا علينا أن نصدّق الجنرال الأمريكي “ويسلي كلارك”( قائد قوات حلف الناتو في آسيا وأوربا) عندما قال: “مَن يظنّ أنّنا خرجنا إلى أفغانستان انتقاماً لأحداث 11سبتمبر(أيلول2011) فليُصحّح خطأه، بل خرجنا لقضيّة أخطر هي الإسلام، ولا نريد أن يبقى الإسلام مشروعاً حرّاً يقرر فيه المسلمون ما هو الإسلام بل نحن نقرر لهم ما هو الإسلام”.

وعند الانتقال إلى شيطنة “الدولة الوطنية” بِنَعْتِ أنظمتها بالديكتاتورية تقرر واشنطن تصدير الديمقراطية إلى كل “دولة وطنية” في منطقتنا بدءا بالعراق عبْر حصاره والحرب عليه وتدميره فاحتلاله، وبعده انطلقوا إلى دول أخرى مُتوسِّلين مؤامرة “الربيع العربي” و”ثوراتها الخلاقة”، فرأينا كيف اصطف “الإسلاميون الذين تخلوا واقعيا عن شعار إقامة دولة الخلافة” و “الشيوعيون الذين تخلوا واقعيا عن إقامة ديكتاتورية البروليتاريا” إلى دعاة “الانتقال الديمقراطي” برعاية السفارات الأمريكية، بعد أن شارك الحزب الشيوعي العراقي (حميد مجيد موسى) وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني(جلال الطالباني) غبّ احتلال العراق في المسمى “مجلس الحكم العراقي” تحت حكم “بول بريمر” ..وكان أن بدأت “ثورات الفوضى الخلاقة” من تونس. وفي سورية تحوّل “الحزب الشيوعي – المكتب السياسي” بقيادة “رياض الترك” إلى حزب ليبرالي، وانخرط مع “الإخوان المسلمين” السوريين في المسمى “المجلس الوطني السوري” الذي أُعْلِنَ عنه في اسطنبول برعاية أمريكية-تركية وبرئاسة “برهان غليون” صاحب كتاب “بيان من أجل الديمقراطية”، أما” حزب الاتحاد الديمقراطيPYD” الكردي السوري اليساري فقد سوّغ لنفسه استقدام القوات الأمريكية إلى الأراضي السورية التي يسيطر عليها متذرعا بأنها ساعدته في الحرب على “داعش” التي صنعتها واشنطن ودفعت بها إلى الأراضي العراقية والسورية لتبرر تدخلها في شأن هاتين الدولتين وإبقائهما غير مستقرتين إلى أن تُحِكم سيطرتها تماما على مصائرهما، ثم زعم الـ”PYD”( الماركسي-اللينيني؟!) الذي ربط مصيره بمصير القواعد الأمريكية أنه يفعل ما فعلته الحكومة السورية باستدعاء القوات الروسية لمساندة جيشه الذي يواجه على ترابه الوطني تدخلات إرهابية وعسكرية من 88دولة أجنبية. أي أنّ هذا الحزب اليساري “توضّأ بالنجاسة نكاية بالطهارة” كما يقول المثل الشعبي.

جمعيات ‘دعم الديمقراطية’

إبان إطاحة “ثورات الربيع العربي” بأنظمة لدول الوطنية المُستهدَفة تمّ استبدال المجتمع الأهلي وجمعياته الوطنية في مصر وليبيا وتونس والأراضي السورية التي لا تسيطر عليها الدولة بما يسمى المجتمع المدني ومنظماته غير الحكومية التي تتلقى الأموال من الخارج، (حسب محافظ البنك المركزي التونسي بلغ تمويل هذه الجمعيات غير الحكومية في تونس “خلال السنوات القليلة الماضية 260مليون دينار تونسي، إلى جانب مبالغ مالية أخرى حصل عليها عدد من الأشخاص مباشرة دون أن يكونوا منتمين لأي جمعية تحت عناوين متعددة باسم دعم الديمقراطية …”)، ويعوّل الممولون الخارجيون والأمريكيون خاصة على نشاط هذه المنظمات لإبقاء قاطرة دول “الربيع العربي” غير مستقرة إلى أن ترفع الراية البيضاء نهائيا لإرادة الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها.

المال الفاسد والدعم الأجنبي

لقد جعلت الإدارة الأمريكية من إمكانية الوصول بسهولة إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية عبْر المال الفاسد والدعم الأجنبي سرابا يلهث وراءه مَا هبّ ودبّ مِن الطامعين الواهمين، والأجندة الأمريكية وغيرها من الأجندات الغربية، المُؤازِرة موضوعياً للأجندة الأمريكية، ليست واهمة بإيصال هؤلاء إلى ما يسعون إليه لكنها توظّف عزمهم على الوصول إلى رغباتهم بأي ثمن لتحقيق هدفها الشرير من التشويش على الانتخابات الرئاسية في تونس ألا وهو على الأقل دفع هذه الانتخابات لتستقر في “دهليز جهنم” لا سمح اللهُ والشعبُ التونسي الشقيق.

إنّ مَن راقب جيداً الثلاث عشرة سنة الأخيرة لم يفته أن يلاحظ أنّه باستثناء زعيمة المعارضة الوطنية الأستاذة “عبير موسي” التي كانت تتصدى بقوّة ونجاعة في البرلمان و”النقاط التنويرية” لجميع التدخلات الخارجية في الشأن التونسي وعلى رأسها التدخلات الأمريكية، فإنّ جُلّ الذين يحاولون شيطنة الانتخابات الرئاسية الوشيكة هم من أولئك الذين ما فتئوا يستقوون بالخارج على الرغم من أن سيطرتهم على السلطة أو مشاركتهم بها طيلة عشر سنوات في الأقل لم تجعلهم يتقدموا بالبلاد سنتيمترا واحدا إلى الأمام بل كانوا ينخرون الأسس التي نهضت عليها الدولة والمجتمع التونسيان منذ الاستقلال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى